لغيرة شعور متأصل في طبائع الناس، خصوصاً الغيرة بين المرأة والرجل التي يمكن أن تكون مقبولة عندما تنحصر في حدود معيّنة، ولكنها تصبحُ مُدمِّرة إذا تجاوزت هذه الحدود، وفي كثير من الحالات تؤدي الغيرة العمياء الى حوادث عنف بين المرأة والرجل، وتكون سبباً في انهيار البيوت، وتفكّك العائلات، وتشرُّد الأطفال. بعض أسباب الغيرة قد تكون واقعية، ولها ما يبرِّرها، وبعضها الآخر هو وليد التصوُّرات والأوهام المبالغ بها، وهنا يتمُّ التعامل معها كمرض يستدعي تدخُّل الأطباء المختصّين. في هذا التحقيق تستعرض «لها» قصصاً لنساء ورجال أفسدَتْ الغيرة حياتهم الزوجية، كما تستعرض نظرة علم النفس وعلم الإجتماع الى هذا الموضوع.
الغيرة الطبيعية والغيرة المرضية في نظر علم النفس
يرى الدكتور ناصر لوزة أمين عام الصحة النفسية في مصر أن الغيرة سلوك طبيعي، ولهذا يغار الرجل وكذلك المرأة، ولكن لكل سلوك حدود، فإذا تجاوز الإنسان هذه الحدود فإنه سيصبح منحرفاً في تصرفاته، ومن الممكن أن تتحول الغيرة إلى مرض، بحيث يطلق عليها الأطباء إسم غيرة مرضية تصل بصاحبها إلى ارتكاب جرائم. وملفات الشرطة مليئة بهذه النماذج التي فقد أصحابها السيطرة على أنفسهم وأصبحوا أسرى لغيرتهم. ولا أظن أن غيرة الرجل الشرقي تزيد عن غيرة الأوروبيين أو الأميركان، وبالمناسبة فلا علاقة لغيرة الرجل على زوجته بكونها حسناء، فهناك من يغارون على زوجات ليس لهن نصيب من الجمال والعكس فهناك زوجات حسناوات يغرن بشدة على أزواج بلا وسامة. ويؤكد الدكتور ناصر أن هناك حالات من الغيرة تحتاج إلى علاج دوائي للتخلّص من هذا المرض، ويجب أن يذهب الرجل الغيور بشجاعة إلى الطبيب النفسي حتى يتم فحصه والتأكد من حاجته إلى علاج أو نصائح نفسية.
خيط رفيع بين الصحّة والمرض
ويرى مستشار برامج السلوك الاجتماعي ومدير العيادات الخارجية والخدمة الاجتماعية الطبية في مستشفى حراء في السعودية الدكتور عادل الجمعان أبرز أنواع الغيرة المدمّرة هي الناشئة بين الأخوان والتي تبدأ منذ بدايات حمل المرأة بالطفل الثاني، وتأتي بعدها الغيرة في العمل باعتبار أن الفرد يمضي معظم وقته بين زملائه. ويضيف: «تتحول الغيرة بين الزوجين إلى مرض إذا أصبحت هاجساً تدعمها أمور عديدة، من ضمنها الحب الزائد، الذي يفصل بينه وبين الغيرة المرضية خيط رفيع»، مشيراً إلى أن المجتمع العربي بوجه عام ذكوري، مما يجعل غيرة الرجل عالية جداً، حيث لا تستنكر عليه تلك الغيرة، بل ينبذ الرجل الذي لا يغار على زوجته». ويلفت الى أن «الغيرة المرضية ليست سلوكاً سوياً. وشعور الرجل بالنقص يجعله يقتنع بأنه لا يستحق زوجته، إضافة إلى يقينه بأن النساء لا يختلفن عن بعضهن بحكم وجود علاقات غير سوية له خارج منزله تجعله يدخل في دائرة الشك»، موضحاً أن الإسلام دعا إلى الغيرة المحمودة على الزوجة بشكل يحفظ كرامتها ويشعرها بقيمتها لدى الزوج. ويؤكد الجمعان أن بناء الثقة بين الزوجين لابد أن يبدأ من اليوم الأول، إضافة إلى ضرورة معرفة أن الحياة الزوجية ليست كلها سعادة، ولابد من مصارحة الزوجين في حال معاناة أحدهما من هذه المشكلة لكي يساعد كل منهما الآخر في تخطيها.
حب الذات المرضي
ويرى الدكتور كربيد زكريان استشاري الطب النفسي في عمّان أن «الغيرة المرضية هى الغيرة التى تخرج عن نطاق السواء النفسى وتستحيل معها الحياة فى هدوء وطمأنينة، هى لهيب يحرق كل شئ وينزع الحب ويقضي على الثقة ويغرس بذور الكراهية. والشخص المصاب بها تسيطر عليه مشاعر النرجسية وحب الذات إذ يريد أن يكون محور انتباه واهتمام الشخص الآخر مع تجاهل الأدوار المختلفة للشريك، ومن هنا يبدأ ظهور المشاكل والمآسى؛ فالغيرة المرضية ضلالات راسخة داخل الشخص يؤمن بها إيماناً مطلقاً ولا يمكن مناقشته وأدلته ضعيفة وغير مرتبطة بالموضوع ولكنها ذات قيمة قصوى عنده، ويبنى كل سلوكه على هذه الفكرة المرضية؛ فالغيرة المرضية هى أفكار تنبع من عقل شخص مريض».
وعما إذا كان الشرقيون والشرقيات أكثر غيرة من الغربيين يقول: النفس البشرية واحدة، لكن الاختلاف في البيئة ومفهوم العلاقة الزوجية، ففي الغرب، عندما يتزوج اثنان، فكل منهما مدرك أنه لا إنسان بلا تجارب عاطفية، فالتجربة هي التي تصنع الخبرة الحياتية، ويتقبل كل منهما ماضي الآخر. التركيبة الاجتماعية الشرقية والعادات والتقاليد والخوف من العيب بمفهومه المحدد والخاطئ بالإضافة إلى الزواج في سن مبكر وافتقاد الشخص للخبرة الحياتية، كل ذلك يولّد الغيرة المرضية، والتي كثيراً ما تولّد انهيارات زوجية وربما جرائم لا مبرّر لها.
الغيرة طبيعية إذا لم تخرج عن النطاق الطبيعي
ومن الأردن أيضاً يقول الدكتور جمال الخطيب استشاري الطب النفسي: «الغيرة شعور طبيعي في وجدان كـل شخص ولكن إذا ازداد هذا الشعور وأثر على فكر الإنسان من دون مبرّر معقول وأعاقه عن حياته الطبيعية أصبح شعوراً مرضياً. ويضيف: «تبدأ الغيرة في فترات الطفولة عندما يأتي مولود جديد - ويؤثر على العلاقة الخاصة بين الطفل وبين أمه ويحرمه من الرعاية والعاطفة التي يحتاجها للنمو النفسي الطبيعي فإذا لم ينل الطفل الرعاية والحنان في طفولته يحدث عدم النضوج العاطفي في الكبر ما يؤدي إلي الغيرة المرضية». والغيرة المرضية تشتمل على فقدان احترام الذات مع الخوف والبغض والتقلّب العاطفي. أما الغيرة في العلاقة الزوجية بين الرجل وزوجته فهي شعور طبيعي تحافظ على استقرار الأسرة، حيث يسعى كل منهما للإحتفاظ بالودّ والحب نحو الآخر ومراعاة شعوره، أما إذا تحوَّل الأمر الى غيرة مبالغ فيها فإنها تكون بمثابة المرض الذي يجب أن نسعى لعلاجه.
الغيرة المتطرفة في شهادات حيَّة
لا شيء يمكن أن يوضِّح أسباب الغيرة وآثارها على حياة الناس مثل القصص التي يرويها أولئك الذين عانوا منها، وهذه بعض القصص التي نبدأها بشهادات من مصر.
أوهام قاتلة
تحولت غيرة حسين الموظف في إحدى الشركات إلى كارثة دمرت حياته، وشردت أطفاله، وفي النهاية قد تكون هذه الغيرة هي طريقه إلى حبل المشنقة. كان يحب زوجته بجنون، يغار عليها من كل شيء في الدنيا، يتمنى لو استطاع أن يحيطها بسور لا ترى من ورائه أحداً ولا يراها أحد، جمالها كان نقمة عليها وزوجها الذي كان يفتعل عشرات المشاجرات في كل مرة يسير معها في الشارع، يظن أن جميع المارة ينهشون جسد زوجته بأنيابهم، وكثيراً ما حدثت مشاجرات بين الزوج وآخرين واعتذر في النهاية حينما اكتشف أنه أخطأ. تسببت غيرة الزوج في إحداث شرخ كبير في الحياة الزوجية بينه وبين زوجته راندة التي لم تستطع أن تواصل حياتها بهذا الشكل، طلبت منه أن يثق بنفسه أكثر، أكدت له أنها تحبه بشدة ولا يمكن أن تنظر إلى أي شخص سواه. كانت كلمات الزوجة أشبه بالمسكن الذي يهدئ من روع الزوج الثائر دائماً، ولكن سرعان ما تعود ريما إلى عادتها القديمة، لا يستطيع حسين أن يمنع نفسه من عشرات الشكوك التي تنتابه حينما يعود من عمله ليجد زوجته واقفة في الشرفة، يتصور الزوج أنها تبادل أحدهم النظرات، يجن جنونه حينما يواجه زوجته بشكوكه، ولكن الزوجة بدأت تمل من هذا الأسلوب، وتؤكد لزوجها أن حياتهما الزوجية مهددة بسبب شكوكه، وغيرته التي تجاوزت كل حدود المعقول.
أنجبت راندة طفلتها الأولى، اعتقدت أن الزوج سيهدأ حينما يدرك أنه أصبح أبا عليه مسؤوليات وأعباء، لكنها كانت واهمة، ظل حسين كما هو، حتى حينما مرت أربع سنوات على زواجه، وأنجبت راندة طفلها الثاني مهاب.
كانت تبيت باكية بسبب ضغوط زوجها، واستمراره في معاملتها بشكل غير لائق، الغيرة جعلت منه إنساناً لا يطاق كان يرفض استقبال أقارب زوجته، وبعض أقاربه بسبب هذه الغيرة، وتحول منزل الزوجية إلى سجن كبير.
لا يتخيَّل الحياة من دونها
بدأت الحياة بين راندة وحسين تسير في طريق واحد، رسمته الزوجة لنفسها، هو الطلاق، أصبح هذا القرار لا رجعة فيه، كان أمامها خيارات، إما الانفصال عن زوجها أو الانتحار، والأقرب إليها هو الطلاق، طلبت من زوجها أن يمنحها حريتها ورفض الزوج بإصرار، أخبرها أنه يحبها بجنون ولا يتخيل الحياة من دونها، أو من دون أطفاله.
لم يكن أمام راندة خيار سوى الذهاب لمنزل أسرتها، وقامت برفع قضية تطلب فيها الطلاق بسبب غيرة زوجتها التي تحولت إلى مرض، وقبل أن تقرر المحكمة هذا الطلاق تمكنت الأسرتان من الاتفاق على الانفصال بهدوء حفاظا على حقوق الطفلين. كان حسين يتمزق، يدفع ثمن غيرته التي دمّرت حياته، فشلت كل مساعيه في إعادة زوجته إلى سابق عهدها، لم تصدق وعوده، حسمت أمرها وأكدت له أنها لم تعد تحبه، ولن تستطيع أن تواصل حياتها الزوجية معه. حصلت الزوجة على الطلاق بصعوبة، ولكن هذا الطلاق لم يكن هو نهاية غيرة حسين الذي ظل يتردد من بعيد على منزل مطلقته، يراقبها دون أن يتخيل أنها أصبحت إنسانة غريبة عنه، وليس له الحق في هذه المشاعر المتأججة. جن جنون حسين حينما علم أنها تستعد للزواج من زميلها في العمل، وحينما تأكد من هذه المعلومة جعلته غيرته شيطاناً لا يعرف سوى الدم، تسلل إلى شقتها، طرق الباب وحينما فتحت له راندة أدركت أنه ينوي بها شراً. تراجعت للوراء حاولت أن تستنجد بالجيران، لكن سكين مطلقها كانت أسرع منها، إنهال عليها بطعنات متتالية ولم يتركها، إلا حينما أصبحت جثة هامدة، ووقف الأبناء مذهولين أمام ما يحدث، ألقت الشرطة القبض على حسين الذي قتلته غيرته، وقررت النيابة حبسه.
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي