من كل المواقف يستلهم شيخنا الدروس والعبر ، ومنها كلها يرسم لنا منهج الحياة ، وكيف يجب أن نكون ، هذه المرة مع قصة بني إسرائيل في التيه ، وما أشبه الليلة بالبارحة .
هذه النقاط ملخص شاملٌ لما ذكره الشيخ ، وقد أوضح الشيخ في النهاية أنه سيطرح الموضوع قريباً بشكل أعمق وفي وقت أوسع بإذن الله ، أما ما ذكره فهو مجرد إشارات بسيرة.
• من الموافقات أن هذا الموضوع يتزامن مع أحداث فلسطين ، وهذه القصة تتعلق بفتح الأرض المقدسة ودخول الأرض المقدسة ، كما أن معركتنا الآن في فلسطين هي من أجل دخول الأرض المقدسة ، لكن الفرق أن المعركة في القصة التي أوردها القرآن كانت بين الجبارين واليهود الذين كتب الله لهم الأرض المقدسة ، وهي الآن بين اليهود وبين المسلمين الذين هم أحق بهذه الأرض المقدسة.
• لا يحتج اليهود بهذه القصة على أن الأرض المقدسة كانت لهم ، بل هي للمؤمنين ( إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ) ، ولو سلمنا بما قالوا لكان الجبارون الذين سكنوها قبلهم أحق بها منهم.
• الداعي لطرح هذا الموضوع هو أنني على يقين من إقبال الأمة بإذن الله على الجهاد ، وقلت مراراً إنني أخشى من التعجل في الجهاد قبل توافر أسبابه ودواعيه أو ظروفه أو إزالة الموانع .
• المعارك التي تحدث في بلاد المسلمين باسم الجهاد ليست جهاداً ، وهذا من الحق الذي يجب الصدع به.
• كما نعاني من الذين يجعلون الجهاد في غير موضعه فإننا نعاني من أولئك الذين يثبطون الناس عن الجهاد ( وإن منكم لمن ليبطئن ) ( قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً ) . حتى أنني قرأت لأحد الدعاة قبل سنوات قوله: لا يوجد اليوم على وجه الأرض إلا جهاد الدعوة . وهذا الكلام مخالف للنصوص الصريحة الصحيحة ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين يقاتلون لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله ) والجهاد بالنفس باقٍ إلى نزول عيسى بن مريم وقتاله الكفار وإلى قيام الساعة بإذن الله .
• إنني أخشى أن يكون هؤلاء المثبطون كأصحاب التيه الذين دعاهم موسى عليه السلام لدخول الأرض المقدسة فقالوا له : ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ) .
• لما أراد موسى أن يندب بني إسرائيل لمهمة القتال لدخول الأرض المقدسة وهي مهمة عظيمة قدم بمقدمة فقال : ( يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً ) لاحظ ، قال : ( جعل فيكم أنبياء ) لأن النبوة مختصة فليست لهم كلهم ، بل لبعضهم ، ثم قال : ( وجعلكم ملوكاً ) أي بالنعم والخير الذي رزقكم إياه . وهذا يذكرنا بحالنا فإن فينا من عوام الناس من يسكن في بيوت لم يكن يسكنها الملوك قبل خمسين سنة فقط ! تأمل قول الله تعالى: ( وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين ) ، وهذا واقعنا ديناً ودنياً ، فعندنا الحرمين والعقيدة الصحيحة ، وعندنا من الكنوز والأموال ما الله به عليم.
• نحن الآن قد كتبت لنا الأرض المقدسة كما كتبت لبني إسرائيل من قبلنا ، جاء في الحديث: ( تقاتلون اليهود أنتم شرقي النهر وهم غربيه ... ) لكنني أخشى أن يقع بعض قومنا في التيه من خلال الميل إلى السلم والمصالحات والاستسلام ، وقد حذرنا منه مع العلماء في بيان مكة الثاني.
• ( قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ... ) انظر إلى واقعنا ، وانظر إلى أولئك الذين يقولون اليوم : لا طاقة لنا باليهود ! وهذه نفس نغمة اليهود ، والذين يطرحون مبادرات السلام مع اليهود منطقهم كمنطق أصحاب التيه .
• يقول أولمرت: أنا بكيت لأحداث غزة . هذا المجرم يبكي على ما اقترفت يداه ، والغرب يرفض إدانة جرائمه.
• ( قال رجلان من الذين يخافون ... ) فيها قولان : قيل من الذين يخافون الله عز وجل . وقيل : من الذين يخافون من الجبارين ، لكنهم كانوا أشجع من غيرهم.
• ( قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ) ثلاث مؤكدات: إن ، لن ، أبداً . أتوا بكل تأكيد ليؤكدوا عدم رغبتهم بالدخول.
• بنو إسرائيل الذين رفضوا الدخول فُسَّاق على الصحيح في هذا الموضع وليسوا كفاراً ( فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ) ( فلا تأس على القوم الفاسقين ) .
• بنو إسرائيل الذين رفضوا دخول الأرض المقدسة خير من بعض بني قومنا ، لأن بني إسرائيل لما رفضوا أن يقاتلوا قالوا : ( اذهب أنت وربك فقاتلا ) أما هؤلاء فلا هم يقاتلون ولا يسمحون لأحد أن يقاتل ، بل يطاردونه في كل مكان ويمنعونه ، وهم الذين يحمون حدود فلسطين من أن يدخلها أي مجاهد ، ويتعاونون مع اليهود. بل إنهم يمنعون الأطباء من الدخول.
• قال موسى : ( رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ) ، لم لم يقل : والرجلان الذين يخافون ؟
هناك قول أن المقصود بأخيه هو فتاه يوشع بن نون ، وهارون كان قد مات قبل ذلك ، لكن هذا القول مرجوح.
والصحيح أنه كأنه يقول: حتى هؤلاء لا أملكهم ، فهم مؤمنون ، لكن قد يغيرون مواقفهم. فهو لا يملكهم ، ولذا لم يقل : لم يؤمن إلا أنا وأخي . بل : لا أملك . فهو لا يملك إلا من سحب رأسه : ( وأخذ برأس أخيه يجره إليه ) . ولا شك في إيمان البقية ، ويوشع بن نون هو الذي قاد معركة الدخول للأرض المقدسة.
• لما امتنع بنو إسرائيل عن الاستجابة لأمر الله لهم بالقتال لم يأمر الله موسى وهارون والرجلين اللذين استجابا له [ وهما يوشع وكالح ] أن يذهبوا ويقاتلوا بمفردهم ، بل بقي موسى عليه السلام مع قومه بعد ذلك ومات معهم في التيه ، مع أنهم فسَّاق ( فلا تأس على القوم الفاسقين ) لم يلزمه مفارقتهم لأنهم ليسوا كفاراً.
• لماذا فرض التيه على بني إسرائيل 40 سنة ؟
نحن لا نزعم أن ما سنقوله هو السبب ، لكننا نلتمس الحكمة .
يقولون : إنه في كل 33 سنة يأتي جيل . وهؤلاء الذين قالوا لموسى عليه السلام : ( اذهب أنت وربك فقاتلا ) لا بد أنهم كانوا من علية القوم وزعمائهم ، فأعمار أصغرهم قد تكون فوق الأربعين بكل تأكيد ، وبقيتهم فوق الخمسين والستين ، وهم زعماء فرق بني إسرائيل. فإذا مكثوا 40 سنة انتهى هذا الجيل ، إما بالموت ، أو بأن يهرم أفراده فلا يكون لهم أثر بعد ذلك.
وفي أثناء فترة التيه هذه نشأ جيل جديد ، ولدوا في التيه ، وتربوا فيه. ومن ولد منهم في يوم التيه كان عمره عند انقضاء التيه 40 سنة ، وهي تمام بلوغ الأشد ، ومن ولدوا قبل التيه بقليل فإن أعمارهم كانت عند بدء التيه سنين معدودة ولم يبلغوا ، فلم يآخذوا بما فعله كبارهم مع نبي الله موسى عليه السلام. ولما انتهى التيه كانت أعمارهم في الأربعين أو بداية الخمسين ، وفيهم قوة ونشاط. فهذا الجيل الجديد تهيأ خلال فترة التيه للجهاد والدخول للأرض المقدسة.
• ذكر العلماء فائدة في اجتماع موسى وهارون عليهما السلام في دعوة بني إسرائيل ، ذلك لأن موسى كان شديداً وكان هارون رحيماً رقيقاً ، وكان ينو إسرائيل يحبونه. وقد أشار لهذا المعنى شيخ الإسلام في مقدمة السياسة الشرعية ، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان معه أبو بكر ( رقيق ) وعمر ( شديد ) وليست الرقة هي دائماً الصائبة ، فقد وافق القرآن قول عمر رضي الله عنه في مواضع كثيرة ، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم تولى الخلافة أبو بكر ، وكان معه عمر ، ولما تولاها عمر كان معه عثمان ( رقيق ) ، ولما تولى عثمان كان معه علي ( شديد ) فلا بد من اجتماع الشدة والرحمة ، وهذا من التكامل ، ومن اختلاف التنوع لا من اختلاف التضاد. وهذا معنى جميل أشار إليه شيخ الإسلام كما ذكرت.
• لما انتهت فترة التيه أعلن يوشع بن نون عليه السلام الجهاد ، فخرج معه جيل جديد تربى كما ينبغي ، ولهذا أقول دائماً : إن مناهج الرخاء لا تخرج قادة الأزمات . فالأزمة التي حدثت في التيه هي التي أخرجت الجيل الذي فتح الأرض المقدسة.
ولهذا .. ثبات إخواننا في غزة من أسبابه أنهم خرجوا من رحم المعاناة ، بينما الذين أضاعوا فلسطين قبلهم كانوا قد تعودوا على الرخاء. وأنا أخشى أن يحدث هذا لبلاد المسلمين كبلاد الخليج وغيرها.
• لما نادى يوشع بن نون عليه السلام بني إسرائيل للجهاد ماذا قال لهم جاء عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( غزا نَبِيّ من الأنبياء فقال لقومه : لا يتبعني رجل مَلَكَ بُضْعَ امرأة وهو يريد أن يبني بها وَلَمّا يبن بها ، ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها ، ولا أحد اشترى غنماً أو خلفاتٍ وهو ينتظر وِلادها ... ) .
فلم يرد يوشع أن يتبعه أي واحد متعلق بالدنيا ، فلا بد لأن يكون المرء مؤهلاً للجهاد أن يحرر قلبه من التعلق بالدنيا ، وهذه الأنواع الثلاثة المذكورة في الحديث تدل على نوع البشر في تعلقهم بالدنيا : أحد يتعلق بالنساء ، وأحد يتعلق بالمال ، وأحد يتعلق بالبيوت ، وهذا أغلب ما يشغل الناس.
وقوله: ( لا يتبعني رجل مَلَكَ بُضْعَ امرأة وهو يريد أن يبني بها وَلَمّا يبن بها ) يدل على أن الذين معه معظمهم من الشباب ، والذين ذكرنا أنهم تربوا في التيه . وقد منع هؤلاء حتى لايتذكروا نساءهم وأموالهم في المعركة فيتخاذلوا عن الموت في سبيل الله .
فلما غزوا الأرض المقدسة وكادت الشمس تغرب والنصر قريب دعا يوشع ربه عز وجل أن يحبس لهم الشمس فحبسها الله.
وهذا يذكرنا بقصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في غزوه لفارس حين أراد أن يعبر نهر دجلة فتأخرت السفن عليه ، فأمر سلمان أن يطوف بالجيش فينظر حاله ، فطاف به ثم رجع فقال: ما رأيت ؟ قال : رأيتهم بين ساجد وراكع ومصلٍّ ونائم . قال : هل رأيت معصية؟ قال : لا . فقال سعد : إذا صليت الفجر فإني راكب فرسي وسأخوض النهر. فلما صلى الفجر نادى في الناس وخاض النهر فجمَّد الله لهم النهر ، فلما رآهم الفرس قالوا : هؤلاء شياطين ، وهربوا وفتح الله على المسلمين بغير قتال . لكن متى حدث ذلك ؟ لما تأكد سعد رضي الله عنه أنه ليس في الجيش أصحاب معاصٍ .
بينما احتلت سيناء والضفة والعرب قد خدرتهم كوكب الشرق ، فهم معها في سهرات .
• ليحذر كلٌّ منا أن يكون من أصحاب التيه ، وسأفصِّل في هذا الموضوع لاحقاً بإذن لله.
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي