د. مصطفي الضبع
رئيس قسم البلاغة والنقد والأدب المقارن- كلية دار العلوم- جامعة القاهرة- فرع الفيوم
يعلي العقل البشري الحديث من قيمة العمل الجماعي واعتماد روح الفريق وسيلة للإنجاز، ويمثل الدخول للجماعة البشرية حالة من الطموح البشري لتجاوز المشكلات، وهو ما يفسر رغبة الإنسان في تكوين أسرة تمثل فريقا يعمل في إطاره، ومع التقدم البشري أصبح من الضروري بل من اللازم أن يكون العمل جماعيا، فالبشرية تؤيد كثيرا فكرة العمل الجماعي.
وتعول الحياة البشرية كثيرا علي قيمة العمل، وتعمل دائما علي تطوير آلياته، ومع تطور إيقاع الحياة أدرك الإنسان وعرف الفرد قيمة الدخول في جماعة إنسانية: يولد الإنسان في أسرة، وينضم إلي جماعة الدرس، ثم جماعة الأصدقاء، ثم زملاء العمل، ثم أعضاء الفريق في معاهد البحث العلمي، بعدها يتوصل العقل الفردي إلي حقيقة أن هناك أعمالا بعينها لا تتحقق بالفرد ولا يكون لها منجزها الفردي بقدر ما هي تعتمد علي جماعية الأداء وهو ما رسخ في وجدان البشرية قيمة العمل في صورته الجماعية والبحث عن صيغ متعددة للعمل بروح الفريق.
وفي العصر الحديث كان علي الإنسان أن يدرك أن وسائل الاتصال الحديثة، وما فجره العلم من ثورة معلوماتية وتكنولوجية غير مسبوقة ماهي إلا نتاج لعمل بشري جماعي عمل فيه علي التوازي وعلي التوالي عشرات الآلاف من العلماء ومساعديهم، وأن ثورة الاتصال هذه ما كانت إلا لإحداث طفرة من الاتصال يترتب عليها التواصل البشري وأن شبكة الاتصال تضاهي أو عليها أن تكون كذلك شبكة العلاقات الإنسانية(1)، وأن العمل بصيغتيه: التوازي والتوالي تتضافران في تقديم الإنتاج( التوازي تعدد خطوط الإنتاج العاملة في وقت واحد، والتوالي العمل داخل خط إنتاج واحد تتوالي فيه عمليات الإنتاج).
وعبر التاريخ الإنساني من ممارسة العمل واختبار مواقف الحياة توصلت البشرية إلي أن العمل الجماعي إضافة إلي كونه أكثر قابلية للنجاح والإنتاج فإنه أساس أو عامل أكثر فاعلية في نقل الخبرات الإنسانية المباشرة، وأنه بالأساس نوع من ممارسة الإبداع في الإنتاج البشري.
من هنا تأسست لدي المعرفة البشرية أشكال من التنظيمات البشرية أو الجماعات البشرية موحدة الأهداف أو متوافقة التطلعات لمستقبلها ولإدارة حياتها بغية تقديم المنجز الخاص للجماعة بوصفه عنصرا يضاف إلي منجز الإنسانية كلها، فالمصنع، والشركة والمؤسسة، ومجموعة الشركات والشركات عابرة القارات، والشركات عابرة القوميات( علي حد تعبير د. محمد السيد سعيد)(2)، إضافة إلي المنجزات الاقتصادية للدول منفردة أو مجتمعة، كلها تصب في هدف واحد يضاف إلي أهداف البشرية في لحظة نهوضها المقترنة بمساحة زمنية لها ظروفها الخاصة، وكلها وليدة فكر إنساني متطور لم يكن ليوجد لولا خبرة اكتسبتها البشرية وقناعات فكرية توصلت إليها وفرضتها ظروف الحياة المتطورة إذ لم يعد الممتلك سلعة للبيع معنيا بمستهلك يشاركه العيش في حي واحد أو في مدينة واحدة أو حتي في بلد واحد وإنما أصبح الاثنان شبه كونيين، وهي حالة ليست الأخيرة التي توقفت عندها حركة العلاقات المتنوعة بين البشر فالعلم مايزال يفرض علي الحياة منجزاته التي تصب في نهر متدفق من التطور البشري الخلاق.
وفي سياق هذا التطور لا نجد العلاقات قائمة فحسب علي التنظيمات الاقتصادية أو تنظيمات الإنتاج، وإنما يتجلي الأمر في جماعات ربما كانت الأساس لكل هذه التجمعات، نعني التجمعات الفكرية بالأساس التي تبلورت في تنظيمات منها ما له طابع أدبي خاص أو ثقافي عام( المدرسة الفكرية المدرسة الأدبية- الجماعة الأدبية)، ومنها ما له طابع ديني( الجماعات المذهبية- الجماعات الصوفية).
احتاجت الحياة الإنسانية الحديثة إلي التنظيمات، ومن أظهرها وأكثرها اعترافا به من قبل الحياة الحديثة الأحزاب تلك التي لعبت دورها علي مسرح الحياة الإنسانية منذ ظهورها في منتصف القرن الماضي(1950)، وقد حققت الأحزاب العالمية في معظمها مفهومها أو ما يعرفه الناس عن تعريفها مطابقة بين المفهوم وتجلياته في الحياة الواقعية، كما يتجلي في تعريف فرانسوا بوردو الحزب هو كل تجمع لأفراد يبشرون بنفس الأفكار السياسية ويسعون لجعلها تتغلب من خلال مؤازرة اكبر عدد ممكن من المواطنين لها الاستيلاء علي السلطة أوعلي الأقل للتأثير علي قراراتها(3).
وفي الوقت الذي لعبت فيه الأحزاب أدوارا لها أهميتها وفاعليتها علي المستوي العالمي ولها دورها أيضا علي المستوي العربي إبان الخمسينيات والستينيات تراجع هذا الدور في العصر الحديث، حيث لا تخطئ العين نكوصا واضحا ليس مرده سيطرة الحزب الواحد بقدر ما يرجع إلي ضعف الحياة الحزبية عامة، وضعف الأحزاب في البلد الواحد خاصة:' والحياة الحزبية، في العالم العربي، تبدي اليوم ضروبا باهرة من النكوص، تشبه ما واجهته الحياة الثقافية حين ارتد بعض رموزها( محمد حسين هيكل وجزئيا طه حسين..( من أفكار الديموقراطية، والعصرية الي الوعي الغيبي وأشباهه'(4).
ولأن هذا النكوص تزامن مع آلية أنتجتها ثورة تكنولوجيا الاتصال علي مستوي العالم، نعني ظهور شبكة الانترنت وانتشار جمهور المتعاملين معها، ذلك الجمهور المتعاظم منذ ظهورها إلي الآن، يقول الدكتور بشار عباس عن عدد المتعاملين مع الانترنت:' لقد حطمت إنترنت جميع الحدود الإحصائية فقد احتاجت خدمة الراديو إلي38 سنة حتي أصبح لديها50 مليون مشترك بينما احتاجت خدمة التلفزيون13 سنة واحتاج الحاسوب الشخصي إلي16 سنة في حين إن إنترنت احتاجت إلي4 سنوات منذ بدايتها التجريبية حتي تخطت هذا الحاجز'.
وفي عام1996 كان عدد المشتركين40 مليون مشترك تزايدوا في عام1997 إلي أكثر من100 مليون مشترك، وإلي أكثر من230 مليون في النصف الثاني من عام1999، وسيصل إلي300 مليون عام2000، والي مليار مشترك ما بين عامي2003 و2005، ومع تعاظم عدد المستخدمين، يرتفع حجم تبادل المعلومات وفقا لسلسلة هندسية، فهو يتضاعف كل مئة يوم، وهي نسبة مذهلة لها منعكسها الإيجابي علي المستخدمين من حيث حجم المعلومات المتوفرة القابلة للنقل والتحميل، ولكن هذه الظاهرة ستؤدي في النهاية إلي تباطؤ الشبكة. ونظرا لأهمية الانترنت بالنسبة للمؤسسات العلمية والاقتصادية في الولايات المتحدة، فقد درست هذه المؤسسات احتمالات تباطؤ الشبكة، وانطلقت ببناء مشروعين كبيرين هما( إنترنت2)InternetII(5).
في ظل هذا الانتشار للشبكة لجأت الأجيال العربية الجديدة إلي الشبكة بوصفها الوسيلة الوحيدة للمعرفة أو الوسيلة العصرية للمعرفة المفتقدة في المدرسة، والغائبة عن فضائيات تتسابق في تقديم مطربين متشابهي الملامح متشابهات الأعضاء المعراة، وتزايد إغراء الشبكة لما تقدمه من وسيلة جذابة للمعرفة، وسيلة تجمع بين اللعب والمعرفة مماجعل البعض يتساءل عن الشبكة ودورها من خلال هذه الزاوية:' هل هو مجرد لعبة جديدة وحديثة ووسيلة للتسلية وتعبئة لأوقات الفراغ تعوض- لبعض الميسورين من الناس في عالمنا العربي- النقص الحاصل في الروابط الاجتماعية وتفكك الأسرة وفقدان الثقة والمحبة مع الغير نتيجة الثقافة الجديدة التي تغزو مجتمعاتنا. أم هو حاجة ماسة وضرورية لدي البعض لاختصار الزمن وطي المسافات في البحث عن المعرفة بكل أشكالها( حتي الإباحية منها) ليشفي غليله من الحرمان الذي لحق به خلال سنين مضت كان مشغولا فيها بتحقيق نجاحه في عمله واعتنائه بعائلته!.
أم إنه لم يكن- عند البعض الآخر- أكثر من فرصة جديدة تعوض لهم فرصهم الضائعة في تحقيق أحلامهم وأمانيهم للتعبير عن مواهبهم الدفينة المؤجلة في خضم معمعة الحياة التي أبعدتهم عنها لضروريات مهنية أو اجتماعية قاهرة!(6).
لقد آذنت الشبكة بتشكيل حياة حزبية عربية من نوع خاص، تمثلت في أحزاب الكترونية أخذت أشكالا وصيغا الكترونية الطابع ولكنها في النهاية بفعل الاشتراك البشري في إنجازها وتفعيلها ونشرها وتحديثها أخذت طابعا حزبيا يتوافق حتي مع عدد من التعريفات التقليدية الدارجة للحزب:
- هـ. كلن: الحزب عبارة عن تشكيل يضم رجالا لهم نفس الرأي بهدف تأمين تأثير حقيقي لهم علي إدارة الشئون العامة.
- موريس دوفرجيه الحزب عبارة عن تجمع مواطنين متحدين حول نفس النظام والانضباط.
وإذا كانت الأحزاب في نشأتها ترتبط بأحداث حياتية تأخذ أحيانا شكل الأزمات فإن الأحزاب الالكترونية قد ارتبطت بأزمة الإنسان العربي شابا بالتحديد، ذلك الإنسان الذي وجد نفسه يعيش في عالم أكثر اتساعا من محيطه الاجتماعي وأنه يعيش في واقع يفقد فيه الإنسان العربي حلمه القومي، ومشروعه العروبي بالقدر الذي يسمح بمساحات من الفشل والشعور بالإحباط تتسلل إلي محيط وعيه مؤثرة علي طقس حياته اليومية، وعلي تفاصيل يومه أو معطيات مستقبله، تلك الأزمة التي تعمقت جذورها وتأكدت مظاهرها بفعل طرائق التعليم التقليدية التي مازالت تسيطر علي عقول القائمين علي المؤسسات التعليمية العربية في معظم البلدان العربية، وإصرار المدرسة علي عمليات من التلقين لم تعد تقبلها الأجيال الجديدة، ذلك التلقين المرسخ للوصاية، وصاية أفكار ليست قابلة للنقاش ولا تعطي الفرصة للعقل أن يتحرر من أوهامه القديمة.
في ظل الوضع السائد لجأ الشباب العربي، وتبعته أجيال أخري لاحقة أو سابقة للدخول في عملية تشكيل حزبي من نوع جديد، تمثلت في التجمعات البشرية عبر شبكة الانترنت والتي يمكن للمتأمل لها أن يدرك طبيعتها ليست البعيدة تماما عن الحزب بمعناه التقليدي، غير أنها أحزاب لا تتصدرها لافتات حزبية تعبر عن مضمونها الحزبي السياسي بقدر ما تعتمد في قيامها علي أفكار غير سياسية، وإن تداخلت فيها الأفكار السياسية فهي جزء من كل، وليست العماد الأساسي لفكرة قيام الحزب الالكتروني.
للوهلة الأولي قد يبدو العنوان صادما، مباغتا حين تستحضر مفردة' الحزبية' المعني التقليدي، ولكنه لا يبدو كذلك حين نطرح الجانب التقليدي في المعني، لقد خلقت شبكة الانترنت نوعا من الأحزاب البديلة تبلور في المنتديات المتعددة التي تحتضنها، بدأ في شكل تجمعات من الشباب الباحث عن صداقات تتجاوز الحدود المحلية ثم سرعان ما انفتح المجال أمام جميع الفئات العمرية لتتشكل هذه الأحزاب، تلك التي عوضت غياب الأحزاب السياسية العربية والتي نعلم جميعا هشاشة معظمها وغياب فاعليتها وتدهور دورها مما كان له أكبر الأثر علي وعي الشارع العربي وتردي أوضاع الكثير من المجتمعات العربية سياسيا واجتماعيا فضعف الأحزاب يقابله سيطرة الديكتاتورية والحكم الشمولي وتهرؤ المعارضة الحقيقية الذي دفع الأفراد إلي البحث عن واقع له طبيعته الخاصة. فالمنتديات مواقع تعتمد علي تقنية المشاركة التفاعلية للانضمام إليها وهو ما لا يكلفك الكثير، فقط لا تحتاج إلا إلي التسجيل( باسم مستعار في الغالب وهناك منتديات قليلة يكون التسجيل فيها بالاسم الأصلي) لتكون عضوا عاملا، تحكمك مبادئ المنتدي وهي في الغالب لا تخرج عن كونها تحذيرات من تبادل الألفاظ الخارجة، لقد ألجأ ت الحياة السياسية الشباب العربي إلي أن يشكل أحزابه الخاصة علي المنبر التخيلي، ويمارسون نوعا جادا من حرية الفكر وتبادل الأفكار والرؤي، مدشنين مصانع ثرية بأفكارها التي لابد أن تجد فيها علي تعددها ما يمثل طرحا لثقافة جديدة صنعتها العقول العصرية، وقد تميزت هذه الأحزاب بتنوع أعضائها مما فتح المجال أمام حرية التعبير أضعاف ما تتيحه الحياة السياسية، فالحزب السياسي يجبرك علي اعتناق أفكاره السياسية فحسب( فإذا ما أضفنا طبيعة بعض الأحزاب السياسية العربية فإن الفرد مطالب بالعمل علي تحقيق أحلام قادة الحزب، ومن ثم تضيق مساحة تحقيق الفرد لذاته) يأتي ذلك في مقابل اتساع الأحزاب الالكترونية فنظامها يمنح المنتظم فيها حرية تحقيق فكره مادام لا يتعدي حدود الأخلاقيات العامة، ويلتزم بالضوابط المنظمة لعملها التي يمكن بلورتها في ضوابط: أخلاقية وفنية وتقنية، تتجلي تماما في كل المنتديات، تتغير صيغة وأسلوبا ولكنها تحافظ علي مضمونها.
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي