"فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ".. رغم أن هذه الآية تعبِّر عن الحزن الذي خيَّم على صدر نبي الله يعقوب عليه السلام لفقْد أحب ولديه إليه، وهو لذلك يصبِّر نفسه على هذا المصاب الجلل، إلا أنها حملت أيضًا أمله وتفاؤله بعودتهما.
لقد ابتلي نبي الله يعقوب أول الأمر بفقْد ولده يوسف أحب أولاده الاثني عشر بعد أن ملأت الغيرة نفوس إخوته غير الأشقاء من حب أبيه الشديد له، فطلبوا من أبيهم أن يرسله معهم بدعوى أن يلعب ويرتع، بينما أضمروا في أنفسهم أمرًا آخر وهو التخلص منه كي يخلو لهم وجه أبيهم ويعودوا بعد ذلك قومًا صالحين بالتوبة.
ورغم قلق الأب إلا انه أجاب أبناءه إلى ما طلبوا، محذرًا إياهم في الوقت نفسه من أن ينشغلوا عنه باللعب، فيأكله الذئب وهم لاهون، لكنهم أجابوا بردهم الشهير الذي يحكيه القرآن:" لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ".
وبمجرد أن ذهبوا بيوسف بعيدًا عن المنزل، نفذوا ما أضمروه، فألقوه في غيابت الجب (أي في بئر)، ثم عادوا إلى أبيهم في ظلمة الليل متظاهرين بالبكاء والحزن على أخيهم، مختلقين عذرهم من نفس الأمر الذي كان يخشاه أبوهم وهو الذئب، فقالوا :" يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا، فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ".
لكن يعقوب عليه السلام أدرك أن أبناءه الذين عادوا بقميص يوسف ملطخًا بدماء دون أن يُمس بخدش ولو بسيط قد دبروا مكيدة كي يتخلصوا من أخيهم ليقع ما كان يخشى.
لمّ الشمل
وتمر السنون على يعقوب عليه السلام ولازال ابنه شاغلاً مكانه في عقله وقلبه، حتى أصاب بلدهم مجاعة وقحط، فأرسل نبي الله أبناءه إلى مصر لجلب القمح، في الوقت الذي كان فيه يوسف قد تولى خزائن مصر بعد رحلةٍ طويلة مليئة بالأحداث.
ووصل إخوة يوسُف مصر، فدخلوا على يوسف دون أن يعرفوه، لكنَّه عرفهم، فتقدموا بطلبهم وهو حصة من الطعام لهم ولأبيهم وأخيهم الصغير (بنيامين)، لكن يوسف اشترط عليهم أن يأتوا بأخيهم الأصغر مقابل هذه الحصة، فعادوا إلى أبيهم بطلب العزيز.
وبعد نقاش ومواثيق وافق نبي الله يعقوب على أن يذهبوا بأخيهم الآخر، وكان يوسف قد دبر حيلة كي يستبقى أخيه معه، وبالفعل عاد إخوته إلى أبيهم بدونه، الأمر الذي زاد من حزن الأب وكثرة بكائه على ولديه حتى ذهب بصره.
لكن هذا الحادث الأخير كان له نتيجة عكسية في نفس يعقوب، فبدلاً من أن يأمل في عودة الأخير فقط زاد أمله في عودة يوسف أيضًا رغم ما مر من السنون على فقدانه.
وبالفعل طلب من أبنائه أن يخرجوا للبحث عن يوسف أولاً وبنامين ثانيًا قائلاً: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87].
واستجاب إخوة يوسف لأبيهم، فرجعوا إلى عزيز مصر يناشدونه العفو عن أخيهم الذي اتهم بالسرقة كحيلةٍ استبقاه يوسف بها، لكن يوسف كشف لهم عن نفسه، وصفح عنهم في نفس الوقت.
ثم بدأ يوسف في علاج ما أصاب أبيه فبعث إخوته بقميصه وطلب منهم أن يلقوه على وجهه ليرتد إليه بصره، ودعا يوسف أبيه إلى مصر ليلتئم شمل الأسرة من جديد ويعود ليعقوب ولديه أيضًا.