معظم كتب التاريخ المدرسية العربية تتجنب الحديث عن الأتراك بعد إنشائهم دولتهم القومية
بيروت: فاتن الحاج
يتناول الدكتور ابراهيم الداقوقي في كتابه الصادر عن «مركز دراسة الوحدة العربية» بعنوان «صورة الاتراك لدى العرب» العلاقات العربية ـ التركية في علاقاتها المتشابكة بعيداً عن الاحكام المسبقة او اطلاق شعارات ايديولوجية وحماسية حتى تكاد تتساءل عن وجهة نظره الشخصية حيال هذه العلاقات، إذ إنك لا تشعر في اية زاوية من زوايا الكتاب انه مع او ضد هذا الطرف او ذاك، لفرط موضوعيته ، وهو جانب يحسب له. وهو يتوصل إلى نتائج علمية موضوعية إنطلاقاً من فرضيات اربع. تتمثل الاولى بالوصاية الفكرية التي فرضتها السلطة السياسية على الرأي العام العربي مما «جعل الاعلام العربي مغترباً عن واقعه الاجتماعي وتابعاً يلهث وراء الاعلام الغربي من حيث المضمون والسياسات والنظم».
وتشير فرضية الكاتب الثانية الى صورتين سلبية وايجابية للاتراك لدى النخب السياسية والفكرية العربية. ففي الوقت الذي يعتبر فيه دعاة الفكر القومي في الجناح الشرقي من الوطن العربي الحكم العثماني للبلاد العربية استعماراً تركياً تعده النخبة في الجناح الغربي من الوطن العربي حماية لها من الغزو والاستعماري الغربي - الصليبي.
اما الفرضية الثالثة فترى ان الصور السلبية المقولبة التي تحملها النخب السياسية والفكرية العربية نابعة من عدم الثقة التي يشعر بها حكام كل طرف حيال القابضين على الحكم في الطرف الآخر بسبب تراكمات الماضي وانقطاع الصلة بينهما وعدم محاولاتهما تطوير علاقاتهما لمعرفة احدهما بالآخر بشكل افضل.
ويصوغ الباحث فرضيته الرابعة انطلاقاً من وجود فجوة دينية - ثقافية بين العرب والاتراك انعكست على التيارات السياسية المختلفة التي نشأت بعد ان برز في تركيا التيار القومي العلماني الراديكالي في حين استمر التيار الديني التقليدي في البلاد العربية. كما تورط الطرفان في مشاكل عديدة نتيجة اتهام الاتراك للعرب بمساندة الارهاب الاسلامي الاصولي ضد تركيا العلمانية في حين وصفت تيارات القومية العروبية والاسلام السياسي الدولة التركية الحديثة بـ«دولة اليهود التي تأتمر بأوامر واشنطن وتل ابيب». ويطالعنا الداقوقي بثلاث مواجهات رئيسية بين العرب والاتراك كانت لها آثارها السلبية في علاقاتهما السياسية من جهة وآثارها الايجابية في عملية التثاقف بينهما الذي استمر قرابة الالف عام، من جهة ثانية.
فالمواجهة الاولى ـ يقول الكاتب ـ جرت في آسيا الوسطى عندما بدأت الفتوحات العربية فيها ووقع الاتراك تحت تأثير الحضارة العربية والاسلامية منذ ذلك التاريخ. وحصلت المواجهة الثانية خلال الحرب العالمية الاولى عندما ثار العرب بقيادة الشريف حسين ضد الادارة الفاسدة للاتحاديين، والتي سرعان ما تحولت الى مواجهة دموية بعد تعاون العرب مع الانجليز. وفي هذه الفترة بدأت تتكون الصور النمطية لدى كل من الطرفين نتيجة تراكم الاحكام المسبقة لديهما والتي انعكست على علاقاتهما المستقبلية سلبياً لفترة تزيد على نصف قرن.
ويرى الداقوقي ان المواجهة السياسية انطلقت من ممارسة تركيا سياسة خارجية تتجاهل العرب منذ اربعينات العصر او تتحالف مع خصومهم، بتركيزها سياسياً على اوروبا الغربية وحلف الاطلسي لكسب الهوية الاوروبية مع تجاهل هويتها الشرقية الاسلامية. وعلى الرغم من ان تركيا عادت تتطلع الى جاراتها العربية غير ان هذه العودة شابها العديد من الانقطاعات نتيجة الخلاف التركي مع كل من سورية والعراق حول المياه ومشاكل الحدود والاقليات والموقف العسكري من العراق خلال حرب الخليج الثانية ومكافحة نشاطات حزب العمال الكردستاني ضدها، فضلاً عن محاولتها دمج اسرائيل في بنية الشرق الأوسط من خلال اتفاقياتها العسكرية المعقودة معها وانسجامها مع الاستراتيجية الاميركية في المنطقة.
ولكن رفض المجلس الاوروبي قبول تركيا في النادي الغربي دفع تركيا مرة اخرى للاتجاه نحو الشرق والعودة لتأكيد هويتها الشرق اوسطية كجزء من هويتها العامة. ازاء هذه المواجهات الثلاث، كيف عاجلت وسائل الاعلام العربية العلاقات العربية - التركية؟ للإجابة عن هذا السؤال يحلل الكاتب مواد 13 صحيفة عربية في فترة لا تتجاوز الستة اشهر فيبين نسبة المواد التي تتحدث عن صورة الاتراك لدى العرب الى مواد الصحيفة العامة ليخلص الى ان معظم الصفات غير الحميدة، كانت تنصبّ في مواد هذه الصحف على الحكام الاتراك واستبدادهم ومعاداتهم للدين الاسلامي بحجة حماية النظام العلماني ـ الديمقراطي ومن اجل مكافحة الرجعية (الصفة التي تطلقها الاوساط الرسمية على المد الاسلامي في البلاد). ويظهر الباحث، مستعيناً بالجداول، ان صحيفة «الشرق الاوسط» احتلت الأولية في تناول الشؤون التركية وتحليلها، في ضوء العلاقات العربية ـ التركية من جهة وظروف تركيا الداخلية من جهة اخرى، اذ بلغ عدد المواد التركية المنشورة، خلال فترة البحث، 313 مادة اعلامية من اصل 539 تناولت هذا الموضوع، كما انفردت هذه الصحيفة، على حد تعبير الداقوقي، بايراد اخبارها عن طريق مراسليها المبعوثين في مختلف انحاء العالم ومنها تركيا.
اما في ما يتعلق بالمسلسلات الاذاعية والتلفزيونية والافلام العربية فهي ايضاً، كما يؤكد الكاتب، لم تعط اهمية لشخصية التركي في القرن العشرين كما لم تتناول مشاكله وظروف حياته وعلاقاته بمحيطيه المحلي والدولي، ولاسيما علاقاته بالعرب والمسلمين في هذه الظروف السياسية المتشابكة والتحديات التي تواجه شعوب المنطقة في عصر العولمة.
وفي دراسته للنصوص المتعلقة بالاتراك في معظم كتب التاريخ المدرسية العربية، استنتج الباحث انها تتحدث عن العهد العثماني منذ بدايات القرن السادس عشر الى اوائل القرن العشرين وتتجنب الحديث عن الاتراك بعد انشائهم لدولتهم القومية عام 1923. ويؤكد الداقوقي ان وجهات نظر مؤلفي هذه الكتب المدرسية حول الاتراك تختلف باختلاف الانظمة السياسية في الاقطار العربية ولكنها تتفق على ان الحكم العثماني للولايات العربية كان حكماً استبدادياً مشوباً بالظلم والاضطهاد وعزل العرب عن اللحاق بركب الحضارة والمدنية الحديثة.
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي