موضوع: الارادة تولد العزيمة الجمعة مايو 20, 2011 10:53 pm
إطلاق البصر سبب من أسباب فتنة المسلم في دينه، وهو سبب في وقوع الإنسان في الهوى وتبعاته، وهو من أخطر المعاصي التي يقع فيها كثير من الناس، وهم لا يعلمون، ولذلك جاء الأمر القرآني بوجوب الغض من الأبصار، قال تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) (النور).
فالنظر بريد الزنى، لذلك ذكر الله حفظ الفرج بعد غض البصر؛ لأنه سبب له، ومقدمة للوقوع فيه، وختم الله الآية بقوله تعالى: (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ)؛ أي طهارة ونقاء للقلوب والنفوس.
إن الله تعالى نهى النساء عند المشي عن أن يضربن بأرجلهن، سواء كان بالحذاء أو بالخلخال، حتى يُسمعن الرجال، فيلفتْن الأنظار، قال تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) (النور: من الآية 31).
وأجمعت الأبحاث على أن المؤثرات الخارجية- وأهمها: البصر واللمس والشم والسمع على الترتيب- هي التي تتحكَّم في انطلاق الإثارة الجنسية، وأن إفراز الهرمونات الجنسية التي تحفز السلوك الجنسي تأتي تبعًا لذلك.
فالصورة تمر من العين إلى المخ، فتُحدث تغيُّرات في وظائف الجسم المختلفة، وكذلك الرائحة والصوت، تمر من الأنف والأذن إلى المخ، وتُحدث تغيرات في الجسم، فيشعر الإنسان بعدم الاستقرار والاضطراب. ولما كان التمادي في البصر وتكراره يوقع العين في الزنى، فجاء التحذير النبوي في الحديث؛ قال صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان وزناهما النظر" (الحديث ذكره الإمام المنذري في الترغيب والترهيب 3/88 إسناده صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه).
وإطلاق النظر الحرام مدخلٌ من مداخل الشيطان؛ حيث يتلذَّذ الإنسان بالنظر إلى محاسن المرأة دقائق معدودة، ثم يتألم بعد ذلك، وقد يقوده ذلك إلى الحرام.. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (النور: من الآية 21)، وفي الحديث: "ما تركت بعدي فتنة أضرَّ على الرجال من النساء" (الحديث أخرجه الإمام البخاري (5096) عن أسامة بن زيد رضي الله عنه).
فالشيطان دائمًا يجعل صورة المرأة عند الرجل موضعًا لتحريك فكره وغريزته، فجاء التحذير النبوي في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه" (الحديث أخرجه الإمام مسلم (1403) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه).
فالنظرة تولِّد الخطرة، والخطرة تولِّد الفكرة، والفكرة تولِّد الشهوة، والشهوة تولِّد الإرادة، والإرادة تولِّد العزيمة، والعزيمة تولِّد الفعل، والفعل يولِّد الطبع، فكن على حذر من الخطوة الأولى، وهي النظرة المحرمة.. قال الشاعر: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء (فمصيبة) وقوال آخر: فكان ما كان (مما أنت تعرفه) (فظن شرًّا) ولا تسأل عن الخبر
ولقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا بإعطاء الطريق حقه، وقد سئل: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر" (الحديث أحرجه الإمام البخاري (6229) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه).
من آثار إطلاق البصر - التعرض لنزول البلاء: قال الإمام علي رضي الله عنه: "ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة"، وفي الأثر أيضًا: "إن العبد ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه" (الحديث ذكره الإمام المنذري في الترغيب والترهيب 3/289 عن ثوبان رضي الله عنه).
- نسيان العلم: لأن العلم نور من الله والمعصية ظلام في القلب، ولا يجتمع النور والظلام في موضع واحد، وأنشد الشافعي رحمه الله: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يُهدى لعاص
- فساد القلب: وهو محل الإيمان ومحل نظر الله من العبد، فالنظرة تفسد الإيمان في القلب كما يفسد السهم الرمية، فإن لم تقتله جرحته، قال ابن القيم- رحمه الله-: "وقد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب، فإذا غضَّ العبد بصره غضَّ القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته".
فوائد غض البصر كل عضو له تمام ونقصان، وتمام العين البصر، ونقصانها في العمى، والبصر نعمة من أعظم النعم، لا يعرف قيمته إلا من فقده؛ لذلك يجب أن يستخدمه الإنسان في النظر إلى ما أحلَّ الله، وليس إلى ما حرم الله.
ومما يعين على غض البصر ما يأتي: - التحصُّن بتقوى الله عزَّ وجلَّ، والخوف من غضبه وعذابه في الدنيا والآخرة.. قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) (الطلاق: من الآية 2).
- استشعار المراقبة والمحاسبة من الله تعالى في كل نظرة من نظرات العين.. حيث يقول: (إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء: من الآية 1)، وقال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر: 19)؛ فالله هو وحده الذي يعلم الخفايا والطوايا، ويعلم ما يفكر فيه الإنسان، ومن حوله من الناس لا يشعرون به، وأن يستشعر أن الجوارح كلها محل سؤال من الله يوم القيامة، والله يقول: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئولاً) (الإسراء: من الآية 46).
- دفع الوساوس والخواطر السيئة قبل أن تتحول إلى عزم أو فعل، وذلك بمجاهدة النفس وقطعها عن الاسترسال والتمادي في النظر الحرام، "والصبر على غض البصر أيسرُ من الصبر على ألم ما بعده"، وتوجَّه النبي صلى الله عليه وسلم بالنصيحة إلى سيدنا علي رضي الله عنه ليحفظ له إيمانه وتقواه؛ حيث إن إطلاق النظر يُذهب الإيمان ويُضعف التقوى، فقال يا علي: "لا تُتبع النظرة النظرة، فإن الأولى لك والثانية عليك" (الحديث أخرجه الإمام أبو داود (2149) عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه)، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال: "اصرف بصرك" (الحديث أخرجه الإمام أبو داود (2148) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه). - الاستعانة بالزواج المبكر أو الصوم؛ فإنهما وقاية من الانحراف، وفي الحديث: "إذا أحدكم أعجبته امرأة فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليوقعها، فإن ذلك يرد ما في نفسه" (الحديث أخرجه الإمام مسلم (1403) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه)، وقال في الحديث: "ومن لم يستطع- أي الزواج- فعليه بالصوم فإنه له وجاء" (الحديث أخرجه الإمام البخاري (5065) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه)؛ أي وقاية من المعاصي؛ لأنه يُضعف أثر الطعام في الجسم فيكون الإنسان هادئ النفس.
- الخوف من سوء الخاتمة أو الموت على المعصية، وفي الحديث: "يُبعث كل عبد على ما مات عليه" (الحديث أخرجه الإمام مسلم (2878) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه) فلماذا لا يتخيل الإنسان أنه قد يموت على معصية ولا يتوب منها فيضع نفسه في حرج أمام الله يوم القيامة.
- مصاحبة الأخيار والصالحين والبعد عن الأشرار ومجالسهم؛ فطبائع الناس يعدي بعضها بعضًا بالمعاشرة والمخالطة، قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف: من الآية 28) وفي الحديث: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" (الحديث أخرجه الإمام أبو داود (4833) عن أبي هريرة رضي الله عنه).
- الاستعانة بالله من خلال الدعاء المستمر؛ فالعبد الصالح هو الذي يطلب الحماية من سيده بأن يحفظه من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ومن الأدعية المأثورة: "اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري" (الحديث أخرجه الإمام أبو داود (5090) عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه).
من ثمرات غض البصر 1- يورث القلب نورًا وإشراقًا وقوةً وشجاعةً وسرورًا وفرحًا، وينعكس هذا النور على الجوارح والأعضاء، ولذلك فإن المتقين هم أحسن الناس وجوهًا.
2- يورث صحة الفراسة، قال أحد الصالحين: "من عمَّر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغضَّ بصره عن المحارم، وكفَّ نفسه على الشهوات، وأكل من الحلال؛ لم تخطئ فراسته".
3- يورث محبة الله تعالى ومرضاته والحياة الطيبة، والله تعالى يقول: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) ((طه: من الآية 123).
4- تذوُّق حلاوة الإيمان، فإذا كان إطلاق النظر يُذهب الإيمان، ويُضعف التقوى، فإن العكس صحيح، والمحافظة عليه تقوِّي الإيمان والتقوى، وفي الحديث: "ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه" (ذكره الإمام المنذري في الترغيب والترهيب 3/86 في إسناده ضعف عن أبي أمامة رضي الله عنه).
فثمرة المجاهدة أن يستشعر حلاوة الإيمان (ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه) (الحديث ذكره الإمام أبو نعيم في الحلية 2/224 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه).
5- دخول الجنة: ولقد ضمن الرسول صلى الله عليه وسلم الجنة لمن تحكَّم في جوارحه، وحافظ عليها من الآفات المحرمة، فقال: (اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم أضمن لكم بهنَّ الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، وأوفوا إذا واعدتم، وغضُّوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفوا أيديكم) (الحديث ذكره الإمام المنذري في الترغيب والترهيب 3/269 عن عباده بن الصامت رضي الله عنه).
إن القوة والرجولة الحقيقية هي أن يكون الإنسان متحكمًا في غرائزه وشهواته، وليست هي التي تتحكَّم فيه، وألا يضع نفسه في موضع يلام عليه، وأن يكون يقظًا من مداخل الشيطان، فلا يترك له ثغرة ينفذ منها إلى إيمانه وقلبه وتقواه، كما أن مجاهدة النفس والشيطان أشدُّ من مجاهدة الأعداء والخصوم، والله تعالى يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: من الآية 69).
نسأل الله أن يعيننا على حفظ الجوارح، وأن يحفظنا من الذنوب والمعاصي، ما ظهر منها وما بطن.