بسم الله الرحمن الرحيم
تأملات في قصة مريم عليها السلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
للقصة أثر بليغ في النفس، ولها دور عظيم في إصلاح التفكير والاهتداء إلى الحق والثبات عليه قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)} [هود : 120] { تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} [الأعراف : 101] وقال عز من قائل: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)} [طه : 99 ، 100] فالقصة من أعظم الوسائل لإزالة الغفلة وعدم الفهم ولتوضيح الحقائق وكشفها قال تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) } [الأنعام : 130 ، 131].
ولما كانت القصة في القرآن الكريم بهذا المثابة، ولما كانت قصص القرآن من أعظم القصص وأحسنها وأبلغها وأعظمها فائدة للإنسان في حياته وبعد مماته ، كان لابد من إدامت النظر وتكرار النظر في قصص القرآن ولذا اخترت لكم في هذه الجلسة تأمل قصة أم المسيح عيسى ابنت عمران عليه السلام.
فمن هي مريم وأين نشأت وكيف بدأت قصتها ؟
نسبها:
هي مريم بنت عمران، وعمران أحد علماء بني إسرائيل وفضلائهم. من الذين اصطفاهم واختارهم الله تعالى قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) ) فهي ذات نسب عالي شريف، إذ هي من الأسرة التي اصطفاها الله تعالى واختارها وفضلها على العالمين . قال العلامة السعدي: (فاصطفى الله آل عمران وهو والد مريم بنت عمران، فهذه البيوت التي ذكرها الله هي صفوته من العالمين، وتسلسل الصلاح والتوفيق بذرياتهم، فلهذا قال تعالى { ذرية بعضها من بعض } .
ومن الفائدة والحكمة في قصه علينا أخبار هؤلاء الأصفياء أن نحبهم ونقتدي بهم، ونسأل الله أن يوفقنا لما وفقهم، وأن لا نزال نزري أنفسنا بتأخرنا عنهم وعدم اتصافنا بأوصافهم ومزاياهم الجميلة، وهذا أيضا من لطفه بهم، وإظهاره الثناء عليهم في الأولين والآخرين، والتنويه بشرفهم، فلله ما أعظم جوده وكرمه وأكثر فوائد معاملته، لو لم يكن لهم من الشرف إلا أن أذكارهم مخلدة ومناقبهم مؤبدة لكفى بذلك فضلا. (1/128).
والدة مريم عليها السلام:
اسم أم مريم حنة ، وهي زوجة صالحة، وأم فاضلة، ولم يصرح القرآن باسمها بل ذكرها بما يثبت شرفها حين (امرأة عمران) والزوجة من آل الزوج وعليه فإن زوجة عمران اصطفيت من جملة آل عمران الذين اصطفاهم الله تعالى.
اشتاقت أم مريم للولد، فدعت اللّه تعالى أن يهبها ولدا، فاستجاب اللّه دعاءها، فلما تحققت الحمل ، وتبين لها ذلك رفعت يديها إلى ربها بدعاء مليء بالإخلاص وغاية الشكر لله تعالى فقالت: ( رب إني نذرت لك ما في بطني محررا ) أي: خالصا لوجهك الكريم، متفرغا للعبادة وخدمة بيت المقدس. وكان ذلك جائزا في شريعتهم، وكان على الولد الطاعة. ومن عظيم حرصها ورغبتها الصادقة في ذلك قالت: (فتقبل مني إنك أنت السميع العليم) فدعت اللّه أن يتقبل منها هذا النذر، وهو السميع لكل قول ودعاء، العليم بنية صاحبه وإخلاصه، وهذا يستدعي تقبل الدعاء، فضلا منه وإحسانا، ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكر أم أنثى. والنذر: هو ما أوجبه المكلف على نفسه من العبادات مما لو لم يوجبه لم يلزمه. فهو لا يلزم العبد إلا بأن يلزمه نفسه. ولقد كانت هذه المرأة مخلصة لله تعالى، حريصة على البحث عن الوسائل التي تزيدها قربا منه فكان منها هذا الدعاء ، واعية لدورها التربوي العظيم لذلك كان منها هذا النذر العظيم.
ولما وضعت تلك الأم وليدتها ظلت على صلتها بربها حتى في ساعات الولادة الأولى، وظلت على عهدها ووعدها لربها بالنذر فلما وضعت أم مريم ابنتها، قالت: (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) وهذا ليس اعتراضا منها على ولادة الأنثى بل لأنها تعلم أن الأنثى يعتريها ما يعتريه من موانع الطبيعية من دخول مكان العبادة ولأن الأنثى يخشى عليها من تركها في مكان بعيد دون حراسة أو رعاية . وقد كانت السيدة حنة سعيدة بابنتها، فخورة بها، مما جعلها تختار لها أجمل الأسماء فسمتها (مريم) (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ) يعني العابدة تيمنا بمعناه ، وفي ذلك تعليم للناس أهمية اختيار الأسماء ذات المعاني العظمية، وفي المثل لكل اسم من مسماه نصيب. وقد كانت شديدة الحرص عليها والخوف عليها من كل شر ، ورغبة أن تكون تلك البنت كما تريد لها والدتها أن تكون من العبادة والحرص على الطاعة عوذتها، بل وعوذت ذريتها من بعدها، فأي امرأة حكيمة حصيفة فطنة تلك المرأة العظيمة التي استحقت أن تكون من آل عمران البيت الطاهر العفيف العابد قال تعالى حكاية عنها : (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) ) فكان لها ما أرادت فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسه الشيطان إلا بن مريم وأمه )ثم قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم! وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. وفي ذلك دليل على أهمية الدعاء للأبناء وتحصينهم بالأذكار الشرعية، وأهمية تفويض أمر حفظهم وصلاحهم لله تعالى.
فانطلقت بها أمها في خِرَقها - يعني أمّ مريم بمريم - حين ولدتها إلى المحراب = وقال بعضهم: انطلقت حين بلغتْ إلى المحراب = وكان الذين يكتبون التوراةَ إذا جاءوا إليهم بإنسان يجرّبونه، اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه. وكان زكريا أفضلهم يومئذ، وكان بينهم، وكانت خالة مريم تحته. فلما أتوا بها اقترعوا عليها، وقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها، تحتي أختها! فأبوا، فخرجوا إلى نهر الأردنّ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها: أيهم يقوم قلمه فيكفلها لعظيم مكانة والدها وأسرتها، وطلبا لبركة تربيتها. فجرت الأقلام، وقام قلم زكريا على قُرْنتَه كأنه في طين، فأخذ الجارية. وذلك قول الله عز وجل:"وكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا "، فجعلها زكريا معه في بيته، وهو المحراب. قال تعالى : " ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) ".
مكانتها:
كان لمريم عليها السلام مكانة عظيمة عند الله تعالى ، مزية خاصة ورعاية وعناية منه عز وجل ويتضح ذلك في عدد من الجوانب:
1. حديث القرآن عن مريم قبل الحمل بها، وبيان الإرهاصات التي أحاطت بالحمل بتلك النطفة الطاهرة.
لقد سجل الله تعالى لوالدتها دعائها، تسجيلا يشعر بعظمته هذا الدعاء، وجليل قدره، لأن هذا الدعاء دعاء تاريخيا والتاريخ لايثبت فيه إلا الأحداث والوقائع التي لها أثر في حياة الناس، ولما كانت ولادة مريم وقدومها للدنيا حدثا تاريخيا، كان هذه االولادة جديرة بالإخبار عنها، والإحاطة بها.
2. إن الله تعالى أخبر بأن الأنثى التي وضعتها أم مريم خير من الذكر الذي تمنته فقال تعالى تعليقا على كلام أم مريم : " فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى"
3. تقبل الله تعالى تلك الوليدة فقال تعالىفَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ) أَيْ تَقَبَّلَ مَرْيَمَ مِنْ أُمِّهَا وَرَضِيَ أَنْ تَكُونَ مُحَرَّرَةً لِلِانْقِطَاعِ لِعِبَادَتِهِ وَخِدْمَةِ بَيْتِهِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ (قَبْلِهَا) وَزَادَهُ مُبَالَغَةً وَتَأْكِيدًا وَصْفُهُ بِالْحُسْنِ كَأَنَّهُ قَالَ : فَقَبِلَهَا رَبُّهَا أَبْلَغَ قَبُولٍ حَسَنٍ .
4. هيأ الله تعالى البيئة الصالحة النقية حيث جعلها تحت ولاية نبي الله تعالى زكريا أبو نبي الله يحيا فعاشت قريبة من بيت النبوة حيث العبودية الخالصة، والأخلاق العالية، والعادات الرائعة، والحياة الكريمة. قال تعالى: " وكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا " وكلمة كفلها تدل على مزيد العناية والرعاية من زكريا بمريم عليها السلام، فكان لها الأب الرحيم، والمعلم الموجه، والناصح الأمين، يحيطها بالاهتمام، ويعتني بها أشد العناية، لنشأ تلك الشابة عزيزة النفس، كريمة الطباع، عالية الأخلاق، سليمة القلب والعقل.
5. إن الله تعالى كان يتولى إطعامها، وتوفير التغذية الصحية لها حتى يشب جسدها قويا سليما صحيحا قادرا على تحمل العبادة والتفرغ لها، كما تشب روحها وتصفو نفسها ويتطهر قلبها بالصلاة وطول القنوت .قال تعالى: (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) أَيْ رَبَّاهَا وَنَمَّاهَا فِي خَيْرِهِ وَرِزْقِهِ وَعِنَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ تَرْبِيَةً حَسَنَةً شَامِلَةً لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ كَمَا تُرَبَّى الشَّجَرَةُ فِي الْأَرْضِ الصَّالِحَةِ حَتَّى تَنْمُوَ وَتُثْمِرَ الثَّمَرَةَ الصَّالِحَةَ لَا يُفْسِدُ طَبِيعَتَهَا شَيْءٌ ; وَلَعَلَّهُ عَبَّرَ عَنِ التَّرْبِيَةِ بِالْإِنْبَاتِ لِبَيَانِ أَنَّ التَّرْبِيَةَ فِطْرِيَّةٌ لَا شَائِبَةَ فِيهَا . (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37))
6. اختيارها لتكون أما لنبي الله ورسوله ونسبة ذلك النبي إليها فلايذكر في الغالب إلا منسوبا إلى أمه، وهذا لبيان شرف نسبته حيث إن من عادة الناس الافتخار بنسبهم وبآبائهم وأجدادهم، والأنبياء دائما يكونون من أشرف الناس نسبا قال تعالى: {إذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) } [آل عمران[{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ } [النساء : 157] {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) } [المائدة : 75 ، 76]
7. :اختصاصها بالنفخ في درعها مباشرة دون أن يمسسها بشر وهذا لم يحدث لأي امرأة قط وهو من خصائصها عليها السلام قال تعالى:{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) } [التحريم : 12].
8. إنها كانت سببا لدعاء زكريا بالولد الصالح: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39))
9. بشارة الملائكة لها بالاصطفاء والتطهير لها قال تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)) قال ابن عاشور: "تَكَرَّرَ فِعْلُ اصْطَفاكِ لِأَنَّ الاصطفاء الأول اصطفاء ذَاتِيٌّ، وَهُوَ جَعْلُهَا مُنَزَّهَةً زَكِيَّةً، وَالثَّانِي بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ عَلَى الْغَيْرِ. فَلِذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ الْأَوَّلُ إِلَى مُتَعَلِّقٍ. وَعُدِّيَ الثَّانِي. وَنِسَاءُ الْعَالَمِينَ نِسَاءُ زَمَانِهَا، أَوْ نِسَاءُ سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ. ... وَإِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِقَصْدِ الْإِعْجَابِ بِحَالِهَا، لِأَنَّ النِّدَاءَ الْأَوَّلَ كَفَى فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْ إِقْبَالِهَا لِسَمَاعِ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ النِّدَاءُ الثَّانِي مُسْتَعْمَلًا فِي مُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ الَّذِي يُنْتَقَلُ مِنْهُ إِلَى لَازِمِهِ وَهُوَ التَّنْوِيهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَالْإِعْجَابُ"
وكان أبو هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ نِسَاءٍ رَكبْن الإبلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، أحْناهُ عَلَى وَلَدٍ في صِغَرِهِ، وأرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ، ولمَْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بنْتُ عِمْرَانَ بَعِيرًا قَطُّ". وعن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قَالَ حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ." تفرد به الترمذي وصححه. وعن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أرْبَع، مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وآسِيَةُ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بَنْتُ رَسُولِ اللهِ [صلى الله عليه وسلم] وعن معاوية بن قُرَّة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا ثَلاث: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " .
10. حوارات الملائكة مع مريم عليها السلام حتى قال بعض المفسرين إنها نبيه، ففي أكثر من موقف كانت الملائكة تتحدث مع مريم، وكانت تأتيها بالرزق، وكانت تأنسها وتعلمها وتبشرها ، ولاشك أن هذا سينعكس على عظم استقامتها، وصفاء سريرتها، وصحة إيمانها.
صفاتها:
1. خضوعها لربها، وتعلقها به، وانقطاعها لعبادته، ولم تنشغل بما تنشغل به النساء منذ نعومة أظفاره فهي نشأت في طاعة الله تعالى، والأنس به، فكان جل تفكيرها، ومحور اهتمامها، وغاية مبتغاها الالتزام بأوامر الهي تعالى، واجتناب نواهيه، والتلذذ بالقرب منه عزوجل مع ما ترى من الكرامة من الله تعالى لها.
2. جلدها على العبادة، وثباتها عليها ، ودأبها عليها بمختلف صورها دون ملل أو ضجر بكيفية تفوق فيها كثير من الرجال قال تعالى: ( يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)) قال ابن كثير: "ثم أخبر تعالى عن الملائكة: أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والخضوع والسجود والركوع والدؤوب في العمل لها، لما يريد الله [تعالى] بها من الأمر الذي قدره وقضاه، مما فيه محنة لها ورفعة في الدارين، بما أظهر الله تعالى فيها من قدرته العظيمة، حيث خلق منها ولدًا من غير أب، فقال تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } أما القنوت فهو الطاعة في خشوع كما قال تعالى: { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } [ البقرة : 116 ] وقال مجاهد: كانت مريم، عليها السلام، تقوم حتى تتورم كعباها، والقنوت هو: طول الركوع في الصلاة، ".
3. حرصها الشديد على سمعتها، والابتعاد عن الريبة والتهم: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21). ) قال ابن عاشور: "فقد راجعت الملك كما راجع إبراهيم عليه السلام الملائكة وكما راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه في الصلاة، فهي أرادت تراجع ربها فيما قيل لها، حتى لايظن بها الظن السيء. وَمُحَاوَرَتُهَا الْمَلَكَ مُحَاوَلَةٌ قَصَدَتْ بِهَا صَرْفَهُ عَمَّا جَاءَ لِأَجْلِهِ، لِأَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ فَأَرَادَتْ مُرَاجَعَةَ رَبِّهَا فِي أَمْرٍ لَمْ تُطِقْهُ."
4. الاستسلام التام لأمر ربها، ورضاها بما قدر لها، والإذعان لحكمته، والفهم والوعي بما خوطبت به ( قال إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)).
5. حكمتها في دفع الشر عنها، ولجوئها لربها في جميع الأحوال (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)) قال ابن عاشور: " فَبَادَرَتْهُ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهَا مُبَادَرَةً بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَا تَوَهَّمَتْهُ مِنْ قَصْدِهِ الَّذِي هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ أَمْثَالِهِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ.وَجُمْلَةُ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ خَبَرِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ أُكِّدَتْ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِأَنَّهَا جَعَلَتِ اللَّهَ مَعَاذًا لَهَا مِنْهُ، أَيْ جَعَلَتْ جَانِبَ اللَّهِ مَلْجَأً لَهَا مِمَّا هَمَّ بِهِ. وَهَذِهِ مَوْعِظَةٌ لَهُ. وَذكرهَا صفة (الرحمان) دُونَ غَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لِأَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ يَرْحَمَهَا اللَّهُ بِدَفْعِ مَنْ حَسِبَتْهُ دَاعِرًا عَلَيْهَا.وَقَوْلُهَا إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا تَذْكِيرٌ لَهُ بِالْمَوْعِظَةِ بِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ رَبَّهُ.وَمَجِيءُ هَذَا التَّذْكِيرِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ الْمُؤْذِنِ بِالشَّكِّ فِي تَقْوَاهُ قَصْدٌ لِتَهْيِيجِ خَشْيَتِهِ، وَكَذَلِكَ اجْتِلَابُ فِعْلِ الْكَوْنِ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِ التَّقْوَى مُسْتَقِرَّةً فِيهِ. وَهَذَا أَبْلَغُ وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ وَحَثٍّ عَلَى الْعَمَلِ بِتَقْوَاهُ. (16 / 81)
6. شجاعتها وجرأتها في الحق وقدرتها على المواجهة بكل ثقة وطمأنينة نفس. قال تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)} .
7. صبرها وتحملها الابتلاء العظيم الذي تمنت بسببه الموت، قال تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) } فليس أعظم وأقسى شيء على المرأة العفيفة الشريفة من أن تتهم في عرضها، ويتحدث الناس في شرفها، فكيف عندما تكون تلك المرأة قد بلغت شأنا عظيما في الاستقامة، وذاع صيتها في الصلاح والتقوى، ثم تأتي بما يتهمها الناس فيه بسوء شرفها؟! لاشك أن هذا أمرا قويا على تلك النفس الصافية النقية، لاسيما وهي تعرف طباع اليهود، وضعف تفكيرهم، وقسوة طباعهم، وسوء طويتهم وتاريخهم المظلم مع أنبيائهم والصالحين منهم.
8. حبها لابنها وحرصها عليه وحنانها عليه ( فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)( ، وكانت مريم عليها السلام تفتخر بابنها، لذلك لم تتردد عليها السلام في حمل وليدها والذهاب به إلى قومها، دون أن تحاول إخفائه، أو مواراته، أو التبري منه بل جاءت كما قال تعالى: ]فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ [ .
وهكذا كانت مريم عليها السلام قدوة نساء العالمين في كمال المرأة ومعينا صافيا لتعلم قيمة المرأة الصالحة ودورها في صلاح المجتمع.
د. وفاء الزعاقي
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي