مع كل مرة يحل فيها شهر رمضان تلفت انتباهنا عبارة تتردد على لسان العديد من المسنين مفادها "رمضان كان زمان".. ونحن جيل اليوم نتساءل: لم هذه العبارة التي تصر على أن رمضاننا فقد الكثير من نكهته؟
اتخذنا من بعض شوارع العاصمة إطارا مكانيا نستجوب فيه البعض من أهاليها عن سبب ترديد هذه المقولة، التي تحمل في طياتها الشوق إلى رمضانيات أيام زمان، فكان الانطباع موحدا، فحواه أن رمضان أصبح ذكرى جميلة نتحدث عنها بصيغة الماضي، إذ أن العديد من المواطنين أجمعوا على أن عادات كثيرة اختفت بعدما كانت تمثل أحلى أيام السنة، وتأتي في مقدمتها لمة الأحباب والجيران.
غاب "النافخ".. وتغيرت الطباع
محدثتنا الأولى سيدة كانت تنتظر الحافلة في المحطة، ما إن طرحنا عليها سؤالنا حتى أجابت: "لقد اندثرت العديد من القيم الاجتماعية، حيث أن عادات كثيرة غيبتها موجة التغييرات الجديدة التي طرأت على المجتمع.. لكن في اعتقادي تغير طباع الناس في زمننا هذا هو الذي خلف تأثيرا بليغا، يترجمه الميل إلى الانطوائية على خلاف أيام زمان، حيث كان الجيران يشكلون عائلة واحدة،يتبادل أفرادها الأطباق فيما بينهم ويتواصلون مع بعضهم البعض.. الحقيقة أن أمورا كثيرة تغيرت لتطال نكهة الأطباق الرمضانية أيضا بعد أن اختفى "النافخ" (فرن يشتغل بالكحول) الذي كان يعطي للمأكولات مذاقا خاصا".
اختفت سهرات الجارات.. والبوقالات
وأمام أحد محلات المكسرات بساحة الشهداء، كانت لنا وقفة قصيرة مع سيدة أخرى كانت بصدد اقتناء بعض الفواكه المجففة، فجاء على لسانها: "إن أكثر ما أفتقده في رمضانيات السنوات الأخيرة هو عبق السهرات، حيث ولت تلك الليالي الرمضانية التي كنا نجتمع فيها على السطوح أو وسط الفناء ملتفات حول صينيات القهوة والشاي.. ننتظر بشغف كبير الفأل الذي تحمله لنا البوقالات.. أما الآن فقد أصبحت معظم العائلات توصد أبوابها، مما حول ليالي رمضان إلى سهرات تلفزيونية." وأضافت: " أعتقد أن الهوائي المقعر لعب دورا كبيرا في حذف لمة الجيران. كما أن نزوح العديد من الناس إلى العاصمة في العشريات الأخيرة، أدى إلى بروز طباع جديدة دخيلة عن طباع العاصميين وعاداتهم".
الحنين إلى مدفع رمضان
أما عمي علي (67 سنة)، متقاعد، فيرى أن الناس كانوا يشمون عبق رمضان شهرين قبل حلوله، إذ يبدأ الاستعداد المادي والمعنوي على حد سواء، فحتى بعض المدمنين على المشروبات الكحولية يتوقفون عن تعاطي هذه الأخيرة رغم قلة الوعي الديني ومحدودية المستوى التعليمي آنذاك. كما أن الأسعار لم تكن تلسع جيوب المواطنين مثلما هو الحال عليه في الوقت الراهن. وإستطرد قائلا: " كانت لأيام رمضان حلاوة مميزة، صنعها صوت المدفع المدوي من ميناء الجزائر للإعلان عن موعد الإفطار، وروائح الأكلات التي تطهى على "النافخ" لتغازل المارة من بعيد، فرغم أننا كنا في معظمنا بسطاء، إلا أن القناعة أعطت نكهة خاصة ليومياتنا الرمضانية، لا سيما في الستينيات والسبعينيات، بل ويضاف إلى القناعة التآزر الذي كان يحول دون الشعور بوجود امرأة مطلقة وسط الجيران، إذ تصلها القفة اللازمة لإعالة أبنائها، فتعيش وكأنها رفقة أفراد عائلتها الحقيقية بعيدا عن آفة التسول التي استفحلت حاليا في الوسط النسوي".
ويتفق عامة الناس على أن رمضان السنوات الأخيرة يشكو من تراجع مبادرات التكافل والتضامن لدى العديد من الأسر الجزائرية، فالبعض يشير بأصابع الاتهام إلى الظروف المعيشية الصعبة التي حالت دون السير على نهج الكرم الذي سار عليه الأسلاف.. في حين يلفق البعض الآخر التهمة لظاهرة الجشع التي تصيب بعض التجار الذين تنتفخ أرصدتهم على حساب جيوب المستهلكين البسطاء، دون إغفال "اللهفة" التي تصيب حواس السواد الأعظم من المواطنين، فتفتح لهم قائمة الشهوات إلى ما لا نهاية وتنسيهم في نفس الوقت نصيب المحتاجين من الصدقة.
وعلى صعيد آخر، يرى البعض أن الجيل الحالي لم يعد متمسكا بالعادات والتقاليد المتوارثة، مثل وجبة السحور التي كان يشكلها طبق الكسكس بالزبيب والطقوس التي تشجع الطفل الذي يصوم لأول مرة، وكذا عادة دعوة الأقارب والأحباب إلى الإفطار، خاصة بعد أن تفرق شمل العديد من الجيران على مستوى العديد من الأحياء الشعبية العريقة مثل القصبة التي أكل الدهر عليها وشرب...
هكذا يبدو أن الكثيرين يحنون إلى رمضان أيام زمان، متناسين أن دوام الحال من المحال في وجود روح العصرنة التي تسري بين الأجيال لتعطي لكل زمن خصوصياته.
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي