التفكير النقدي مفتاح الإزدهار
لقد استورد العرب شكليات التعليم وتوهموا أنهم بذلك قد أخذوا أهم مقومات ازدهار الغرب ونسوا أن العلوم وغيرها من مظاهر تطور الغرب هي نتاجٌ لآليات النقد والمراجعة ولولا هذه الآليات لما استطاع الغرب بأن يفلت من قبضة الدوران الحضاري الذي أمسك بحركة التاريخ قروناً طويلة فالغرب بهذه الآليات الرائعة التي ابتكرها اليونانيون وطوَّرها الأوربيون تمكَّن من اكتشاف خطورة المألوف إذا هو لم يخضع للمراجعة والتحليل فأخضعه للدراسة والبحث والتحليل والتصحيح وبذلك أفْلَتَ من قبضة المألوف وحلَّق في آفاق لم تعرفها الإنسانية منذ وجودها على هذه هذه الأرض حيث ظلت تدور مع نفس المسارات آلاف السنين حتى طرأتْ هذه الآليات على الفكر البشري وأخرجته من خطوط الدوران الأفقي إلى الآفاق المفتوحة و الصعود المستمر ...
ولأن العرب والمسلمين تجاهلوا هذه الآليات التي انتجتْ إزدهار الغرب فإنهم قد اكتفوا باستيراد المنجزات فقط كالعلوم والتقنيات ولم يتساءلوا أبداً كيف استطاع الغرب أن يحقق هذه الإنجازات العظيمة المدهشة في كافة المجالات فبقوا متخلفين ومحرومين من سر التقدم فاكتفاؤ المسلمين بالاستيراد وعدم تساؤلهم عن الفاعل الأكبر الذي أنتج هذه القدرة المذهلة على الإختراع والخلق والإكتشاف والمغامرة والإبداع والإبتكار هو السبب الرئيسي في استمرار عجزهم ...
إن هذا التجاهل للعامل الأكبر من قبل العالم الإسلامي جعله عاجزاً عن المشاركة الفاعلة في حضارة العصر بل إنه في تفكيره وسلوكه وممارساته ومسؤسساته يعمل على النقيض من هذه الآليات تماماً حتى أصبحنا نشازاً على العالم المتحضِّر ولم نستفد من معطيات العصر الهائلة إلا على سبيل الاستهلاك فلم يحاول العالم العربي والإسلامي إصلاح نظامه المعرفي ولا طريقة تفكيره ولا مراجعة منظومة قيمه ولا تعديل أسلوب حياته بل هو لايشعر بأية حاجة إلى هذا الإصلاح فهو عاشقٌ لذاته الدميمة ومغرمٌ بثقافته المغلقة فهو لايعيش فقط حالة تخلف مخزية وإنما هو مغتبطٌ بما هو عليه يعيش جهالة مركَّبة فهو لايعترف بأسباب تخلُّفه مع أن هذا الاعتراف هو الشرط المبدئي للخروج من نفق العجز والهوان والهامشية لذلك فإن كل جهود تلميع السائد لا يمكن أن تؤتي ثماراً حقيقية تتغير بـها الأوضاع وتتحسن بـها الأحوال وتنمو بـها المعارف وتتراجع بـها الأخطاء ويتقلص بـها ركام السلبيات وتـزاح بـها العوائق وتقوَّض بـها حصون التخلف فعلينا أن نطرح على أنفسنا مجموعة من الأسئلة المحورية مثل :
لماذا استمرت الحضارة الإنسانية آلاف السنين تدور في مكانـها ثم فجأة تتطور هذه التطورات المتلاحقة المدهشة...؟؟
ما هي العوامل التي أبقت الحضارة الإنسانية لا تتحرك إلا ضمن مسارات ثابتة لا تخرج عنها وتحت سقف واحد لا تتجاوزه ثم فجأة تصعد هذا الصعود الهائل الذي ما كان يخطر على بال الأقدمين...؟؟
كيف استطاعت أوربا أن تخترق المألوف وأن تفاجئ العالم بتطوراتها المذهلة ..؟؟
كيف أننا نحن العرب والمسلمين أمضينا أكثر من قرنين منذ أن فاجأنا الغرب بتقدُّمه ومع ذلك لم نستطع حتى أن نقلده بينما هو أَفْلَتَ ابتداء من قبضة الدوران الحضاري...؟؟ كيف أننا نقلنا عن الغرب علومه وتقنياته ونظمه ومع ذلك لم يستطع هذا النقل الشكلي أن يغيَّر شيئاً من طريقة تفكيرنا ولا من أنماط سلوكنا ولا من أساليب تعاملنا ولا من رؤيتنا للحياة والأحياء...؟؟
أما كيف استمرت الحضارة الإنسانية تدور في مكانـها آلاف السنين فإن تاريخ الحضارة وواقع المجتمعات وتاريخ الأفكار والعلوم والفنون والتقنيات كلها تكشف عن حقيقة أن كل شيء في هذه الدنيا محكومٌ بقانون القصور الذاتي فيبقى كما هو ما لم يحركه ويغذيه شيء من خارجه فالثقافات كيانات أبدية تظل تتحرك مع المسارات الموروثة فتدور حول نفسها وتتغذى من ذاتـها ولا تحقق أي تطور إلا إذا حصلت على تغذية من خارجها باكتشاف آليات لتجديد الأفكار والوسائل والممارسات وتحريك الأوضاع والمؤسسات...
يؤكد ذلك أن الإنسانية بقيت آلاف السنين وهي لا تتطور إلا ببطء شديد وكان التطور لا يأخذ مساراً صاعداً وإنما كل تقدم كان يعقبه تقهقر ثم فجأة صارت الحضارة تتقدم بسرعة مدهشة ولم تعد تعرف التراجع أبداً بل أصبحت تحقق في بضع سنوات ما كانت تمر القرون دون أن يتحقق ولكن اقتصر هذا الإزدهار المفاجئ على الغرب ثم لحقت به مجتمعات أخرى استعارت منه مفاتيح الإزدهار وهي آليات النقد والمراجعة والتحليل الموضوعي فراحت تزاحمه على آفاق التطور ...
لقد اهتدى اليونانيون في القرن السادس والخامس قبل الميلاد إلى المفتاح الذي أدى فيما بعد إلى هذه التطورات النوعية في الحضارة الإنسانية ففي ذلك التاريخ الموغل في القدم اكتشف اليونانيون سطوة المألوف واكتشفوا أن تقديس السائد في كل العصور وعند كل الأمم هو الذي عطَّل العقل البشري وحال بينه وبين التقدم...
لقد اكتشف فلاسفة اليونان منذ أيام طاليس في نـهاية القرن السابع قبل الميلاد بأن بإمكان الإنسان أن ينتج المعرفة وأن يتحقق منها وأن يواصل إنتاجها إلا مالا نـهاية بدلاً من ترديد الموروث وتتابع الفلاسفة بعد طاليس يحاولون اكتشاف الوحدة الجامعة في الكون فحرصوا على فهم الوجود وتفسيره ولكن وسائل الكشف والإختبار لم تكن متاحة في ذلك الوقت بالقدر الكافي...
وفي القرن الخامس قبل الميلاد ظهر الفلاسفة المتجولون المعروفون باسم ( الفسطائيين ) فصبُّوا لاذع نقدهم على الثقافات الموروثة وعلى العقل البشري وأكدوا استحالة معرفة الحقائق وأشاعوا فكرة أن الإنسان هو مقياس الأشياء فكل فرد عليه أن يرضى بما يتوصل إليه حتى لو خالفه كل الناس فما من سبيل إلى اليقين لأن التغيُّر في نظرهم هو الأصل وليس بمقدور الإنسان أن يُمسك بالحقائق في خضم التغيرات التي لا تكف عن السيلان...
وأمام موجة الشك العارمة التي أشاعها السفسطائيون برز سقراط ليعيد الإعتبار إلى الحقائق لكن مع التأكيد على ضرورة مراجعة السائد ونقده وتحليله وإخضاعه للفحص الدقيق وإبقاء الأضواء الكاشفة مسلَّطة عليه دون توقف حتى لا يعود الجمود فانتظام السائد وَتَوقُّف النمو هو الأصل ما لم يواجَه بالنقد الدائم والمراجعة المستمرة...
وعند بلوغ الفكر الفلسفي ذروته في اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد اشتعلت الحرب بين أهل الفكر الديموقراطي الحر وتقودهم أثينا وأهل الفكر المحافظ وتقودهم اسبارطة وانتهت تلك الحرب الطويلة بإنهاك الطرفين وهزيمة أثينا مما سهَّل لملك مقدونيا فيليب احتلال اليونان فَعَهَد بتربية إبنه الاسكندر إلى الفيلسوف الشهير افلاطون الذي جعل منه فيلسوفا وملكاً فَحَلُم هذا الملك الفيلسوف بتوحيد العالم على الفكر الفلسفي وتحت راية العقل لكنه مات مبكراً وهو في الثانية والثلاثين من العمر بعد أن حقَّق انتصارات مازالت من عجائب الفتوحات الإنسانية وجعلتْ منه القائد الأشهر في التاريخ البشري كله ...
وبموته توَّقفَتْ فكرةُ توحيد العالم تحت راية العقل واقتسم البلاد التي فَتَحَها الاسكندر قادةُ جيشه وكان البطالمة بمصر هم الأكثر اهتماماً بالفكر الفلسفي فأنشأوا مكتبة الأسكندرية الشهيرة ونشأت فيها المدرسة الفلسفية المعروفة باسمها وهي التي أسهمت في حفظ التراث الفلسفي اليوناني ثم ورث الرومان التراث اليوناني واهتموا بشكل خاص بتطوير الفكر القانوني فانجزوا في هذا المجال إنجازات مهمة أسهمتْ في تكوين الحضارة الأوربية وقد حقق القائد الروماني يوليوس قيصر توطين هذا المزيج من الحضارة اليونانية والحضارة الرومانية في غرب أوربا حين فَتَح البلاد التي كانت تُعرف باسم بلاد الغال وهي فرنسا حالياً وماحولها وبذلك يُعَدُّ هذا القائد الروماني أحد مؤسسي الحضارة الغربية مما جعله واحداً من ابرز قادة العالم ومن أكثرهم تأثيراً على مسيرة الحضارة الإنسانية ...
وفي القرن الثالث الميلادي اعتنق الامبراطور الروماني المسيحية فجرى إخضاع الدين للسياسة وهيمنت السياسة على الثقافة وبذلك يَسْهُلْ تطويع الناس فأُبطلتْ آلية المراجعة والتصحيح وأُغلق باب الاجتهاد وحُرِّمت التعددية الفكرية وبذلك دخلتْ الحضارة الأوربية في فترة السُّبات الطويل مما أصبح يعرف بالقرون الوسطى لأن هذه القرون قد توسَّطَتْ وفَصَلَتْ بين جذور الحضارة الغربية وهي حضارة اليونان وبين الحضارة الغربية الحديثة فكانت هذه العصور الوسطى بمثابة فترة توقُّف وانقطاع بين طرفي حضارة واحدة كانت بدايتها مع بزوغ الفكر الفلسفي في نهاية القرن السابع قبل الميلاد فقد انقطع الفكر الفلسفي النقدي خلال هذه الفترة الطويلة حتى جرى استئنافه بواسطة فرنسيس بيكون في بريطانيا وديكارت في فرنسا والإرهاصات النقدية المتلاحقة التي سبقتهما ...
ففي العالم الانجلوسكسوني حمل بيكون في بريطانيا راية الفكر النقدي وأشعل الهجوم على الأوهام السائدة والأوهام الثقافية وعلى الموروث وكَشَفَ أوهام العقل التي تُكَبِّله وتُقَيِّده اذا هو خضع للمألوف ولم ترافقه آلية النقد والمراجعة والتصحيح فيصبح مأسوراً بالسائد فلا يتساءل ولاينتقد ولايراجع ولايحلل فتُقْعده هذه الأوهام عن انتاج المعرفة وتبقيه مُذعناً للمألوف ومنصاعاً للسائد وبهذا الهجوم الفكري النقدي أحدث بيكون هزة قوية في العقل الأوربي وأعاد لآلية المراجعة والتصحيح فاعليتها الحاسمة ...
أما في فرنسا فقد حمل راية نقد المألوف وتعرية السائد رينية ديكارت فَوَضَع للناس منهجاً بسيطاً لإرشاد العقل يخرجهم من بلادة الاستسلام للمألوف ويثير عقولهم للتساؤل اليقظ أمام السائد المهيمن فكان بكتابه ( مقالٌ عن المنهج ) وغيره من الكتب بمثابة قنابل فكرية مزلزلة أيقظت العقل الأوربي من سباته وأعادت للفكر النقدي الفلسفي اعتباره وفاعليته وبذلك بزغ نجم العصر الحديث الباهر ...
ثم تتابع النقاد ليحولوا دون عودة الجمود فَحَمَلَ الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط راية الفلسفة النقدية وقدَّم للعالم مجموعة عظيمة من النقد الرصين في كتبه المرجعية : ( نقد العقل المحض ) و ( نقد العقل العملي ) و ( نقد مَلَكَة الحكم ) وغيرها من المؤلفات التأسيسية التي طوَّرت الفكر الفلسفي النقدي وعمَّقَتْ ( نظرية المعرفة ) وبذلك كان الفكر الفلسفي النقدي هو محرك الحضارة الغربية برمَّتها وهو مفتاح تطورها وحافز إزدهارها ...
ثم جاء الفيلسوف الألماني هيجل فوطَّد مبدأ الديالكتيك الذي يعني الجدل بين الأضداد أو الصراع المستمر بين الأفكار المتضادة فالفكرة ونقيضها ينتج عن صراعهما فكرةٌ جديدة أكثر تطوراً منهما أو تجمعهما معاً ...
وبهذا يظهر أن آلية المراجعة والنقد والتصحيح هي مفتاح التقدم والإزدهار فبواسطة هذه الآلية خرج الغرب من أسر المألوف واخترق حُجُب المجهول فاكتشف طبيعة الكون وفجَّر طاقة المادة وسخَّر الأشياء و مدَّ هيمنته إلى الأجواء وطار في الهواء ثم استطاع الإفلات حتى من جاذبية الأرض وراح يجوب الفضاء ويضع أعلامه على القمر ثم تتعاظم أهدافه وتتسع منجزاته إلى الحد الذي يجعل الإنسان في العالم الثالث يصاب بالدوار أمام هذه الإنجازات الباهرة...
وكل ذلك بفضل بزوغ العقل النقدي لأن تفاعل الأفكار وتدافع النظريات قد تكفَّلا باستمرار التوهج والنمو والاتساع حتى أصبح ( العقل النقدي ) عنوانا للحضارة الغربية برمتها وحتى بات الفكر النقدي أهم مقومات الحضارة المعاصرة فالأفكار تواجَه بالتمحيص والنظريات تقابل بالنقد والنقد تتم مجابـهته بنقد مضاد وهكذا دواليك في متوالية لا تتوقف ولا تفتر وبذلك امتدت آفاق المعرفة واتسع مدى الرؤية وانداحت مساحات الإنجاز وتنوَّع الإبداع كل ذلك بسبب آلية النقد والخروج من أسر المألوف وفهم طبيعة العقل البشري وإدراك ما فيه من إمكانات ونقائص ...
إن الإنسان الأوربي لا يختلف عن بقية البشر من الناحية البيولوجية ولكنه فتح عقله على عيوبه وراح يتخلص من هذه العيوب واحداً إثر آخر وفتح عقله على إمكاناته فراح يستثمرها إلى أقصى المدى ...
وأدركت اليابان وشعوب أخرى كالنمور الآسيوية سرَّ ازدهار الغرب فاستطاعت هذه البلدان جميعا أن تختصر مشوار التفوق وأن تحقق في سنوات معدودة ما لم يستطع الغرب أن يحققه إلا في قرون وذلك لأنـهم أخذوا عن الغرب علومه ومناهجه وتقنياته الجاهزة وأضافوا إلى هذه الثمار اليانعة السخية قدرتـهم الفائقة على مواصلة العمل...
وباختصار فإن تعميم التعليم وانتهاء الأمية وانتشار المدارس في كل مكان وكثرة الجامعات كلها لاتستطيع أن تغيِّر أحوال العرب مالم يستخدموا آلية المراجعة والتصحيح وهذا يقتضي فتح باب النقد وترك الأفكار تتصارع على مرأى ومسمع من الجميع وبذلك تنجلي الحقائق وتسود الشفافية ويختفي النفاق وتزول أسباب الإخفاء ويتعامل الناس بأمان ووضوح وصدق ...
إن من يطَّلع على تاريخ الفكر النقدي في الثقافة الغربية ابتداء من السفسطائيين وانتهاء بفلسفة التفكيك والتقويض يدرك بأن الثقافات تملك من المتانة والقوة والقدرة الهائلة على الصمود مايستبعد أي خوف عليها من النقد والمراجعة والتصحيح فثوابت الثقافة الأوربية مازالت صامدة أمام ضربات النقد ولكنها فقط أتاحت لها أن تجدِّد ذاتها وأن تطور آلياتها وأن تصبح مستمرة النمو وهذا الصمود العجيب المذهل يؤكد أبدية استمرار الثقافات فالنقد مهما بلغ من الحدَّة والقوة والصلف والعنف فإن أقصى مايفعلة هو أن يجعل الثقافة تتحرك من سباتها وتخرج من جمودها وتستثمر إمكاناتها وتطور قدراتها وتوسع مساحات امتدادها فلا خوف على الثقافات من النقد وإنما الخوف كل الخوف عليها من التوقف والعطالة والجمود ...
أيها الأخوة الكرام : سوف أبقى معكم إن شاء الله لأجيب على اسئلتكم مكرراً لكم الشكر على التجاوب والحفاوة ومعتذراً عن التأخير لأن الإنشغال منعني من المبادرة إلى الإجابة ...