هل يمكننا المسامحة على كل شيء؟ هل يجب مسامحة الجميع؟ هل المسامحة أمر إلزامي لتخطي عقبة الماضي والتصالح معه؟ أَوَ ليست مسامحة الذات أحد أهم أشكال المسامحة كونها بمثابة إعادة تأهيل نفسية؟ كيف يمكن التوصل إلى المسامحة والحرية؟ كيف يمكن الاستفادة من الأذى للوصول إلى مرحلة النضج؟ أسئلة نطرحها على أنفسنا في مرحلة ما من حياتنا لأن الحقد يسيء إلى الفرد أكثر مما يفيده.
نعتبر المسامحة غالباً هدفاً بحد ذاته. ماذا لو احتجنا إلى طيّ صفحة الماضي للتمكن من التحرر نهائياً، أو تحمل الجراح النفسية بدل انتظار مداواتها بشكل كامل؟ أجرى علماء النفس أبحاثاً مكثّفة طوال سنوات لتحديد أهم الخطوات التي تساهم في عقد سلام داخلي مع الماضي الأليم. لا بدّ من اتباع مسار متجدد لقبول الذات بغض النظر عن عمق الجرح الذي نعاني منه، ذلك بالاعتماد على الذات وعلى أشخاص نثق بهم.
نسيان
المسامحة لا تعني النسيان، بل تعني ببساطة أنّ الأمور لن تعود إلى سابق عهدها. المسامحة عملية مهمة لكن حساسة. يجب فهم معناها وطرح سلسلة من الأسئلة المفيدة: من أذى الآخر؟ من يسامح الآخر؟ على ماذا تسامح ولماذا؟ هكذا تتخلص من الشعور بالذنب وتعي طبيعة العلاقة التي تجمع بين الجاني والمجني عليه وطريقة إصلاح الوضع.
في الواقع، حين نرتكب عملاً سيئاً، فنحن بذلك نؤذي أنفسنا في المقام الأول، بالتالي نتحمل المسؤولية الكاملة لذلك العمل. وفقاً لمفهوم العلاقة السببية، يؤدي كل عمل خاطئ إلى وضع كارثي معين. من خلال إعطاء الآخر مجالاً للتحرر من تأثير ذلك السوء، نتحرر نحن أيضاً من أثره.
المسامحة إذاً عملية تبدأ بإدراك مفعول العمل المرتكب قبل طلب السماح من الآخر. إنها مقاربة تنبع من الداخل نحو الخارج.
الخبراء
يعرّف البعض المسامحة على أنها عدم الشعور بالحقد تجاه أحد بسبب خطأ أو إهانة، أو استعمال جملة مهذّبة للاعتذار حين نزعج أحداً. لكنّ التحليل النفسي يتوسّع أكثر في تعريف ظاهرة المسامحة.
في التحليل النفسي، تقضي المسامحة باحترام حدود الآخر. بالتالي، تطاول المسامحة معتدياً أو فرداً يبحث عن المواجهة والصراع. يشرح سيغموند فرويد أنّ البحث عن المشاكل يخفي معاناة داخلية وجراحاً نفسية في داخل أعماقنا. بالتالي، ليست المسامحة عملية سهلة، فهي تستلزم معرفة الذات بالتفصيل من خلال معرفة الآخر، لكن من دون أخذ مجازفة بإطلاق الأحكام. على صعيد آخر، يبرر بعض الفلاسفة أهمية المسامحة من خلال المقارنة بين الخير والشر.
عمل منصف
توصي مختلف الأديان بالمسامحة، لكنّ هذه الظاهرة تطرح سوء تفاهم كبيراً، إذ يعتبرها البعض جرعة سحرية أو حلاًّ شافياً لجميع الجروح. لكن يشير علماء النفس إلى أنّ المسامحة عمل ينمّ عن الإنصاف والعدل، إذ لا وجود لمسامحة من دون توبة، ما يرمّم العلاقة بين الطرفين المعنيين، فتتطور حالة كل واحد منهما نحو الأفضل.
ما هي الظروف المسبقة التي يجب توافرها لتطبيق المسامحة؟ ما العمل إذا لم يطلب الطرف الذي ارتكب الإساءة السماح؟ لماذا يصعب علينا أن نطلب السماح؟ يربط بعض علماء النفس بين المسامحة والغضب، إذ يساهم الشعوران في التحرر من مواقف صعبة. يدفع الغضب الشخص المجروح إلى التعبير عن جرحه الداخلي. إذا فعل ذلك بصدق، سيتمكن من مسامحة الآخر فعلياً. ليست المسامحة عملاً غير مشروط أو أحادي الجانب. إنها دعوة أو هبة نقدّمها إلى من يطلبها. باختصار، إنه المسار الصحيح نحو التحرر.
حرية
للوهلة الأولى، قد يبدو الرابط بين المفهومين معدوماً إذا كانت حريتنا تقضي بالتصرف بلا ضغوط وإذا كانت المسامحة هي مجرد محو لمشاعر الضغينة. لكن في الحالتين، يعود الفرد إلى ذاته بحسب درجة وعيه. الكلام عن المسامحة والحرية يعني التعبير عن الذات. التصرف بحرية يعني التحرر من الواقع المعيوش و{الشرنقة} التي تحدّ تجربة الحياة.
ما علاقة المسامحة بذلك كله؟ يمكن اعتبار المسامحة أحد أشكال العدالة التي تأخذ مجراها ما إن تُصفّى الحسابات بين الطرفين. إنها الخطوة الأولى على سلّم الوعي. إذا تعمّقنا في الموضوع أكثر، يمكن اعتبار المسامحة رفض حتمية إصلاح الوضع في جميع المواقف: في هذه الحالة، يقبل الفرد المجروح بالانفتاح على الآخر مجدداً من دون الرجوع إلى أصل المشكلة. الأمر لا يشبه النسيان! يفهم الشخص الذي تعرّض للأذى أنّ من أساء إليه اضطرّ إلى فعل ذلك، فيفتح قلبه للآخر ويتمكن من عيش ألمه وتفهّمه حين يشغّل مشاعر التعاطف معه. ألا يُقال إنّ من يسامح يتحرر من عبء الضغينة والكره؟ هكذا يعبّر المرء عن ألمه ويتحرر حين يعي الحقيقة، ويبلغ بالتالي مستوى مرتفعاً من الوعي والحب.
أعلى درجات التسامح
قد تصل المسامحة إلى مستوى عميق جداً يمكن بلوغه حين نعي تماماً وحدة الحال التي نعيشها مع الآخرين. في ظل هذه الظروف، ندرك أنّ أحداً لم يجرحنا بل أننا جرحنا أنفسنا. الآخر هو مجرد واجهة للذات التي تُعتبر كياناً مطلقاً. تؤدي الذات الدور الذي نوليه إليها. يمكن بلوغ هذا المستوى من المسامحة حين ندرك أن الجزء الذي يتأذى فينا يعبّر عن هويتنا الحقيقية، وتحديداً إذا كنا نعاني نقصاً في الحب أو أحد أشكال العنف. في حال تصفية النفوس، لا نتأثر بهذه الأفعال أو الكلمات الجارحة. لكن من المهمّ في هذا المجال عدم أداء دور المنفصل أو المهمّش عن المجتمع. لا يمكن عيش مسامحة صادقة من دون الاعتراف بالألم، ما يمكّننا من تحمّل جميع المصاعب المستقبلية. في الوقت نفسه، من الضروري عدم الرضوخ للكيان الضعيف المجروح في داخلنا.
أخيراً، من الواضح أنّ المسامحة تبدّل طريقة رؤية الماضي وأحداث الحاضر، تحديداً على مستوى العلاقات مع الآخرين. تذهب المسامحة التامة إلى أبعد الحدود حيث تتعلم فك رموز أي موقف خلافي وتغيير نظرتك إلى الأمور من خلال فهم أنّ الموقف السيء لا يستهدفك شخصياً ولا يهدف إلى إزعاجك أو إغضابك، بل إنه خطة لتطوير الذات، فيتحول الشخص الذي أذاك من الجلاّد إلى الرجل الصالح، وتتحوّل أنت من الضحية إلى المستفيد. لا داعي للقلق! تحدث المسامحة والتحرر بشكل عفوي وصادق...
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي