الوجدية
الوجدية : 28 - 12 - 2008 في أواخر يناير 1994 تسلمّ اللواء اليامين زروال رسميّا رئاسة الدولة الجزائرية , وبذلك تكون المؤسسة العسكرية قد وضعت يدها وبشكل مباشر على مقاليد الحكم بعدما كانت تقوم بتوجيه الدولة من خلف الكواليس وبشخصيات مدنية في أغلب الأحيان .
و كانت المؤسسة العسكرية قد أخذت على عاتقها مسألة تعيين الرئيس فكان الجنرال المتقاعد اليامين زروال وأخذت على عاتقها وضع خطة لتفادي الانزلاق الى الهاوية , فكان منهج الحوار والنار تحت سقف واحد , ولمزيد من التفصيل لابدّ من التعرّف على الوضع العام في الجزائر عشيّة استلام اليامين زروال مهامه كرئيس للدولة الجزائرية .
وضع الدولة :
لقد بدأت الدولة الجزائرية بالانهيار بعد اقالة الشاذلي بن جديد والغاء المسار الانتخابي وقد تمثلّ هذا الانهيار في اختفاء كل المؤسسات الدستورية , فالرئاسة بات أمرها بيد المؤسسة العسكرية التي تقوم بنفسها بتعيين من يتولاها دون الرجوع الى الارادة الشعبية , ومجلس النوّاب أو البرلمان تمّ حلّه بقرار فوقي وتمّ تعيين هيئة تشريعية يجري تعيين كل أعضائها , والمجلس الدستوري كانت أخر مهمّة أوكلت له تتمثل في الموافقة الدستورية على سيناريو انسحاب الشاذلي بن جديد من رئاسة الدولة , وحتى البلديات التي كانت تابعة للجبهة الاسلامية للانقاذ وبقية الأحزاب جرى تسليمها لرؤساء بلديات معينين من قبل الجهات العليا ودون المرور بالانتخابات .
والمؤسسة الوحيدة التي ظلّت محافظة على تماسكها هي المؤسسة العسكرية , التي أصبحت صاحبة الحل والربط , والتي كبرت على حساب المؤسسات الأخرى , وقبل استلام زروال مهامه كرئيس للدولة الجزائرية كان الصراع بين الصقور والحمائم , وبين مراكز القوة في دوائر القرار قد بلغ أوجه , وكان الصقور داخل المؤسسة العسكرية يوفرّون الغطاء السياسي لكل دعاة المواجهة والاستئصال ان في الحكومة وعلى رأسها رئيسها رضا مالك , وان في الطبقة السياسية والمنظومة الاعلامية الفرانكفونية على وجه التحديد .
أمّا الجنرال اليامين زروال العائد الى السلطة بعد طول تقاعد فقد أحتار من أين يبدأ , فهو يلوّح تارة بالنار وتارة بالحوار , وكان ينتظر أن ينتهي رئيس حكومته رضا مالك من التفاوض مع صندوق النقد الدولي ليقوم بتنحيته , وبالفعل تمّت تنحية رضا مالك ليقال أنّ اليامين زروال مع الحوار والمصالحة الوطنية . وكان التحدّي الأول الذي واجه اليامين زروال هو في كيفية القضاء على مراكز القوة وتوحيد الخطاب السياسي , خصوصا في ظلّ تصعيد حكومة رضا مالك من لهجة خطابها ضدّ التيارات الاسلامية , وأستمرّ في توفير الغطاء السياسي لأمثال الدكتور سعيد سعدي زعيم التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية الذي كان يطالب بتسليح منطقة القبائل لمواجهة الجماعات الاسلامية المسلحة . كما أنّ وزير الداخلية في حكومة رضا مالك العقيد سليم سعدي كان يدعو الى استدعاء احتياطي الجيش الجزائري لمواجهة الحركات الأصولية المسلحة , وفوق هذا وذاك فانّ هناك من أوعز الى الصحافة الفرانكفونية بشنّ حرب على زروال , وأشاع حلفاء رضا مالك بأنّ زروال مجرّد بيدق في اللعبة الجزائرية , وأنّه لا يملك فعل أي شيئ تجاه الصقور الذين وضعوه أمام الأمر الواقع , وفوق هذا وذاك فانّ الجمعيات النسوية التابعة لتحالف البربر واليسار والفرانكفونية خرجت في تظاهرة الى الشوارع في الجزائر العاصمة وأخذت ترددّ شعارات من قبيل : زروال لا تخلع السروال . أي ايّاك أن تتخلى عن رجولتك وتتحاور مع الأصوليين .
ويبدو أنّ اللواء اليامين زروال كان يتعامل مع هذه المناورات بكثير من الصمت , ومعروف عن زروال أنّه كثيرا ما كان يتخذ قراراته بعيدا عن الضجيج الاعلامي , وقبل توجهه للعاصمة التونسية للمشاركة في أعمال القمة المغاربية , اتصلّ بمقداد سيفي وزير التجهيز في حكومة رضا مالك وأمره بالتهيؤ لاستلام رئاسة الحكومة خلفا لرضا مالك الذي كان يتوقّع أن يدعمه الصقور الى النهاية أو أقلا ريثما ينتهي من تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي , الاّ أنّ الازمة الجزائرية مثلما أزهقت أرواح عشرات الألاف من الجزائريين , فقد أجهزت على العديد من كباش المحرقة والفداء , وهذه من قواعد السياسة خصوصا في عالمنا العربي !
ولد مقداد سيفي في عام 1940 في ولاية تبسة الواقعة على الحدود الجزائرية – التونسية , ويحمل اجازة في الفيزياء من جامعة الجزائر ثمّ أكمل تعليمه في فرنسا حيث حصل على شهادة في الهندسة الالكتروميكانيكية , وفور عودته من الجزائر عمل في شركة الغاز ثمّ شغل مناصب في وزارة الصناعة الى أن عينّه بلعيد عبد السلام رئيس الحكومة الأسبق وزيرا للتجهيزات والأشغال العموميّة , وبقيّ في نفس المنصب عندما عينّ رضا مالك رئيسا للحكومة خلفا لبلعيد عبد السلام .
ومقداد سيفي رجل تكنوقراطي , وعرف عنه أنّه رجل حوار موال للرئيس اليامين زروال, وعندما شكلّ حكومته اختار لها تقنيين وتكنوقراطيين , وأقصى الصقور الذين كانوا في حكومة رضا مالك كالعقيد سليم سعدي ,وكانت حكومته على الشكل التالي :
مقداد سيفي رئيسا , اليامين زروال وزيرا للدفاع مع وجوده على رأس الدولة الجزائرية , محمد الصالح دمبري وزيرا للخارجية , عبد الرحمان مزيان شريف وزيرا للداخلية , ومحمد تقيّة وزيرا للعدل , وأحمد بن بيتور وزيرا للخزينة , ومراد بن أشنهو وزيرا لاعادة التنظيم الصناعي , وعمر مخلوفي وزيرا للصناعة الثقيلة , ومحمد السعيد عبّادو وزيرا للمجاهدين ومحمد بن عمّار زرهوني وزيرا للاتصال , وأبوبكر بن بوزيد وزيرا منتدبا للجامعات والبحث العلمي , ونورالدين بحبوح وزيرا للفلاحة , وشريف الرحماني وزيرا للتجهيز , ومحمد مقلاوي وزيرا للسكن , ويحي قيدوم وزيرا للصحة والسكان , وسيد علي لبيب وزيرا للشباب والرياضة , وحسّان العسكري وزيرا للتكوين المهني , وسليمان الشيخ وزيرا للثقافة , وساسي العموري وزيرا للشؤون الدينية , ومحمد العيشوبي وزيرا للعمل والحماية الاجتماعية , والطاهر علاّن وزيرا للبريد والمواصلات , ومحمد أرزقي ايسلي وزيرا للنقل , وساسي عزيزة وزيرا للتجارة ورضا حمياني وزيرا مندبا للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة , ومحمد بن سالم وزيرا للسياحة والصناعات التقليدية وعلي ابراهيتي وزيرا منتدبا لدى وزير الخزينة , ونورالدين قصد علي وزيرا منتدبا للجماعات المحلية , وأحمد عطّاف كاتب دولة لدى وزير الخارجية , وليلى عسلاوي كاتبة دولة لدى رئيس الحكومة مكلفّة بالتضامن الوطني وشؤون الأسرة , وسعيد بوشعير أمينا عاما لدى الحكومة .
وقد وصفت هذه الحكومة بأنها تكنوقراطية وسوف تضطلع بالمهام الاقتصادية , فيما ستكون مهمة الرئاسة اعادة النظر في الملفات السياسية والأمنية والتي ستكون على غاية من التعقيد بسبب التراكمات عبر عقود من الزمن !
الانهيار الاقتصادي :
عندما استلم اللواء اليامين زروال مهام رئاسة الدولة الجزائرية , كانت الجزائر تعيش وضعا اقتصاديا خانقا للغاية , فهي لم تعد قادرة لا على تسديد ديونها ولا على توفير الحنطة للشعب الجزائري , وكانت خزينة الدولة خالية من العملة الصعبة باعتراف كبار المسؤولين , كما أنّ المؤسسات التي كانت تابعة للقطاع العام كان قد انتابها الشلل بشكل كامل . فالدولة الجزائرية التي أنهكتها الاختلاسات – تجدر الاشارة الى أنّ رئيس الوزراء الأسبق عبد الحميد الابراهيمي كان قد فجرّ قنبلة اختلاس الرسميين من عسكريين ومسؤولين سياسيين مبلغ 26 مليار دولار أمريكي – وسوء التخطيط والمديونية والتذبذب بين اقتصاد السوق والاقتصاد الموجّه , وجدت نفسها في بداية 1994 على حافة الهاوية والافلاس .
وبعد انخفاض أسعار النفط حلّت الكارثة بالاقتصاد الجزائري , و قد أستغلّ صندوق النقد الدولي الفرصة وراح يزيد في طرح شروطه والتي زادت كلها في تأزيم الوضع الاجتماعي, على اعتبار أنّ صندوق النقد الدولي لا تعنيه أوضاع الناس الاجتماعية كثيرا والذي يهمّه مصالح الكبار الذين يديرون هذا الصندوق من وراء الستار , ومن الشروط التي طرحها صندوق النقد الدولي على الجزائر تخفيض قيمة الدينار بنسبة 50 بالمائة وتحرير الأسعار ورفع الدعم عن المواد الاستهلاكية الضرورية والمدعومة من قبل الحكومة والشروع في خصخصة القطاع العام , علما أنّ هذا الشرط الأخير عرضّ عشرات الألاف من العمال للبطالة والذين انتحر الكثير منهم بسبب الأزمة المعيشية .
وقد ترافق هذا الانهيار الاقتصادي مع تصعيد أمني خطير والذي شمل كافة المناطق و في كل ولايات القطر الجزائري .
تدهور الوضع الأمني :
في بداية 1994 كان الجيش الاسلامي للانقاذ الذراع العسكرية للجبهة الاسلامية للانقاذ وبقية الجماعات الاسلامية المسلحة وتحديدا الجماعة الاسلامية المسلحة قد أنهت سنتين من صراعها العسكري مع القوات النظامية , وقد ألحقت هذه الجماعات أضرارا فظيعة بمقدرّات الجزائر , كما تمكنّت من اقامة شبكات عسكرية في كل ولايات القطر الجزائري, وأصبح لكل منطقة قائد عسكري الى درجة أنّ الجزائر في ذلك الوقت كان يحكمها صباحا القوات النظامية وليلا عناصر الجماعات الاسلامية المسلحة .
ولم تفلح القوات الخاصة التي عرفت باسم –النينجا- والتي كان يشرف عليها الجنرال محمد العماري في وضع حدّ لفوضى القتل والعنف الأعمى , وغالبا ما تحولّت هذه القوات الى قوات انتقامية وتصفية حسابات . وفشل سياسة الحلول الأمنية جعلت الجنرال اليامين زروال يعلن أنّ الحل الأمني وصل الى طريق مسدود ولابدّ من اللجوء الى الحوار , وكان بنفسه قد التقى زعماء الجبهة الاسلامية للانقاذ عندما كان على رأس وزارة الدفاع, وأفضت هذه الاتصالات في وقت لاحق الى اطلاق سراح اثنين من قادة الجبهة الاسلامية للانقاذ هما علي جدي وعبد القادر بوخمخم .
و عندما بدأ الرئيس اليامين زروال يتحدث عن الحوار في خطاباته السياسية , اتهمه بعض السياسيين بأنّه يناور ليس الاّ , والهدف من وراء ذلك هو اعادة الروح للدولة الجزائرية التي ألمّت بها سكرات الموت , وفي الوقت الذي كانت فيه الرئاسة تتحدث عن الحوار , كانت الأجهزة الأمنية تضرب بيد من حديد وتتحرك من منطلق الاستئصال الأمر الذي أوجد تشويشا لدى الشارع الجزائري الذي لم يستسغ فكرة الجمع بين منطق النار ومنطق الحوار . وقد تعجبّ الناس اتباع رئيسهم لهذه المسلكية السياسية وهو المعروف عنه بالصرامة وعدم الالتواء .
التحق اليامين زروال المولود في عاصمة الأوراس باتنة بالثورة الجزائرية وعمره لم يتجاوز 16 سنة , وقد عرف عن الرعيل الأول للثورة الجزائرية أنّه مسكون بحبّ الوطن والغيرة على مقدساته , وعلى عروبة الجزائر واسلاميتها والرفض المطلق لمحاولات ادماج الجزائر في فرنسا .
وعرف عن زروال وفاؤه لخطّ الثورة الجزائرية ومبادئ ثورة نوفمبر ولم يحد زروال عن هذا الخط بعد الاستقلال , وزاول عمله داخل المؤسسة العسكرية الى أن رقيّ الى رتبة لواء, ويختلف زروال عماّ يسمى في الجزائر بضبّاط فرنسا الذين كانوا ضمن الجيش الفرنسي والتحقوا بصفوف الثورة الجزائرية في أواخر أيامها ومنهم اللواء خالد نزار واللواء محمد العماري واللواء عبّاس غزيل واللواء عبد المالك قنايزية وعشرات أخرون , وعندما لم يستسغ تصرفات البعض داخل المؤسسة العسكرية قدمّ استقالته للشاذلي بن جديد الذي عينّه بعدها سفيرا للجزائر في العاصمة الرومانية بوخارست .
وترددّ اسم اللواء المتقاعد اليامين زروال بعد اغتيال محمد بوضياف مباشرة , حيث نشرت جريدة الخبر الجزائرية خبرا مفاده أنّه جرت اقالة وزير الداخلية الجنرال العربي بلخير والذي سيحلّ محلّه الجنرال المتقاعد اليامين زروال , الاّ أنّ وزير الداخلية العربي بلخير كذبّ الخبر, وأختفى بعد ذلك اسم اليامين زروال الى أن طرح اسمه مجددا في تموز –يوليو – 1993 كوزير للدفاع هذه المرة خلفا للجنرال خالد نزار .
والجنرال خالد نزار الذي خططّ لانسحابه من وزارة الدفاع مع رفقائه في اللعبة الجزائرية كان يعي وكانوا يعون معه أهميّة تعيين شخص على رأس وزارة الدفاع لم يتورّط في الانقلاب على الشاذلي بن جديد ولا في الاختلاسات التي زكمّت الأنوف .
ولم تكن مهمة اليامين زروال سهلة , ذلك أنّ أنصار الحلول الأمنية داخل المؤسسة العسكرية ودوائر القرار كانوا مستعدين لكل الاحتمالات . وحتى لما أبعد زروال رئيس الحكومة رضا مالك فانّ الأمور لم تتغير كثيرا باعتبار أنّ الرئاسة الجزائرية كانت قد فقدت صلاحياتها منذ زمن بعيد .
والجبهة الاسلامية للانقاذ التي رحبّ قادتها عباسي مدني وعلي بلحاج بالنوايا الحسنة لزروال كانت تنتظر منه أن يبادر الى اطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين بما في ذلك جميع قادة الجبهة الاسلامية للانقاذ المعتقلين , ورفع حالة الطوارئ والاجراءات الاستثنائية,
وكان قادة الانقاذ يطالبون زروال بالسماح لهم بعقد اجتماع موسّع يضمّ كافة أعضاء مجلس الشورى في جبهة الانقاذ الاسلامية , كما طالبوا بأن يسمح لهم الالتقاء بالقادة الميدانيين للجيش الاسلامي للانقاذ حتى يتمكنّوا من تقييم الوضع واتخاذ القرار المناسب
ومن جهته كان زروال يطالب قادة الانقاذ باصدار بيان يدينون فيه العنف الأعمى التي تشهده الجزائر , وتشاء الظروف أن لا تفضي هذه الاتصالات الى نتائج ملموسة وتمكنّ الطابور الخامس من قلب الطاولة مجددا , وعاد زروال مجددا الى منطق النار وسياسة الوعد والوعيد .
وكانت هذه العودة الى سياسة العصا الفولاذية تعكس في الواقع التجاذبات بين مراكز القوة ولو كانت هذه المراكز متوافقة على سياسة المصالحة والحوار لنجح الحوار , لكن كثيرا ماكان الصقور يعتبرون الحوار مجرد مناورة في محطة سياسية معينة , وساعة يتم الانتقال الى المحطة الأخرى تترك مناورة الحوار جانبا .
من الأشخاص البارزين الذين كان يعتمد عليهم الجنرال اليامين زروال الجنرال محمد بتشين الذي كان مستشارا للرئيس زروال وكان يعتبر العقل المدبر ورجل النظام القوي منذ تولّي الرئيس اليامين , وأصبح بتشين أقرب معاوني زروال وموضع ثقته الكاملة .
لكن من يكون محمد بتشين !
تلقى محمد بتشين المولود في مدينة قسنطينة والمناضل السابق في جبهة التحرير الوطني وصفوف جيش التحرير الوطني علومه العسكرية في الاتحاد السوفياتي السابق , وكان عضوا في اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني, واستقال بعدها من حزب جبهة التحرير الوطني كما فعل معظم العسكريين , وتولىّ بين عامي 1982 – 1984 قيادة القطاع العسكري في منطقة تندوف في الجنوب الجزائري على مقربة من الحدود مع المغرب , ورقيّ بتشين الى رتبة عقيد عام 1984 ليصبح قائدا للناحية العسكرية الرابعة التي مقرّها مدينة ورقلة الصحراوية , واعتبارا من 1978 تولى قيادة الناحية العسكرية الثالثة التي مقرها ولاية بشّار , و دعيّ بعدها لرئاسة الأمن العسكري حيث أصبح يشرف على معظم الأجهزة الأمنية ورقيّ الى رتبة جنرال , وقد قدم استقالته في شتنبر 1990 . وأنصرف بعدها الى مشاريعه التجارية الى أن طلبه اليامين زروال ليكون مستشارا له وأحد أقرب المقربين اليه .
وتتهم مراكز القوة في الجزائر محمد بتشين بأنّه كان يتطلع للرئاسة وأنّ زروال كان يمهّد له الطريق ليكون خلفا له , وكان على رأس المعارضين للجنرال محمد بتشين الجنرال محمد العماري وحلفاؤه في المؤسسة العسكرية . ولأنّ الصقور كانوا يلجأون الى الصحافة الفرانكفونية لتصفية حساباتهم فقد شنّت هذه الأخيرة حملة على اللواء محمد بتشين وفتحت العديد من ملفاته المالية وحتى الأمنية , وجاء هذا الصراع الخفي بين مراكز القوة قبل فترة وجيزة من انتهاء ولاية الرئيس اليامين زروال , حيث كان الرئيس الجزائري قد فاجأ الجميع في 11 شتنبر1998 بأنّه سيختصر ولايته الرئاسية التي كان يفترض أن تنتهي في سنة 2000 , وأعلن أيضا أنّه سيجري انتخابات رئاسية مبكرة .
ووسط الاستعداد للاستحقاق المقبل فتح ملف محمد بتشين الذي نجح في بسط نفوذه على التجمع الوطني الديموقراطي ونجح في فتح قناة تفاوض مع الجبهة الاسلامية للانقاذ , وكانت الصحف الفرانكفونية تسميه الاسلامي المتحفّظ , وحتى لا يستغلّ قدراته الأمنية وعلاقته القوية بزروال ليكون الرئيس المقبل , بادر الأخرون في المعسكر الفرانكفوني الى تحريك لعبتهم والتي سرعان ما نجحت وقدمّ محمد بتشين استقالته , حيث بقيّ اليامين زروال وحيدا رغم أنّه عمل المستحيل حتى يبقيه جانبه ولما لم يتمكّن من مواجهة المعسكر الأخر قبل استقالة مستشاره على مضض ونسب الى زروال قوله لمحمد بتشين : يا محمد جئنا سويّة ونذهب سويّة ..
و كانت العاصفة الكبرى التي أطاحت بمحمد بتشين وأجبرت زروال على قبول استقالته هي شهادات قدمها ضابط المخابرات السابق هشام عبّود الذي كان مدير مكتب محمد بتشين عندما كان هذا الأخير مديرا للمخابرات العسكرية , ويقيم عبّود حاليّا في العاصمة الفرنسية باريس وقد نشرت شهادته جريدة الوطن الفرانكفونية وجريدة الخبر الناطقة باللغة العربية وجاء في الشهادة أنّ بتشين قام شخصيّا بتعذيب سياسيين جزائريين في ثكنة سيدي فرج بالاشتراك مع المدعو قدور لحول صهر الرئيس الشاذلي بن جديد ووالي ولاية مدينة تيبازة في ذلك الوقت , وجاء في الشهادة أنّ بتشين جمع ثروات هائلة وحصل على فيلات فخمة مملوكة للدولة الجزائرية , والأخطر من ذلك فانّ هذا الضابط اعترف أنّ رجالات من السلطة قاموا بتصفية خصومهم واتهام اسلاميين مسلحين بقتلهم .
غادر الرئيس اليامين زروال قصر المرادية وهو يبلغ من العمر 58 سنة , ولم يتمكن من انهاء الفتنة الجزائرية العمياء التي أرقتّه كما أرقّت سابقيه , ولم يتحدث زروال عن صراع مراكز القوة والخلافات الحادة التي كانت تعصف بين أركان الحكم وجعلته يضحّي بأقرب الناس اليه , والقاعدة الجزائرية التي يحفظها الرسميون في الجزائر عن ظهر قلب تنص على عدم الحديث عما يسمونه أسرار الدولة لا تصريحا ولا تلميحا والخروج عن هذا المبدأ معناه القتل تماما كما هي قاعدة المافيا التي أجهزت على محمد بوضياف وهو لم يحكم سوى 166يوما .
وقد حاول زروال الدفاع عن عهده بقوله أنّه استطاع أن يمهّد لانتخابات رئاسية شفافة ونزيهة ويكرّس مبدأ التداول على السلطة , لكنّ منتقدي زروال أعتبروا أنّه كان طرفا في تنفيذ سيناريو ايصال عبد العزيز بوتفليقة الى قصر المرادية ليصبح بذلك سابع رئيس للدولة الجزائرية والذي ظلّ خارج اللعبة السياسية منذ وفاة هواري بومدين وتشاء الظروف أن يعود الى الواجهة من خلال انتخابات رئاسية كان فيها المرشح الوحيد بعد انسحاب منافسيه الستة الذين أكدوّا أنّ بوتفليقة هو رجل العسكر بلا منازع …
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي