يذهب القدماء إلى عدم الاهتمام بقيمة المكان من حيث المبدأ والشكل الهندسي والرسم الفني ، وذلك لعدم نشوء التغيير ات العمرانية والشكلية خلال تلك العصور، ومع بقائهم على وضعهم هذا إلا أنهم ظلوا غير راغبين في التغيير ، بل يقاومونه بكل ما أوتوا من قوة .. وأنا أتساءل لماذا لم تكن هناك رغبة جادة في التغيير الفيزيائي أو حتى قبول موجات التغيير الجماعية بسلاسة ومرونة ؟
الإجابة عن هذا التساؤل ليست سهلة أبداً وفي المقابل ليست صعبة جداً ، لكن نظراً لتداخل الكثير والكثير من التفاصيل والعلوم والمصحوبة بعدمية التفكير الجاد والصريح المستند على العلم والمنهجية الأكاديمية جعل التوصل لمثل هذه المفاهيم بالغ الصعوبة وصعب الاستيعاب ، يذهب الكثير من المحللين والمفكرين إلى أن "الإنسان عدو ما يجهل" "وأن الإنسان بطبيعته يحب البقاء على وضعه" "ويكره التغيير المفاجأ والطارئ" وهلم جراء من هذه الأفكار المعلبة والتلقائية التي تنم عن كسل فكري وخلل في الخريطة الذهنية ، لذلك كانت هذه التحليلات انتقائية وجزيئه لأهداف تبدو واضحة وتنطلق من رغبة صادقة ونية طيبة في تحقق مبدأ التطور والازدهار. لا تكفى الرغبة الصادقة والنية الطيبة في ذلك.
إذ لا يمكن فهم هذه الرغبة بعدم التغيير عن أنها ذات مؤشر سالبي أو أنها تعبر عن حالة "ركود" واستكانة ورضا بالواقع ، فلا يمكن فهم ردة الفعل هذه إذا لم يكن لدينا تحليل نفسي وقراءة ميتفيازيقة تاريخية ومعرفية بالكثير من التفاصيل ، بدون هذه لن نتمكن من توصيل القول بالتغيير للذهنية العامة ، إن قولنا لشخص ما "تغير" لأجل التغيير شيء في غاية الغباء والبلادة الفكرية، التغيير يحتاج إلى دافع قوي للتغيير وهذا ما صنفه المفكر بالجزئيات المبهمة والضبابية للقارئ الشغوف والمهموم والمتطلع بالمعرفة والعلم والمحب للتطور والازدها.
يبدو لي أن الإنسان لم يكن لا يحب التغيير بهذا القدر أو أن لديه رغبة قوية في المقاومة ، بل كان دافعه الأول للبقاء هو رسم جنة مكانية تتزين مع استمرارية الزمان الخفي في عقله الباطن ، ولذلك فالبدوي مغبوط ومفتون بجنته "الصحراء" لا لأنه لم يرى غيرها وولد فيها وعاش بها بل لأنه لا يعرف حدود تلك الصحراء التي تنعكس على أفعاله وسلوكياته وتصرفاته التي تبدو أكثر همجية وعشوائية دون الحدود، ومع أنني لا أتفق كلياً في مسألة عدم التغيير (المطلق) لكنني لا أتفق في أن التغيير يكون فيه الدافع للتغيير (التغيير لأجل التغيير) ، إذاً ما العلاقة بين المكان والتغيير. وهل هذه العلاقة علاقة طردية أم عكسية ؟
هذا سؤال عميق – وأنا أؤكد على أنني لا أجيب عليه تماماً أو أنني أقدم نظرية – بل ما أحاول فعله هو إثارة الذهنية المتوقدة والحرة المدعومة بالمنهج العلمي والتحليل النفسي. القاعدة تقول أن "المكان يصنع المشاعر"، لذلك تبدو قصة الحنين مثلاً والبكاء على الأطلال والنحيب على فقدان ذلك الزمن الجميل ، هي مشاعر لحظية وتبدو غير جادة إذا قرنها بالعودة!
الزمان هنا منفي تماماً أثناء الوجود في المكان حيث لا يوجد سوى (مكان وبعدها تصنع المشاعر) لكن لا يوجد زمن ، ولو أراد المتشدقون والغوغائيين العودة لذلك الزمن فعلاً لرفضوا ذلك بدون تردد ، يميل العشاق والمحبين إلى صنع المكان المادي لأنه ذات أولوية نفسية حتى يتمخض من ذلك المكان تلك المشاعر ، وأحياناً تكون المشاعر موجودة بشكل جزئي معتل بعلة.
البستان الأخضر والمليء بالورد والزهور والذي يعبق برائحة الخزامى والصاخب بالألوان المبهجة يصنع مشاعر مختلفة تماماً وعلى الأغلب حتى إيجابية وذات نفعية ، فيوحي للعاشق أنه في الجنة وأن اللحظة هي "الآن" المطلقة والأبدية. فالزمن منفي لدي المشاعر الإيجابية والجميلة.
أما المرور على مقبرة خالية تضج بالأموات والصمت الكئيب الذي لا يحكى إلا لغة واحدة وهي لغة "المجهول" تولد مشاعر سلبية وعكسية على المتلقي فالقشعريرة في الجسم والخوف الدائم من هذه القبور يظل يعترى الإنسان بالكامل ، هنا يولد الزمان حتماً ولذلك يكون للوقت قيمة ليس بثقلها ، بل بالإحساس المادي بأن الزمان حقاً يسير ببطء ولا ينقضي ، لأجل هذا لا نرى عشاق يتواعدن أو يتصارحون في المقابر – أو هكذا أمكنة - !!
المسجد مكان العبادة مثلاً ، لماذا العبادة تكون في المسجد ويؤجر المسلم على الصلاة مع الجماعة ولماذا لا نصلي مثلاً في "مكان للرقص أو التعري" ؟! إنه الارتباط والصناعة المكانية للمشاعر، فلا تصل لدرجة من الخشوع والروحانية في مكان لا يمت بصلة (ذو رابط) نفسي وعقلي ومعرفي ، إن وصلنا لدرجة من الروحانية في المسجد مؤكدة حتماً من أي مكان آخر ، مع استحضار روحي سابق ، ومع هذا ليس هو المكان الوحيد الخاص بالعبادة..
كل مكان له مشاعره الخاصة التي تتولد معه فالأماكن الواسعة والمنفتحة تعكس ذلك حتى على فكر الإنسان وروائيته وطموحاته ، والألوان جزء من المكان والإضاءة والعمق والبعد وحتى نسبة الأكسيجين لها تأثير على تلك المشاعر ، لذلك دائماً أعتني بالمكان الخاص بك وأجعله أكثر إشراق وتفاءل ومبهج لك وأجعله دائم الحيوية، وحتى الأماكن التي تذهب إليها كن دقيق في اختيارك لها.
من خلال ما نقرأ نلاحظ المرأة مع أنها أكثر شاعرية وأرهف حساً من الرجل ، إلا أنها تظل متشائمة ومتذمرة وساخطة وناقمة وهنا تتضح سمة التغيير الإيجابية التي تحدثت عنها في البداية بـ "الدافع من التغيير" يكون بتغير المكان لصنع مشاعر جديدة إيجابية تعكس جمال الحياة الوقتي وتجدد دماء المشاعر ، فالمشاعر تجدد كأي عضو من أعضاء الإنسان وتكبر وتشيخ وتموت وتولد من جديد.
m:/
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي