يُعد الوعي بطريقة رسم استراتيجيات واضحة المعالم والأبعاد، من أهم خصائص قادة الحراك التغييري، سواء استهدف هذا الحراك إحداث تحولات على مستوى الحكومات أو الأحزاب أو الحركات أوالمؤسسات. ومن هنا تأتي أهمية الدراسات التي تستعرض الخبرات والتجارب التغييرية، وتؤسس لنظريات عمل تفسر الواقع، وترسم الطريق للوصول إلى المستقبل، وتصف المهارات اللازمة لإحداث التغيير والتحول.
ولما كانت طرق التغيير متعددة ومتنوعة وتتراوح مابين السلمي وغير السلمي، فإن حرب اللاعنف تمثل إحدى خيارات التصدي والمقاومة لتغيير النظم التعسفية والدكتاتورية سواء على مستوى الحكومات أو المؤسسات.
وقد تناولنا في كتاب "حرب اللاعنف.. الخيار الثالث" بعض الأفكار الرئيسة حول مستويي فلسفة وسياسات حرب اللاعنف[1]، وسنتعرض في هذه السلسلة من الحلقات لبعض الأفكار الأساسية التي يمكن اعتبارها بمثابة البوصلة التي توجه وترسم مسار الحراك التغييري، وهي الأفكار التي تنتمي إلى مستوى الاستراتيجيات في حرب اللاعنف.
وتتضمن المفردات التالية:
1- تعريف التغيير.
2- أنواع التغيير.
3- مسارات التغيير.
4- مستلزمات حدوث التغيير.
5- معجلات التغيير.
6- كوابح التغيير.
7- بعض سياسات الحركة التغييرية.
8- بعض استراتيجيات الحركة التغييرية.
ولدى إحاطة القارئ بتلك المفردات تكون قد توفرت لديه قاعدة وأرضية مناسبة لفهم أعمق للأفكار المكونة لبوصلة التغيير.
تعريف التغيير
عندما نتحدث في إطار التغيير السياسي والاجتماعي – وهما نطاق البحث في هذه الدراسة – نعرف التغيير[2] على أنه "انتقال المجتمع بإرادته من حالة اجتماعية محددة إلى حالة أخرى أكثر تطوراً"[3].
مفردات التعريف:
* انتقال المجتمع: وأي تجمع بشري كالدول أو المؤسسات أو الحركات أو الأحزاب من حال إلى حال، من الحاضر إلى المستقبل، لتصبح طرفاً فاعلاً في الأحداث، وتحقق التنمية والنهضة المستهدفة، وتمارس دورها في إعمار الكون. وهكذا يتسع نطاق التعريف ليشمل الفعل على مستوى الدول والمؤسسات والحركات والأحزاب، بل ومجموعات العمل الصغيرة.
* بإرادته: أي بعموم الرغبة والإرادة الجماعية للمجتمع بمؤسساته وهيئاته وأفراده. ومن ثم فإن حالات التحول التي تحدث دون إرادة جموع وحدات المجتمع[4] لا تدخل في نطاق تعريفنا لمصطلح التغيير في هذه الدراسة.
* من حالة اجتماعية محددة إلى حالة أخرى: وتشمل كلمة الحالة الاجتماعية أنماط العلاقات الاجتماعية والنظم الاجتماعية المختلفة كنظم الأسرة والاقتصاد والسياسة والنظم التشريعية والقضائية والدينية، ومن ثم فإن هذا اختيارنا لمصطلح الحالة الاجتماعية يجعل نطاق التعريف يتسع ليشمل عمليات التغيير في مناحي الحياة المختلفة. [5]
* أكثر تطوراً: فمصطلح التغيير يعني عندنا الانتقال بأي تجمع بشري إلى الأمام، وبناء قدرته على الفعل. وبالتالي فإن انتقال المجتمع إلى وضع أكثر تخلفاً أو ارتداده خطوة إلى الوراء لا يدخل في نطاق تعريفنا، لأنه لا يمكن أن تتلاقي إرادة المجتمع بعمومه على الانتقال لوضع متخلف.
وهكذا فإن استخدامنا لمصطلح التغيير يقصد به حالات التحول الاجتماعية التي يخوضها المجتمع بعمومه للانتقال إلى أوضاع أفضل تمكنه من الانطلاق إلى المستقبل. وهي حالات التحول التي يخرج منها المجتمع - بأفراده ومؤسساته وهيئاته- أكثر إيجابية وفاعلية وقوة وقدرة على إدارة شئونه، وعلى محاسبة قيادته ومكافئتها ومعاقبتها، وعلى التصدي لمحاولات كبته أو قهره. ومن ثم فإن حالات التحول التي يتم فيها استبدال قلة مسيطرة متحكمة بقلة أخرى دون المشاركة الإيجابية والفعالة من قبل وحدات المجتمع المختلفة لا تدخل في نطاق مصطلح التغيير الذي نردده في أدبياتنا.
وفي هذا الإطار فإن تعريفنا للتغيير يتسق مع رؤيتنا لطبيعة القوة السياسية ضمن نظرية القوى متعددة المصادر، والتي تناولناها في كتاب "حرب اللاعنف.. الخيار الثالث". أما عمليات التحول التي تعتمد بالأساس على نظرية القوة الأحادية فهي لا تدخل في نطاق التغيير الذي نقصده.[6]
أنواع التغيير
إذا ما التقت وتواطأت رغبة المجتمع بعموم وحداته المختلفة على أهمية التغيير أصبح لزاماً على الفاعلين السياسيين وقادة الرأي والفكر في المجتمع تحديد نوع التغيير المطلوب، هل هو تغيير شامل جذري عميق أم تغيير جزئي.
والتغيير الشامل العميق يبدأ بتغيير القيادة الدكتاتورية[7] ويمتد ليشمل جميع مناحي النظم الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والتشريعية والقضائية والدينية، ...الخ.
ومن ثم فإن تغيير القيادة الديكتاتورية أو المتعسفة أو النجاح في تغيير أنماط تفكيرها بما يتناسب مع صالح الدولة أو المؤسسة لا يمثل الهدف النهائي للراغبين في إحداث التغييرات، ولكنه يمثل الخطوة الأولى الفعالة نحو التحولات النوعية الكبرى التي تقفز بالدولة أو المؤسسات قفزة هائلة إلى الأمام. فتغيير القيادة هو خطوة نحو التغيير الشامل، وليس هو الهدف النهائي[8].
أما التغيير الجزئي فيتناول فقط جزئية من الجزئيات، كالتغييرات التي تتناول الإصلاح الاقتصادي أو الدستوري أو العسكري، أو غيرها من التغييرات التي تمس جانباً من الوضع العام للمجتمع وتترك الجوانب الأخرى إما لكون الجوانب الأخرى لا تحتاج إلى تعديل أو لعدم توفر المشروع المحلي الذي يملي على المجتمع وقيادته التحرك في اتجاه محدد.
وهكذا فإن تحديد القادة والفاعلين الاجتماعيين والسياسيين لنوع التغيير يمثل الأولوية الأولى في العملية التغييرية، ويلي ذلك تحديد المسار الذي سيسلكه المجتمع لتحقيق التغيير الشامل.