تقاسيم على الساكسفون أو نقرات على أصابع البيانو.. لا تنتهي.. يظل العازف يعيدها دون تطابق، حتى يصل بصوت البوق إلى ما هو أكثر من نفخ نغمات منوعة في أشجانها، ويذيل النقر على البيانو الفواصل بين درجات السلم الموسيقي ليصل إلى حالة شعورية سائلة.. هذا بعض من موسيقى الجاز لكنه ليس كل شيء؛ فعلى العازفَيْن ومعهما قارع الطبل ولاعب الكونترباص – وفق الشكل الرباعي الأشهر في فرق الجاز – أن يعيش كل منهم حالة استيهام في ارتجاله للتقاسيم، وهي درجة أعلى من التناغم بين عازف وآخر، حيث يسبح كل منهم داخل المساحة الإبداعية بين أسلوبه وإحساسه وبين الآلة وهذا النوع الموسيقي الفريد الذي يظل مفتوحاً دائماً على الإضافة والتمازج مع أنماط وتيمات ونغمات عديدة.
لـ "الجاز" فضاء واسع يتداخل فيه الحلم والتاريخ والمشاعر المتحولة. إنه بحث الإنسان عن صوت وصدى لما يتحرك ويعتمل في داخله وليس ما استقر أو ما اكتمل. ثمة نقص لا يبحث عن اكتمال وإنما شجن الرحلة والطريق.
اللحن الأسود.. ومبدأ الارتجال
بدأت هذه الموسيقى ظلالاً خافتة في حقول القطن بالجنوب الأمريكي وتشكلت من داخل تجرتها الخاصة داخل لهيب الحرب الأهلية الأمريكية في ستينات القرن التاسع عشر، لذلك تعتبر فناً أمريكياً خالصاً. والمثير أن فن "الجاز" بارتجاليته ومساحة الابتكار الحرة في كل عناصره من اللحن إلى التوزيع إلى الكسر المتعمد لكل قواعد الألوان الموسيقية الأخرى، يعتبر الاسهام الأمريكي الخالص الوحيد في رصيد الفن العالمي. كما أن نشأته ضمن شريحة السود الأمريكيين لا يعني انغلاقه عليهم، وإنما هو إسهام من هذه الشريحة اكتسبت به – إلى جانب أدوار أخرى- شرعية فاعليتها داخل التركيبة الاجتماعية الغريبة للأمريكيين.
والحقيقة أن النموذج الأمريكي الثقافي هو الأكثر غرابة في تاريخ الإنسانية، فقد وضع الرجل الأبيض قدمه على الأرض المكتشفة حديثاً ومعه منطقه الانتقائي، وكان على المهاجرين من مختلف الأعراق والمناطق أن يثبتوا حقوقهم ووجودهم، وهو ما عانى منه السود بدرجة أكبر من غيرهم.
كان المنتج الأمريكي "هجيناً" في كل أحواله ومجالاته، وبذلك كان على فن "الجاز" الذي ميز هوية السود أن يمد مظلته الشعورية ليستطيع تلبية مشاعر الجميع، وأن يصبح فناً للجميع، ومن داخل هذه العملية ولدت موسيقى "الجاز" أكثر من مرة، وكان تأثرها بالمتغيرات الاجتماعية والتكنولوجية أكثر رهافة واستجابة. لقد كان "الجاز" في بدايته لمسة شفاء يترنم بها السود مستعينين بمخزون غامض في ذاكرتهم الجماعية تدفعه أحاسيس الظلم إلى الحناجر، فتتمايل الأجساد مع وطأة العمل اليومي الشاق المكلفين به؛ وتبقى النغمة واللحن في ساعة سهر بلسماً وحيداً لحرقة ومرارة العنصرية.
لكن المثير أن تاريخ "الجاز" لم ينته مع بداية القرن العشرين، ولا في أي وقت من سنوات ذلك القرن الذي خفتت فيه وطأة العنصرية، بل بدأ. وظلت رقعة هذا الفن (أسلوباً ولحناً ورسالة إنسانية) تتسع مع كل اختناق اجتماعي، او أزمة إنسانية في أمريكا ثم بعد ذلك العالم الغربي، ثم العالم كله.
أسئلة الإنسان الحديث أعادت تشكيل الفنون كلها من جديد. ورغم ذلك ظل هذا الفن الوليد أكثر تمثيلاً وتعبيراً عن جينات هذا العصر وشفراته. وُلد فن "الجاز" من مخاض الحرب الأهلية الأمريكية، لكن شهادة ميلاده مجرد وثيقة من وثائق تعريفه، بينما شخصيته التي اكتمل نضجها حالياً بتجاوزه المائة عام تحمل بصمات مميزة وقوية؛ فهو نشأ من قانون الارتجال سريع التأثر بالأحداث والمتغيرات سواء كانت اجتماعية أو في تقنيات العمل الفني لذلك يتميز تاريخه في المائة عام الماضية بالتمدد والانتشار جمهوراً وأسلوباً، فـ "الجاز" الأوروبي نكهة مختلفة عن نظيره اللاتيني، كما أن العرقيات الأمريكية المتعددة منحته تدريجات لونية مثل قوس قزح. وقد بدأ "الجاز" في مداعبة الأذن الشرقية منذ أكثر من أربعة عقود.
يقال إن نغمات "الجاز" الأصلية جاءت مع العبيد الذين تم تهجيرهم من إفريقيا إلى الولايات المتحدة في القرن السابع عشر، وأن المنبت الأصلي لـ "الجاز" في الكونغو لكنه لم ينم هنا، بل استغرق الأمر ثلاثة قرون لينضج تحت شمس حقول الجنوب الأمريكي حتى سُمعَت نغماته خارج جلست السهر التي كان يقضيها السود في نهاية مواسم الحصاد.
بين الجرح والشفاء
كان شلال "الجاز" الذي سال وملأ ليالي الأمريكيين منذ انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية في سبعينات القرن التاسع عشر صيحة حرية، لذا توصف نغمات "الجاز" بأنها مساحة نفسية بين الجرح والشفاء بها كثير من الحنين لمنابت تبدو صورتها غامضة، ويكون على العازف أن يرتجل دون التزام بقواعد غريبة عن فطرته. لذلك لم يكن مستغرباً أن تعثر كل العرقيات الأمريكية، ومن بعدها كثير من الثقافات، على مساحة بوح إنسانية لها على بحور "الجاز".
انطلقت موسيقى "الجاز" خارج أماكن السهر عام 1917 حيث بدأ الاستماع الجماهيري لها يفرض ضرورة إقامة حفلات كبرى إلى جانب أداء هذه الموسيقى في المطاعم وأماكن السهر. وكانت تلك الانطلاقة من خلال نموذج أو أسلوب "ديكسي لاند" الذي يمزج "الجاز" و"البلوز" مع قليل من انماط أخرى، وكان تعلم بعض الموسيقيين البيض عزف هذه الموسيقى قد بدأ في القرن التاسع عشر، فلما بدأت حقبة الـ "ديكسي لاند" أسهم ذلك في تسجيل اسطوانات من هذا النمط، ما عزز الانتشار.
وتعتبر أهم تسجيلات الموسيقيين السود في تلك الفترة ما سجلوه مع الرائد "أوليفر كينج"، الذي ظهر معه من أصبح اول أسطورة للجاز "لويس أرمسترونج" الذي لم ينل عازف لـ "الجاز" شهرة كالتي حظي بها، وقد أطلق اسمه على مطار "نيوأورليانز" خلال الاحتفال بمئوية ميلاده عام 2000، حيث ينسب إليه أنه كان أول من حول "الجاز" إلى سلعة تصديرية، وعاملاً من عوامل السفر لأمريكا للسياحة. وقد أقيمت حديقة باسمه في مسقط رأسه، وتمثال له بطول أحد عشر قدماً وهو يحمل بوقاً للعزف، وزين المطار اسمه بجدارية ضخمة لصورته.
يذكر المؤرخون حقبة عشرينات القرن العشرين بأنها عصر "الجاز"، وقد قام أرمسترونج في تلك الفترة بتطوير "الجاز" نغمة وشكلاً حيث حل العزف المنفرد للفنان محل العزف الجماعي.
ومع تزايد قيمة فن "الجاز" تمايلت الأجساد على نغماته، فأُدخل الرقص عليه في ثلاثينات القرن العشرين، وانتشر هذا اللون من الألحان والذي يُعرف بـ "السوينج" في الأربعينات، وقد تميزت أغاني هذا اللون بنضج عاطفي ورقي في أسلوب التعبير، وقد تزامن شيوع السوينج في تلك الفترة مع تيار فني معارض ولدت منه موسيقى "البوب" التي تعتمد على سرعة الصوت والعبارات الموسيقية غير المتناسقة.
وبحلول خمسينات القرن العشرين صعد تيار موسيقي جديد هو "الكول جاز" الذي أكد على العودة لمبادئ "السوينج". لكن مع تداخل كثير من التيارات والألوان الموسيقية التي تتمتع نغماتها بقواعد وقوانين موسيقية مع "الجاز" خلال حقبة الستينات، شهدت تلك الفترة اتجاهاً متشدداً في الحفاظ على مبدأ الارتجال.
تتأتى كلمة أسطورة من تلك العلاقة المباشرة مع الجمهور، العزف والغناء الحي، والارتجال والتنويع على النغمات الأصلية للحن، حتى باتت مهمة أي مطرب أو مطربة في البداية تتطلب إعادة عزف وغناء بعض أشهر الألحان والتنويع عليها والتفاعل معها، قبل أن يبدأ في أداء أعمال مؤلفة خصيصاً له. ويستمر الارتجال مع امتداد رحلة الفنان وتواجده في المهرجانات، التي تبدو أهميتها بالنسبة لفنان "الجاز" اكبر بكثير من تسجيل الاسطوانت في الاستوديو، بل إن بيع وترويج تسجيلات الحفلات الحية تعد الأهم في مسيرة الفنان.
وتوجد قوائم عديدة تؤرخ لأهم أساطير الجاز سواء في الغناء أو العزف أو كلاهما، وتتربع على عرش هذه القوائم مجموعة من أهم السماء التي تركت بصمتها القوية على فن "الجاز"، وبالطبع في طليعتها ارمسترونج، يليه نيت كينج كول، ومايلز ديفيز، والمطربة الشهيرة إيلا فيتزجرالد، وبي بي كينج، وسوني رولينجز، وكثيرين. أما عربياً فيأتي في الصدارة يحيى خليل، وحالياً سعاد ماسي وريما خشيش، وآخرين.
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي