يعتبر الاستعمار الفرنسي للجزائر 1830 –1862 م تجربة خاصة واسلوبا متميزا في فرض الهيمنة الاوربية على احد الاقطار الاسلامية بسبب تناقضه مع التوجهات الاوربية والقيم الحضارية التي تؤمن بها.
وهنا في موضوعنا فان الاهداف الفرنسية تتناقض بشكل واضح مع المنشور الموجهه الى سكان الجزائر. فقاموا – في الواقع- بتحطيم بنية المجمع الجزائري والقضاء على الاسس المادية والقيم الحضارية والشعور الديني ومحاربة اللغة العربية وقاموا باحياء النزاعات الاقليمية والنزاعات لتسهيل عملية السيطرة ، في حين قالوا – الفرنسيين- بانهم ( لم يأتوا للمحاربة ) وانهم ادعوا بان (العمل بالدين المحمدي سيكون حرا).
الممارسات الفرنسية في الجزائر :
1) تصفية الاوقاف :
لقد كانت الاوقاف المحبسة على الاوقاف الخيرة وخاصة في الاماكن العبادة تؤدي خدمات اجتماعية وثقافية واقتصادية في المجتمع الجزائري ،فقد وجد فيها الجزائريون وسيلة للحد من مظالم الحكام والتهرب من اجراءات المصادرة ونزع الملكية ، لكن في نظر الفرنسيين كانت عائقا في وجهه سياساتهم القائمة على الاستيلاء ، فبادروا بسن قوانين تهدف الى الاستيلاء على الاملاك والاراضي وتحويلها الى ملكيات خاصة بهم ، فاستولوا على 27 مسجد و11 زاوية ومصلى ولم تعد الاملاك الموقوفة المسجلة في دفاتر نظار الاوقاف تزيد عن 293 وقفا سنة 1834م وكانت قبل ذلك لا تقل عن 500 وقف.
وبذلك سهل على الادارة الفرنسية تصفية الاوقاف بمقتضى قانون 1873م ، وفقد الجزائريون احد الاسس التي تقوم عليها حياتهم الثقافية والدينية والاجتماعية.
2)المصادرة والغريم والطرد من الاراضي:
انتهج الفرنسيون اسلوب المواجهه العسكري للقضاء على المقاومة الجزائرية المنظمة ، وحتى بعد القضاء على هذه المقاومة تصدت القوات الفرنسية بكل قوتها للانتفاضات الشعبية ولم يتمكن الفرنسيون من وضع حد لها الا بعد الحرب العالمية الاولى 1919م. وعاقبت فرنسا الثائرين بالاستيلاء على ملكياتهم ، وقدر عرف هذا الاسلوب (بسياسة الارض المحروقة) . وبهذا الاسلوب تم ترحيل العديد من الجزائريين الى الاماكن المنعزلة والفقيرة.
وقد بلغت عمليات المصادرة والتغيرم اوجها مع ثورة الرحمانيين بزعامة المقراني ، فقد عمدت السلطات الفرنسية بعد القضاء على الثورة الشعبية في مناطق الشرق الجزائري الى مصادرة مساحات شاسعة مع فرض غرامة مالية بقيمة مائة فرنك على كل بندقية محتجزة.
صاحب هذه الاجاراءات التعسفية صدور قوانين تسهل عملية الاستحواذ على اراضي الجزائريين وتحويلها الى ملكيات اوربية ، فاعتبرت الاراضي التابعة للسلطة الجزائرية السابقة (البياليك) ملكا للادارة الفرنسية باعتبارها الوريثة للسلطة التركية في الجزائر. نتيجة لذلك اصبح غالبية الجزائريين تعيش على اراضي فقيرة بعد ان كان يملك اباءهم واجدادهم تلك الاراضي التي استولت عليها فرنسا.
3)مراقبة المكاتب العربية :
تعود نشأة المكاتب العربية الي السنوات الاولى للاحتلال، وكان مهمتها اولا التكفل بالمراسلات والعلاقات مع العرب خارج المدن ،ثم انيطت بها ترجمة بها ترجمة الوثائق المتعلقة بسكان العرب.
وقد ادت المكاتب العربية بالدور المنوط بها وهو مراقبة تحركات الجزائريين واخضاعهم نفسيا ومحاصرتهم معنويا واحباط كل توجه معاد للجيش الفرنسي .
كان هدف الادارة الفرنسية في عهد الامبراطورية تحويل فرنسا الى مستعمرة اوربية ومملكة عربية ومجال استغلال رأسمالي اوربي ، لكن معارضة المعمرون الاوربيين بالجزائر هذا التوجهه لانهم كانوا يطمعون للاستحواذ على المزيد من الاراضي فطالبوا بالغاء الحكم العسكري للجزائر وهو الاساس الذي يقوم عليه المكاتب العربية، وتحقق لهم ذلك بعد سقوط نابليون الثالث ، وتمكنوا السيطرة على مقدرات الجزائر في المكاتب العربية ، فانحصر دور المكاتب العربية في اقاليم الجنوب الصحراوية التي ظلت تحت الحكم العسكري الى السنوات الاخيرة من الوجود الفرنسي بالجزائر.
4)إقرار مراسيم مجلس الشيوخ الفرنسي :
التي كان هدفها تطوير القوانين المتعلقة بتنظيم الاحوال الشخصية وحيازة الاراضي تحقيقا لاهداف المكاتب العربية ، فهي ترمي الى تفتيت المجتمع الجزائري بالقضاء على القبيلة والعمل على دمجه بالمجتمع الفرنسي وسلخه عن احواله الشخصية الاسلامية وابعاده عن قيمية الحضارية.
وعن طريق مراسيم هذا المجلس ادى الى الغاء كيان القبيلة كوحدة اساسية يقوم عليها النظام في الجزائر بفعل تحديد اراضيها واخضاعها للبيع ، فبذلك فقد الجزائرون الريف الذي يحفظ لهم مصادر رزقهم فلم تعد القبيلة تحميهم في مواجهه اجراءات الادارة الفرنسية الجائرة.
5)تطبيق احكام قانون الاهالي:
وعرف هذا القانون بالانديجينا الذي يقوم باجراءات استثنائية خولت للحكام الفرنسيين بالجزائر خارج صلاحيات القوانين الفرنسية العادية ، وطبقت على نطاق واسع اثر ثورة الرحمانيين واستكملت تنظيماتها مع حلول سنة 1881م. وتحولت بمقتضى هذا القانون اختصاصات السلطة القضائية الى السلطة التنفيذية ، وبذلك سقطت الضمانات المألوفة لحرية الافراد بحجة المحافظة على الامن والاستقرار، وتنفيذ اجراءات الحبس والمصادرة والتغيرم بدون حكم قضائي ومنع التنقل الا برخصة وحظر التجمع لاكثر من خمسة اشخاص دون اذن مسبق وتغيرم كل فرد يرفض العمل في مزارع المعمرين وقت الحصاد ، وغيرها من القوانين الغريبة.
ولعل اشد اجراءات الانديجينا ضررا بالجزائريين هي الاخذ بمبدأ المسؤولية الجماعية عند وقوع الجناية الذي اعتبر ان سكان أي جهه يقع فيها اعتداء على اوربي او ترتكب فيه جنحة تمس المصلحة العامة مسؤولون عن ذلك ويخضعون للعقوبة الجماعية المترتبة على تلك الجنحة.
6)توطين العنصر الاوروبي واحلاله محل العنصر الجزائري :
ارتبط الاستعمار الفرنسي بسياسة تشجيع الاستيطان الاوربي بالجزائر ومنحهم الجنسية الفرنسية ، فقدمت لهم المساعدات ووفرت لهم الخدمات ومنحتهم الاراضي وخفضت الضرائب لكل اوربي يرغب بالاستقرار بالجزائر ، فبدأت التجمعات الاوربية بالمدن والريف وكانت مدينتا الجزائر ووهران اولى المدن التي استقطبت المهاجريين الاوربيين، بل وفكرت بنقل موارنة لبنان الى الجزائر لانها جماعات غربية متفهمة للادارة الفرنسية .
كما طبق قانون التجنيس التلقائي الذي يعتبر كل اوربي ولد بالجزائر فرنسيا ولو كان ابواه غير فرنسيا ، فادمجت بفعل هذا القانون اعدادا كبيرة من الجاليات الاسبانية والايطالية والمالطية المقيمة في الجزائر.
دت هذه السياسة الى تزايد اعداد الاوربيين بالجزائر فتعددت مستعمراتهم السكنية بعد ان استقر في الجزائر اكثر من ربع مليون اوربي مع مطلع القرن العشرين.
7) اعتماد اسلوب إداري يقوم على استغلال الجزائريين لفائدة العنصر الاوربي في الجزائر :
أحدثت الاساليب الادارية التي اجرتها الادارة الفرنسية في الجزائر الى اعطاء البلديات التي يتواجد بها العنصر الاوروبي صلاحيات كاملة مثل حق الانتخاب والتعليم ، بينما نظمت اداريا بلديات ناقصة الصلاحية (البلديات المختلطة) في الجهات التي يسود بها العنصر الجزائري ، وقد طبقت سياسة تعليمية في هذه الجهات وغيرها لغير صالح الجزائريين، فقد عملت المصالح الادارية الفرنسية على إهمال الكتاتيب القرآنية ومنع تعليم اللغة العربية ومبادئ الدين الاسلامي في المدارس الرسمية .
تطوير اقتصاد اوربي بالجزائر على حساب التقاليد الفلاحية والحرفية للجزائريين: يقوم الاستعمار الفرنسي في الجزائر على امتلاك الارض واستغلالها لفائدة المعمرين الاوربيين ، وحتى يتحقق ذلك قدمت الادارة الفرنسية المساعدات للمزارعين الاوربيين وسمحت لهم باقتناء الالات الحديثة من المصانع الفرنسية، الامر الذي ادى الى تحسين الانتاج الزراعي ، هذا النجاح كان على حساب الغالبية الجزائرية التي ظلت تعيش على الهامش.
وقام الفرنسييون ايضا بدمج الاقتصاد الجزائري بالفرنسي وجعل السوق الجزائرية حكرا على الفرنسيين كما سندت ذلك قوانينهم . وغلبت على الاقتصاد في الجزائر المبادرة الفردية فكان التوجه العالم لهذا الاقتصاد قائما على اخضاع الزراعة لقواعد السوق التجارية ، الامر الذي ادى الى تحديث الالات والالتجاء الى القروض واستخدام الايدي العاملة الرخيصة مما نتج عن ذلك اعوام (الازدهار العجيب )
الحصيلة :
ادت الممارسات الفرنسية السابقة الى عرقلة عملية التطور الطبيعي للشعب الجزائري ، تلخصت مظاهرها بالتالي :
1)ضرائب ثقيلة وغرامات مرتفعة وتلاعب بالقوانين وتفسيرها لصالح الاوربيين: وقد نتج عن ذلك افقار الجزائريين فاضطر قسم كبير منهم الى العمل كأجراء يوميين في الاراضي التي كانت في حوزتهم ثم اصبحت بفعل سياسة فرنسا ملكا للاوربيين ، مع ذلك فان الجزائريين كانوا ملزمين بدفع ضرائب ثقيلة قدرت قيمتها ضعفي ما كان يساهم به الاوربيين.
2)اجراءات غير قانونية ادت الى تجريد الجزائريين من املاكهم واراضيهم:
تلك القوانين التي عرضتهم لعمليات المقايضة والسمسرة والربا التي امتازت بالتلاعب مما ادى الى افلاس الكثير من الجزائريين ليفقدوا بذلك ما يملكونه.
3)أزمات اقتصادية خانقة :
انخفاض مريع في مستوى المعيشة ،بالاضافة الى الاثار المضرة الناتجة عن تطبيق قوانين جائرة ، وقد تسبب ذلك في ظهور مجاعات كان اشدها ضررا عام (1867 –1868م) التي اهلكت مالا يقل عن 000 400 فرد.
4)انهيار ديموغرافي :
نتيجة تكرر الانتفاضات واعمال القمع والمجاعات وغيرها فقد ظلت الجزائر تعاني نقصا في عدد السكان حتى مطلع القرن العشرين .
5)استفحال ظاهرة الهجرة الى المشرق ثم الى فرنسا :
اضطر الكثير من الجزائريين الى مغادرة وطنهم هروبا من النتائج التي سببتها الممارسة الفرنسية الى البلاد العربية الاسلامية ، ثم تحولت الهجرة تحت وطأة الضائقة الاقتصادية الى فرنسا .
6)اقتصاد تقليدي يعتمد على زراعة متأخرة ومجال رعي متقهقر :
بسبب استيلاء الاوربيين على الاراضي وتجريد الجزائريين من ملكيتها .
7)اقتصاد اوربي دخيل يقوم على زراعة متطورة تلبي حاجات السوق الفرنسية:
فقد وجه الاقتصاد الاوربي في الجزائر نحو المحاصيل الاساسية القابلة للتبادل التجاري وذلك تلبية لحاجة السوق الفرنسي ، مما اكسب طابعا استعماريا رأسماليا.
لعل اهم حصيلة للاستعمار الفرنسي بالجزائر هو انهيار اسس البناء الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع الجزائري وتحطيم البنية الذهنية والثقافية للجزائر ، فرغم استرجاع الجزائر لسيادتها ونيل استقلالها 1962م الا انها لازالت تعاني من اثار الممارسة اللا انسانية للادارة الفرنسية .
javascript:emoticonp(':%D8%B4%D9%83%D8%B1%D8%A7:')