مشروعية الأعمال التطوعية ومكانتها في الإسلام
أولاً: العمل التطوعي في القرآن:
( أ ) قال الله تعالى:
" لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً " سورة النساء آية 114
فالأمر هنا: عمل تطوعي بدني سواء كان أمراً بصدقة أو أمراً بمعروف والسعي بالإصلاح بين الناس: عمل تطوعي بدني.
تفسير الآية:
يقول تعالى:
" لا خير في كثير من نجواهم " يعني لا خير في كثير من كلام الناس وأحاديثهم ومحاوراتهم.
" إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس "
تفسير للآية بالسنة ( الحديث )
عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: } ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين }
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح
وبلا شك أن منزلة الصيام والصلاة عظيمة فهما ركنان من أركان الإسلام والمراد هنا بالصلاة التي إصلاح ذات البين خير منها صلاة النوافل وليس الفرائض ولكنهما عمل محصور أجره وثوابه على صاحبه بينما إصلاح ذات البين: نفع متعدي إلى الآخرين وقاعدة الشريعة: أن النفع المتعدي أولى من النفع القاصر.
بمعنى أن من يقضي وقته بإصلاح ذات البين أفضل ممن يشغل وقته بنوافل الصيام والصلاة.
" ابتغاء مرضات الله " أي مخلصاً في ذلك محتسباً مريداً وطالباً رضوان الله.
" فسوف نؤتيه أجراً عظيما" أي ثواباً جزيلاً كثيراً واسعاً.
(ب) قال تعالى:
" ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " سورة البقرة آية 282
فهنا ترغيب للكاتب أن يتطوع بكتابته ولا يمتنع إذا طلب منه، فالكتابة من نعم الله على العباد التي لا تستقيم أمورهم الدينية ولا الدنيوية إلا بها وأن من علمه الله الكتابة فقد تفضل الله عليه بفضل عظيم، فمن تمام شكره لنعمة الله تعالى أن يقضى بكتابته حاجات العباد ولا يمتنع من الكتابة.
(ج) تطوع ذو القرنين ببناء السد
" حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولا. قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سدا. قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما. آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا. فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا. قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً " سورة الكهف
تفسير الآيات:
يأجوج ومأجوج: من ذرية آدم خلق من خلق الله أهل شر وفساد وهم أكثر أهل النار وقد حال الله بينهم وبين الإفساد في الأرض والإفساد على الخلق بسد ذي القرنين فإذا جاء وعد الله جعل هذا السد الذي عجزوا عن نقبه والصعود عليه دكاً فيخرجون من كل حدب ينسلون ويعيثون في الأرض فساداً ويمرون على بحيرة طبرية فيشربون ماءها ويمر بها آخرهم فيقول كان بهذه ماء فيقتلون ويسلبون وينهبون ويظلمون ويحصر عيسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين في الطور بعد أن يوحي الله إليه إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويؤمر عموم الناس بالهرب منهم وعدم مواجهتهم فمن طغيانهم وبغيهم وفسادهم أنه بعد أن يعيثوا في الأرض قتلاً وتدميراً وإهلاكاً للحرث والنسل يقولون قتلنا أهل الأرض فلنقتل أهل السماء فيرمون بنشبهم إلى السماء فيرجعها الله فتنة لهم مخضبة بالدماء فيقولون قتلنا أهل الأرض وقتلنا أهل السماء وتكون نهايتهم أن يجأر من بقي من أهل الأرض وعلى رأسهم عيسى عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين بالشكوى إلى الله أن يرفع عنهم البأساء والضراء فيرسل الله على يأجوج ومأجوج دود النَغف في رقابهم فيصبحون موتى جميعاً في ليلة واحده في كل أصقاع الأرض كموت نفس واحدة.
فكان بناء السد نعمة عظمى للبشرية وسبباً من أسباب هناء العيش على الأرض
" قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا "
قال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: " خرجاً ": أي أجراً عظيماً يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالاً يعطونه إياه حتى يجعل بينه وبينهم سدا.
فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير:
" ما مكّني فيه ربي خير " أي إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه كما قال سليمان عليه السلام: " أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم "
وهكذا قال ذو القرنين الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه ولكن ساعدوني بقوة أي بعملكم وآلات البناء " أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد " والزبر: جمع زبرة وهي القطعة منه.
(د) قال تعالي:
" ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير. فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير " القصص آية 24
التفسير:
" ولما ورد ماء مدين " أي وصل إليه، وهو الماء الذي يستقون منه
" وجد عليه أمة من الناس يسقون " أي وجد على الماء جماعة كثيرة من الناس يسقون مواشيهم، ومدين اسم للقبيلة لا للقرية
" ووجد من دونهم " أي من دون الناس الذين يسقون مابينهم وبين الجهة التي جاء منها
" امرأتين تذودان " أي تحبسان أغنامهما عن الماء حتى يفرغ الناس ويخلو بينهما وبين الماء.
" قال ما خطبكما " أي قال موسى للمرأتين: ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس ؟
" قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء " أي أن عادتنا التأني حتى يصدر الناس عن الماء وينصرفوا منه حذراً من مخالطتهم، أو عجزاً
عن السقي معهم والرعاء: جمع راعٍ
" وأبونا شيخ كبير " عالي السن لا يقدر أن يسقى ماشيته من الكبر فلذلك احتجنا ونحن امرأتان ضعيفتان أن نسقي الغنم لعدم وجود رجل يقوم لنا بذلك.
فلما سمع موسى كلامها رحمهما وسقى لهما أغنامهما، فلما فرغ من السقي لهما تولى إلى الظل أي انصرف إليه فجلس فيه ونادى ربه " قال رب إني لما أنزلت إلى من خير " أي خير كان " فقير " أي محتاج إلى ذلك، قيل أراد بذلك الطعام.
( فتح القدير الشوكاني ج4 ص168)
ولما قدم إلى موسى الطعام قال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملأ الأرض ذهبا
وذهب أكثر المفسرين: إلى أن المرأتين ابنتا شعيب عليه السلام فحصل له سكينة وطمأنينة إلى رسول من رسل الله، وزوجته هي ابنة رسول، وطعام حلال بإجارة شريفة.
فكان هذا العمل التطوعي الصالح سبباً وباب خير له عليه الصلاة والسلام
( ه ) قال تعالى:
" وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا " سورة الكهف
وهذا الأب كان الأب السابع لهذين الغلامين اليتيمين وفيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى درجة الصالحين في الجنة لتقر عينه بهم قال ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر لهما صلاح.
قال الحسن البصري: " وكان تحته كنزهما " قال: لوح من الذهب مكتوب فيه باسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله.
( و ) ولا شك أن العمل التطوعي الذي فيه نفع الناس والإحسان إليهم بما هو جائز في شرعنا من العمل الصالح ويدخل في عموم العمل الصالح المثاب عليه والممدوح في مثل قول الله تعالى:
" والتين والزيتون. وطور سنين. وهذا البلد الأمين. لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون. فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين "
وفي مثل قوله تعالى: " والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر "
ومهما دق ذلك العمل فإنه مثاب عليه إذا كان خالصاً صوابا
قال تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره "
وقال تعالى: " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤتِ من لدنه أجراً عظيما "
ويجمع ذلك كله قوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان "
ثانياً: العمل التطوعي في السنة النبوية:
( أ ) عدد مفاصل الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً ويستحب له أن يؤدي شكر نعمة كل مفصل من هذه المفاصل كل يوم بصوره من صور العمل المبارك التالية ( والتي أكثرها أعمال تطوعية )
في صحيح البخاري كتاب الصلح
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: } كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس ]1[ تعدل بين الناس صدقة {
وفي صحيح مسلم:
} كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس قال تعدل بين الاثنين صدقة ، ]2[ وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها ، ]3[ أو ترفع عليها متاعه صدقة ، قال ]4[ والكلمة الطيبة صدقة ، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة ، ]5[ وتميط الأذى عن الطريق صدقة {
وفي مسند الإمام أحمد:
} ]6[ إن سلامك على عباد الله صدقة ، وإماطتك الأذى عن الطريق صدقة ، ]7[ وإن أمرك بالمعروف ]8[ ونهيك عن المنكر صدقة {
وفي صحيح مسلم: من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: كتاب الزكاة
} إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل فمن كبر وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله ]9[ وعزل حجراً عن طريق الناس ، ]10[ أو شوكة ، ]11[ أو عظماً عن طريق الناس وأمر بمعروف ونهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى فإنه يمشى يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار {
والسُّلامى: بضم المهملة وتخفيف اللام مع القصر أي مفصل، أصله عظام الأصابع وسائر الكف ثم استعمل في جميع عظام البدن
الفتح: كتاب الجهاد: والمعنى: أن على كل مسلم مكلف بعدد كل مفصل صدقة لله تعالى على سبيل الشكر له بأن جعل عظامه مفاصل يتمكن بها من القبض والبسط وخصت بالذكر لما في التصرف بها من دقائق الصنائع التي اختص الآدمي بها.
عليه صدقة: أي صدقة ندب وترغيب لا إيجاب وإلزام.
(ب) الأمر بالعمل التطوعي مع الأمر بالتوحيد / وهو شعبة من شعب الإيمان، فحق الخالق توحيده وصرف جميع العبادة له، وحق الخلق حسن الخلق وبذل الخير.
روى الإمام أحمد في المسند باقي مسند الأنصار :
عن أبي تميمة عن رجل من قومه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل فقال : أنت رسول الله ؟ أو قال : أنت محمد ؟
قال : نعم .
قال : فإلام تدعوا .
قال : أدعوا إلى الله وحده من إذا كان بك ضر فدعوته كشفه عنك .
ومن إذا أصابك عام سنة فدعوته انبت لك .
ومن إذا كنت في أرض قفر فأضللت فدعوته رد عليك .
قال : فاسلم الرجل ، ثم قال : أوصني يا رسول الله .
فقال له : لا تسبن شيئاً أو قال أحداً شك الحاكم ، قال : فما سببت شيئاً بعيراً ولا شاة منذ أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولا تزهد في المعروف ولو ببسط وجهك إلى أخيك وأنت تكلمه .
وأفرغ من دلوك في إناء المستسقي . وقال صلى الله عليه وسلم : } الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق {
( ج ) سلامة االصدر والصفح عمل جليل من الأعمال التطوعية ففي سنن أبي داود
كتاب الأدب :
عن عبدالرحمن بن عجلان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : } أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم قال : ومن أبو ضمضم قال : رجل فيمن كان قبلكم بمعناه : قال : عرضي لمن شتمني {
( د ) محبة النبي صلى الله عليه وسلم البالغة لأهل الأعمال التطوعية وعنايته بهم ، وتفقده لهم .
روى البخاري ومسلم وابن ماجه بإسناد صحيح واللفظ له :
عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها بعد أيام فقيل له : إنها ماتت فقال : " فهلا أذنتموني فأتي قبرها فصلى عليها "
( ه ) وأعمال القربات كلها أعمال تطوعية لا يجوز أخذ الأجرة عليها ، وإنما يعطي ولي أمر المسلمين للقائم عليها رزقاً من بيت المال :
قال صلى الله عليه وسلم : } من أذن سبع سنين محتسباً ( أي متطوعاً ) كتب له براءة من النار {
قال الفقهاء : ولا يجوز أن يرزق مؤذناً وهو يجد متبرعاً عدلاً
قال القرا في في أنوار البروق المجلد الثالث :
] الفرق بين قاعدة الأرزاق وقاعدة الإجارات [
القضاة يجوز أن يكون لهم أرزاق من بيت المال عن القضاء ، ولا يجوز أن يستأجروا على القضاء إجماعاً ، بسبب أن الأرزاق إعانة من الإمام لهم على القيام بالمصالح لا أنه عوض .
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي