الخسف بقارون ، ورحلة موسى والفتى ، وذبح البقرة :
أقام بنو إسرائيل في مدين بمعية موسى - على ما يبدو - سنين عديدة ، واطمأنوا بها وإليها ، وطاب لهم المقام فيها ، حيث الزراعة وتربية المواشي والتجارة ، وهذا هو ديدنهم ، ومن الأحداث التي وقعت فيها ، قصة البقرة ، ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ (67 البقرة ) ، وقصة سفر موسى حيث مجمع البحرين ، للالتقاء بالعالم ، ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقبًا (60 الكهف ) وقصة قارون المعروفة ، ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَليْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76 القصص ) .
الأمر بدخول الأرض المقدّسة وتحريمها عليهم وتيههم شرقي النهر :
وبعد مدة من مكثهم في مدين ، أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة ( فلسطين ) ، ولم تكن هناك حاجة للقتال آنذاك ، فرفضوا وعصوا ، لقلة وانعدام إيمانهم ، وأخلدوا إلى الأرض ، وتذرّعوا بحجج واهية ليبرّروا اتكاليتهم وعجزهم ، فدعا موسى ربه ليحكم بينه وبينهم ، فاستجاب له ربه ، ( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26 المائدة ) ، فكان تحريم الدخول لمدة أربعين سنة ومن ثم التيه في الأرض .
والتيه لغة الحيرة والضلال ، ورجل تائه وتيّاه ، إذا كان جسورا يركب رأسه في الأمور ، وفي الحديث : إنك امرؤ تائه ، أي متكبر أو ضال متحيّر . والمراد من ذلك أنهم تُركوا على رؤوسهم ، وحُرموا من قيادة الأنبياء ، بأن الله تخلى عنهم وحرمهم من رعايته لهم ، ورفع عنهم الوحي وتركهم بلا هداية ، بعد موت موسى عليه السلام ، على مدى 40 سنة ، ولم يُقصد بالتيه الضياع والتشرّد المكاني ، في صحراء سيناء ، كما كنا نعتقد سابقا . والصحيح أنهم حافظوا على تواجدهم ، كأمة مكونة من 12 جماعة شرقي نهر الأردن ، وأُوكلت قيادة كل جماعة إلى أحد النقباء الاثني عشر ، كل حسب السبط الذي ينتمي إليه ، بعد انقطاع قيادة الوحي ، وهذا مما ينفي نبوة فتى موسى المسمى بيوشع بن نون . وهنا تتضح الحكمة من جراء إلقاء مسؤولية حفظ الميثاق وإقامته ، على النقباء الاثني عشر بعد وفاة موسى وانقطاع الوحي والعناية الإلهية . وهذا ما حاول مؤلّفو التوراة إخفاءه بتبديل مواضع الكلم ، فجعلوا المن والسلوى ، تتنزّل عليهم لمدة أربعين سنة في الصحراء ، وهي عدد سنين التحريم والتيه ، التي كانوا يأكلون فيها البصل والعدس .
ويدّعي كتبة التوراة أن بني إسرائيل ، أثناء قدومهم إلى الأرض المقدسة ، بمعية موسى عليه السلام ، قد قاتلوا أقواما كثيرة ، شرق نهر الأردن وانتصروا عليها ، ويدّعون أيضا أنهم هاجموا الكنعانيين بعد موسى ، وهدموا أسوار مدينة أريحا بمعية يوشع بن نون ، وأنهم أقاموا زمن القضاة غرب النهر . وهذا كله محض افتراء وتلفيق ، فكيف يقاتل من طلب منه مجرد الدخول ولم يدخل ، ولفظ الدخول في القرآن يوحي بانتفاء القتال . والحوار الذي دار بين موسى وقومه لدخولها ، تجد نصه كاملا في الآيات (20 – 27) المائدة .
زمن الإخبار بنص نبوءة الإفساد والعلو في الأرض :
وبعد مدة يسيره من الزمن من ذلك الحكم ، كشف موسى عليه السلام النقاب عن النبوءة موضوع هذا الكتاب ، وأخبر عنها قبل أن ينتقل إلى جوار ربه . وتركهم في غيهم وطغيانهم يعمهون ، كما حكم عليهم ربهم ، وأُوكل الأمر من بعده إلى النقباء الإثني عشر أصحاب الميثاق ، ليحفظوا التوراة ، وليحكموا بين الناس بما جاء فيها ، ومن ذلك اليوم انتقلت مسؤولية حفظ التوراة والشريعة إلى أناس عاديين ، فبدأ ظهور الأحبار ، قال تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ، لِلَّذِينَ هَادُوا ، وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ (44 المائدة ) .
طلب المُلك لدخول الأرض المقدّسة بعد نهاية سنوات التيه :
( إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
وبعد انقضاء سنون التيه الأربعون ، التي عاشوا خلالها شرقي نهر الأردن . بُعث فيهم نبيا ، يدّعون أن اسمه ( صمويل ) . وربما لتعرضهم لضيق العيش والاضطهاد والغزو ، من قبل الممالك المجاورة شرقي النهر ، طلبوا من هذا النبي ، أن يبعث لهم ملكا ، قال تعالى ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ، إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (246 البقرة ) بغية دخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم ، فبُعث لهم طالوت ملكا ، وأنزل الله لهم التابوت تحمله الملائكة ، آية لملكه ، كونهم لا يؤمنون إلا بما هو محسوس ، فأعدّهم ونظّم صفوفهم ، واجتاز بهم نهر الأردن ، فشربوا منه إلا قليلا .
وكانت المواجهة مع الكنعانين – على الأرجح في سهول أريحا – ( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ) وقتل داود - الذي كان من جنود طالوت - جالوت قائد الكنعانيين ، ودخلوا القدس . ومن ثم انتقل المُلك لداود عليه السلام ، بغض النظر عن الكيفية ، ( وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ ، وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ (251 البقرة ) ، ونص هذه الأحداث كاملا ، تجده في الآيات (246 – 251) البقرة ، وكانت هذه أول معركة يقاتل فيها بنو إسرائيل ، وكان جيشهم يتألف من القلة المؤمنة ، التي لم تكن قد شربت من النهر ( نهر الأردن ) ، وكان هذا هو الدخول الأول لبني إسرائيل إلى الأرض المقدسة .
داود عليه السلام يؤسس أول دولة لليهود في القدس :
قال تعالى ( وَلَقَدْ آتَينَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16 الجاثية ) ، هذه الآية تشير إلى أن هناك خمسة أمور اجتمعت لبني إسرائيل ، وهي الكتاب أي الشريعة التي تركها لهم موسى عليه السلام ، والحكم أي الملك ، والنبوة أي الوحي ، والسعة في الرزق ، والتفضيل باختيارهم لحمل الرسالة السماوية في ذلك الزمان ، وقد اجتمعت هذه الأمور الخمسة في زمن مملكتهم الأولى في الأرض المقدسة ، حيث كان داود عليه السلام أول ملوكها .
ملك داود عليه السلام :
معظم الآيات التي أخبرت عن داود وملكه ، كانت تركّز على شخص داود ، حيث اتّصف عليه السلام بالورع والتقوى وكثرة العبادة ، والعلم والقوة مع شيء من اللين في المعاملة ، وتوحي بأن شغله الشاغل ، كان توطيد أركان دولته الحديثة ، ( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20 ص ) ، وإعداد ما استطاع من قوة للدفاع عن دولته الصغيرة ، التي كانت محصورة في بيت المقدس وما حولها ، من هجمات الأقوام المجاورة لها من الكنعانيين ، ولم يكن يسعى لتوسيع رقعة الدولة ، كون الأمة الإسرائيلية آنذاك كانت قليلة - وهي لم تكثر إلا في العصر الحديث ، وبالتحديد بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث رُفع عنهم القتل - ولم تكن تستدعي امتلاك مساحة كبيرة من أرض فلسطين .
صفة الجبن الملازمة لليهود ومعالجتها بابتكار داود للدروع الحربية :
قال تعالى ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80 الأنبياء ) ، والضمير ( كم ) في كلمتي ( لكم ) و ( بأسكم ) ، يعود على المخاطبين بالقرآن ، وهذا خبر يفيد أن داود عليه السلام ، هو أول من ابتكر الدروع الحربية الحديدية ، وأول من استعملها هم بنو إسرائيل ، وهذا يكشف طبيعة الجبن فيهم ، والحرص على الحياة ، والخوف من الموت ، وكرههم للقتال ، ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا (96 البقرة ) وصناعة داود لها يدل على معرفته بطبيعتهم تلك ، فقد قالوا لموسى من قبل ( إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24 المائدة ) ، فالجبن والتواكل على الغير ، طبيعة متأصّلة في نفوسهم ، وانظر إلى قولهم ( وربك ) وليس ( وربنا ) ، فهو رب موسى ، وليس بربهم ، فما كانوا مؤمنين ، لذلك قال فيهم موسى عليه السلام ( فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25 المائدة ) ، وكان أغلبهم فاسقين وعصاة ومعتدين ، حتى في زمن طالوت وداود وسليمان وعلى مر العصور ، حيث قال تعالى ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78 المائدة ) ، فكما تأذّى موسى عليه السلام ، ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5 الصف ) تأذّى منهم داود عليه السلام وهو أول ملوكهم ، وتأذّى منهم عيسى عليه السلام وهو آخر أنبيائهم ، ومن وقع بينهما من الأنبياء .
ولم يكن شُرب أغلبهم من النهر ، عند عبورهم مع طالوت إلى فلسطين عطشا ، وإنما ليستثنيهم طالوت من الخروج في الجيش للقتال ، وما زالوا يفتعلون الحجج للتهرب من القتال حتى في دولتهم الحالية ، فهم يدفعون بأبنائهم إلى المدارس الدينية ، لتجنيبهم الخدمة العسكرية . فابتكر عليه السلام الدروع الحديدية ليلبسوها في حروبهم ، مع الشعوب المجاورة ، التي على ما يبدو كانت تغزوهم باستمرار ، لعلها تدخل شيئا من الاطمئنان إلى تلك القلوب الوجلة ، وتدفعهم إلى الذود عن حمى مملكتهم . ولو نظرت إلى واقعهم المعاصر ، لوجدتهم يلبسون الدروع الواقية من الرصاص ، حتى في مواجهة الحجارة ، وتجدهم يتحصّنون وراء السيارات المصفحة ، أو يقاتلون من وراء جدر من الإسمنت المسلح ، وهذا ما يفضحهم به القرآن في مواضع كثيرة ، ( لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14 الحشر ) .
سليمان عليه السلام يوطّد أركان الدولة :
نظام الحكم ملكي وراثي :
( وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ (30 ص ) ، ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ (16 النمل ) ، نتبين من الآيتين السابقتين ، أن نظام الحكم في مملكة بني إسرائيل الأولى ، كان ملكيا وراثيا ، في نسل داود عليه السلام . وفي سنين حكم سليمان عليه السلام ، سعى إلى توسيع رقعة مملكته نسبيا ، لتغطي مساحة أكبر من مدينة القدس ، لتشمل ما حولها من المدن والقرى ، من النهر شرقا إلى البحر غربا ، ولكنها على كل الأحوال ، لم تشمل فلسطين كاملة ، فأهل فلسطين الأصليين لم يخرجوا منها ، ولم يّبادوا ، ولكنهم تقهقروا إلى ما بعد حدود مملكة سليمان ، حيث كانت الممالك في تلك العصور ، تقتصر على مدينة – بحجم قرية في العصر الحالي – وما حولها من سهول ومراعي ، ولا أظنهم استكانوا ، وسلمّوا لبني إسرائيل بالأمر الواقع ، وإنما كان هناك ، حروب ومناوشات ، والله أعلم .
حقيقة ملك سليمان :
أما قول سليمان عليه السلام ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35 ص ) فكان ملكا شخصيا خاصا به ، ولم يكن لبني إسرائيل فيه ، ناقة ولا بعير ، ولم يقصد به امتلاك مساحات شاسعة من الأراضي ، ومظاهر ملكه اقتصرت على ما وهبه سبحانه إياه ، من الممتلكات والقوة والحكم ، والتي تميّز بها عن كافة ملوك الأرض ممن أتوا بعده ، ومنها ؛ جريان الريح بأمره ، وحكمه للجنّ ، واستعمالهم في البناء والغوص والقتال والصناعة ، والقدرة على إذابة النحاس وتشكيله ، وكثرة جنوده من الجن والإنس والطير ، وكان عليه السلام قويا ورعا تقيا عالما حكيما ، وفيه شيء من الشِدّة ، وكان بنوا إسرائيل يرهبونه ويخافونه ، ولذلك نال قسطا كبيرا من اتهماتهم المشينة ، بعكس أبيه داود الذي كان لينا معهم ، فقال فيهم سبحانه ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ … (102البقرة ) ، وعلى ما يبدو أن الشياطين بعد وفاته عليه السلام ، ادّعت أن سليمان لم يسلطّ عليهم ، وإنما كان تابعا لهم ، يعبدهم ويستعين بهم لقضاء مصالحه . فأشركوا بالله وعبدوا الشياطين وأباحوا السحر والشعوذة ، ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100 الأنعام ) .
أكثر ما حيّرني في أمر ملك سليمان ، هو الغاية من تسخير الريح ، فالروايات في كتب التفسير غير منطقية ، حيث تقول أنها كانت تحمل سليمان وملأه وجنوده ، على بساط خشبي عظيم ، وتنقلهم من بلد إلى آخر للقتال والترفيه وغيره ، ولم يرد في تواريخ الأمم التي عاصرت ملك سليمان ، أنهم شاهدوا يوما بساطا خشبيا طائرا ، وسورة النمل تؤكد أن سليمان وجنوده ، كانوا يسيرون على الأقدام أثناء تنقلهم .
وبعد طول تفكير وتمعنّ وتدبّر في الآيات ، التي تتحدث عن الريح وعن ملكه عليه السلام ، تبين لي أنه كان يركب البحر ، منطلقا من الأرض المقدسة ، فتجري الريح بمركبه إلى حيث أراد برفق ولين في الذهاب ، لتسهل عليه عملية البحث والتقصي ، بدلالة قوله تعالى ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37 ص ) ، وبعد انتهاء المهمة ، يستعجل العودة إلى وطنه ، فيأمر الريح لتجري بقوة وسرعة إلى الأرض المباركة ، بدلالة قوله تعالى ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82 الأنبياء ) ، وأما الغاية من القيام بالرحلات البحرية ، فهي السياحة واستخراج كنوز البحر وجلبها لمملكته ، ويؤيد ما ذهبت إليه ، ذكر الغوص ، الذي كانت تقوم به الشياطين ، مباشرة بعد ذكر الريح في الآيات السابقة ، والغوص عادة لا يكون إلا في المياه العميقة ، وكانت مدة كل رحلة من رحلاته شهرين ، شهر في الذهاب وشهر في العودة ، بدلالة قوله تعالى ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ (12سبأ ) ، والله أعلم .
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي