عاش الإنسان البدائي حياته هائماً في الغابات والفلوات، لا يعرف الانتماء إلى أرض أو قبيلة، يجلد يومه وليله باحثاً عما يسد رمقه ويوفر أمنه، فكأنما الإنسان حينذاك دولة بذاته، إذ كان مسؤولاً - وحده - عن كل أمره، وفي تلك الغابات والبراري كانت شريعة القوة فحسب هي السائدة، فلا سلام ولا أمان ولا ضوابط، بل هو الصراع من أجل البقاء.
ولم تزل السماء تبعث برسالات الهدى - عبر بعثات الأنبياء والرسل - لذاك الإنسان الحائر على وجه الأرض، بما يناغم فطرته السوية، وتدعوه إلى إعمال عقله بالملاحظة والتجريب بغية الوصول إلى اليقين، ثم لإعمار الأرض وترقيتها، أداء لمهمة استخلافه عليها، جنباً إلى جنب مع عبادة خالقه جل وعلا، حتى جاء الإسلام سراجاً وهاجاً إلى قيام الساعة، ينظم للإنسان دقائق حياته بما يصلح دنياه وآخرته، في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بعدما تعهد جل وعلا بحفظه.
ومنذ عرف الإنسان ثقافة التوطن وأدبيات الاستقرار والعيش في جماعة، تعددت المجتمعات البشرية الزاخمة، وتشابكت العلاقات والمصالح داخل الجماعة الواحدة، وبينها وبين الجماعات الأخرى، مما اقتضى على كل جماعة أن تضع أسساً وقواعد لعلاقاتها مع الغير، ولضبط حركة المجتمع في الداخل، وتقنين العلاقات بين أفراده، وتحديد حقوقهم وواجباتهم، وتنظيم الموارد والمصارف، وذب الغزو عن الحدود، وتحقيق الأمن والسلم الاجتماعي، وهذه الأسس والقواعد والضوابط - في جملتها - هي ما يعرف بالنظام.
ولقد ضرب لنا القرآن الكريم - في أكثر من موقع - المثل الأعلى بالنظام الإلهي في خلق الكون والإنسان، قال تعالى: "إنا كل شيء خلقناه بقدر" القمر: 49، وقال جل وعلا: "سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون، وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون" يس: 36-40، وهكذا يسير الكون طبقاً لنظام دقيق وضعه الخالق جل وعلا.
وفي المقابل يحيلنا إلى تصور اختلال النظام ووباله على الناس: "قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة، من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون، قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة، من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون" القصص: 71 - 72، والإنسان كذلك مدعو أن يتفكر في نفسه.. في خلقه.. في ذلك النظام الدقيق بين عمل أجهزة جسمه المختلفة، وكيف يتهدد سلامة الجسم كله اختلال النظام في أي من جزئياته "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" الذاريات: 21، وبقدر ما تستجلي هذه الآيات وغيرها عظمة الخالق في عيون الخلق، بقدر ما تقدم المثل للنظام المنضبط ووجوب التزامه والتحذير من اختلاله.
ولقد أصبحت دقة الأنظمة وحظها من الاحترام المحك الرئيسي للحكم على درجة رقي المجتمع وتقدمه، فنحن نرى المجتمعات التي تسودها ثقافة احترام النظام قد احتلت موقعها البارز في قافلة التقدم، بينما تلك التي يهون النظام في عيون أصحابها، تخور قواها ويهون في عيون الآخرين أمرها، وأذكر أني دعوت أستاذاً ... أن درسني في الولايات المتحدة الأمريكية لزيارتي في الرياض مطلع الستينات الميلادية، وبعد أن أقام فترة سألته عن انطباعه، فقال: إن كل شيء عندنا على ما يرام، غير أننا أميون من حيث ثقافة (الوقوف في الصف)، فعندما كان الأستاذ يذهب إلى مكتب البريد أو غيره من الخدمات يلتزم الوقوف في دوره بالصف لكن الناس لا يلتزمون بل يحاولون تجاوز الآخرين بدون وجه حق، وأردف الأستاذ بأن المجتمع الذي يفتقد تلك الثقافة يظل مكبلا بإرث الفوضى وازدراء النظام دون أي تقدم نحو الأمام.
وإذا أراد أي مجتمع أن يستدل على مدى احترامه للنظام يحسن به أن يطرح هذه الأسئلة وأشباهها في استبيان على كافة منسوبيه:
* هل يحترم الموظف الدوام من حيث الحضور والانصراف، وقضاء مصالح الناس، دونما تعقيد ولا تفريط؟ وهل يحافظ على المال العام؟.
هل يسعى لغرس قيم احترام النظام: الأب والأم مع الأبناء في المنزل، والرئيس مع مرؤوسيه في العمل، والضابط مع الصف والجنود في الخدمة، والمدرس بين طلابه في صفه، والمدير على مستوى مدرسته..إلخ؟
* هل تشيع بيننا ثقافة الحفاظ على المرافق العامة، الحدائق والمتنزهات - المنشآت الحكومية ووسائل النقل.. وغيرها؟ وهل أعفينا شوارعنا من نفايات نقذف بها من سياراتنا؟
* كم منا يتستر أو يتربح من مخالفي الإقامة؟
* كم منا رأى من تأبط للنظام شرا فآثر بالصمت السلامة؟
* هل يحترم المرء نظام المرور في بلده كما يحترمه في البلاد الأخرى؟
* هل يغار الإنسان على نظام بلده ويفزع حين اختراقه، فيبادر بالتعاون مع الجهات المعنية؟
وأذكر أنه أثناء دراستي في لندن كنت أراقب - بغبطة بالغة - المواطن الإنجليزي وهو يتطوع بإبلاغ إدارة المرور عن رقم سيارة خالفت وهربت، وكنت - وما زلت -أتمنى أن نحذو حذوهم لنصبح جميعا عيونا أمينة على نظام وطننا.
* وأخيرا.. هل ما زال الناس يتربصون بكل نظام جديد، بحثا عن الثغرات التي تمكنهم من تطبيق الاستثناءات لأصحاب الحظوة والحظوظ؟
ولعل القارئ الكريم يوافقني على أننا بحاجة ماسة إلى تجريد حملة على أنفسنا، لجبر الكسور ومعالجة الشروخ في هيكل احترامنا للنظام، ذلك إذا أردنا لحملة التطوير التي تتبناها الدولة على الصعيد الرسمي أن تؤتي ثمارها، فالتطوير - بزعمي - يبدأ من القاعدة العريضة، ولعلي لا أبالغ إذا اعتبرت أن التزام كل فرد فينا بالنظام واحترامه يمثل العجلة الدافعة لمسيرة التطوير، وهذه هي المبررات التي حدت بنا إلى اختيار "احترام النظام" عنوانا لملتقى أبها الثقافي 1427هـ، وفتح الباب أمام الإخوة المواطنين والمقيمين لتقديم أبحاثهم ودراساتهم وآرائهم المتعلقة بالموضوع.
والله من وراء القصد..
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي