إن افضل أستثمار يمكن أن تقوم به أية مؤسسة اقتصادية هو بناء العنصر البشري العامل في تلك المؤسسة بحيث يتم اعداده ذهنيا ونفسيا بالقدر الذي يمكنه من قيادة عجلة الإنتاج والنماء. ويؤكد الباحثون دائما أن الإنسان هو أساس التنمية، كما تؤكد الوقائع العملية للكثير من النماذج الماثلة أمامنا في مجتمعاتنا العربية طبيعة التمازج بين الإنسان والتنمية وحدود العلاقة الطردية بينهما. والمتفق عليه بشكل عام هو أن تنمية الإنسان هي الأساس والنموذج الأمثل لنجاح الخطط الاقتصادية والاجتماعية فالدراسات والأبحاث الاقتصادية المعاصرة المرتبطة بالتنمية البشرية- خاصة تقارير التنمية البشرية التي تصدر عن البنك الدولي للإنشاء والتعمير- ساهمت بشكل كبير في معالجة قضايا الاستثمار في التعليم والتدريب والصحة، والتي تستهدف بالدرجة الأولى عقل الإنسان «التعليم والتدريب» وجسمه «الصحة»، وسعت إلى تطوير الخطط والبرامج والسياسات الهيكلية والتمويلية التي تدعم التنمية البشرية، بالإضافة إلى ابتكار طرائق قياس حديثة باستخدام برامج الحاسب الآلي، والتي كان عدم وجودها في السابق سبباً من أسباب غياب البحث والدراسة في موضوعات التنمية البشرية. ومع وجود الاهتمام المتصاعد بجوانب الإنسان العقلية والجسمية إلا أن الجانب الروحي ليس له حظ من الدراسة والمعالجة ضمن برامج التنمية البشرية التي خصصت لتطوير قدرات الإنسان وتوسيع معارفه واكتشاف مواهبه. ونحن ندرك تماماً مدى اهتمام علماء الغرب بالمقاييس المادية أكثر من اهتمامهم بالجوانب الروحية للإنسان، إذاً هل نأخذ هذه الدراسات والتجارب على ما فيها من نقص ونطبقها في مجتمعنا الإسلامي. أعتقد جازماً خطأ هذا المنهج القاصر. والسؤال الذي ينبغي طرحه لمعرفة قصور هذا المنهج هو : هل أخذت سياسات التنمية البشرية في اعتبارها جانب الطلب لسوق العمل بتحقيق رغبات الأفراد المستهدفين مثلما اهتمت بجانب عرض السوق من هذه الكفاءات البشرية؟ لاشك أن الإجابة واضحة لدى كل مطلع على تلك السياسات والبرامج في أنها تتوجه إلى تنمية الأفراد باعتبارهم وسيلة للتنمية الاقتصادية وليسوا غاية لها، ولهذا تركز هذه السياسات على جانب العرض أي في اعتبار البشر أدوات لازمة لعملية إنتاج السلع أما جانب الطلب «حاجات ورغبات الأفراد» فليس من صميم معالجة تلك الدراسات؛ لأن الأفراد في النهاية هم المنتفعون من العملية الإنتاجية. ولهذا نلاحظ مدى قدرة تلك السياسات على تسخير تلك النوعية من الكفاءات البشرية في سبيل تكوين ثروات وأرصدة مالية يتباهى بها أصحاب الثروات والمشروعات الضخمة، بل الدول والشركات العالمية فيما بينها، حتى أصبح هذا الإنسان «المنظم والمبدع والمبتكر» يكرس جل عقله «فكره» وجسمه «صحته» ووقته للإبداع والابتكار والتنظيم، مؤملاً اكتساب المزيد من الدخل أو الحصول على المعلومات الإضافية التي يشعر كما ذكر دافيد ماكليلاند في كتابه «مجتمع الإنجاز: الدوافع الإنسانية والتنمية الاقتصادية» أنها تضيف إليه رصيداً من الشعور بالسعادة عندما يقوم بأعمال مبتكرة وجديدة والدافع لذلك هو رغبته في الإنجاز الذي دائماً يطمح إليه. ولكن للأسف إن هذا الإنسان المبدع والمنظم أسيء إلى طريقة الاستفادة منه فأصبح كما يصفه إيلي غنزبرغ في كتابه «الاقتصاد البشري» سلعة تباع وتشترى ولكن بطريقة منظمة ومحكمة من خلال نظام السوق المفتوح. إن السياسات والبرامج الاقتصادية الخاصة بالتنمية البشرية والنظريات الممهدة لها «نظريات رأس المال البشري والاستثمار البشري» أكدت على أهمية مراعاة الاعتبارات الاجتماعية «التعليم والصحة،...إلخ» جنباً إلى جنب مع الاعتبارات الاقتصادية في عملية التنمية. إلا أنها لم تدخل القيم التربوية والخلقية ضمن الاعتبارات الاجتماعية «التعليمية وغيرها» والسبب عدم القدرة على الحساب الاقتصادي لها، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له القائمون على رسم سياسات التنمية البشرية في مجتمعنا حتى لا نقع في إشكالية التنمية «عدم المواءمة بين مخرجات التعليم والتدريب واحتياجات سوق العمل». والجدير بالذكر أن هناك قاعدة أساسية أكد عليها ديننا الإسلامي الحنيف يمكن اعتبارها ركيزة مهمة لعملية التنمية البشرية هي قاعدة «استعمال الأصلح» وهي تقوم على عاملين يحددان إنتاجية الإنسان هما «القوة والأمانة» بدليل قوله تعالى في قضية نبي الله موسى عليه السلام وعلى لسان ابنة شعيب عليه السلام {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين}. وفي أية أخرى قال تعالى : {قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين}. وهذا ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية بقوله «ينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة» إذن هناك عنصران مكملان لبعضهما يحددان إنتاجية الإنسان، أحدهما القوة والتي تترجم في خبراته ومهاراته الفكرية وقدراته الجسدية، والثاني الأمانة والتي تترجم في القيم التي يعتنقها وعلى رأسها العقيدة الإسلامية الصحيحة التي تضبط سلوكياته في العمل وتحدد مسار حياته. وهكذا فإن التنمية البشرية لابد أن تقوم على هذه الحقيقة الأكيدة والقوية والتي تجمع بين المقومات العقلية والجسدية للإنسان وبين مقوماته الروحية، ومن ثم تحقق بين المقومات العقلية والجسدية للإنسان وبين مقوماته الروحية، ومن ثم تحقق هذه التنمية التوازن في حياة الإنسان المسلم بصفة خاصة يعتبر ضرورياً في العملية الإنتاجية. وأخيراً فإن هذه الحقيقة ينبغي أن تكون بمنزلة الجسر الذي يربط عملية التنمية البشرية بعملية التنمية الاقتصادية أو بين نوعية الإنسان العالي الكفاءة بالإنتاجية المطلوبة