الحج
من الاية 19 الى الاية 24
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
مشهد لعذاب الكافرين ومشهد لنعيم المتقين
ثم مشهد من مشاهد القيامة يتجلى فيه الإكرام والهوان , في صورة واقع يشهد كأنه معروض للعيان:
هذا خصمان اختصموا في ربهم . فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار , يصب من فوق رؤوسهم الحميم , يصهر به ما في بطونهم والجلود ; ولهم مقامع من حديد , كلما أرادوا أن يخرجوا منها - من غم - أعيدوا فيها . وذوقوا عذاب الحريق . إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار , يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير .
إنه مشهد عنيف صاخب , حافل بالحركة , مطول بالتخييل الذي يبعثه في النفس نسق التعبير . فلا يكاد الخيال ينتهي من تتبعه في تجدده . .
هذه ثياب من النار تقطع وتفصل ! وهذا حميم ساخن يصب من فوق الرؤوس , يصهر به ما في البطون والجلود عند صبه على الرؤوس ! وهذه سياط من حديد أحمته النار . . وهذا هو العذاب يشتد , ويتجاوز الطاقة , فيهب (الذين كفروا)من الوهج والحميم والضرب الأليم يهمون بالخروج من هذا(الغم)وها هم أولاء يردون بعنف , ويسمعون التأنيب: (وذوقوا عذاب الحريق). .
ويظل الخيال يكرر هذه المشاهد من أولى حلقاتها إلى أخراها , حتى يصل إلى حلقة محاولة الخروج والرد العنيف , ليبدأ في العرض من جديد !
ولا يبارح الخيال هذا المشهد العنيف المتجدد إلا أن يلتفت إلى الجانب الآخر , الذي يستطرد السياق إلى عرضه . فأصل الموضوع أن هناك خصمين اختصموا في ربهم . فأما الذين كفروا به فقد كنا نشهد مصيرهم المفجع منذ لحظة ! وأما الذين آمنوا فهم هنالك في الجنات تجري من تحتها الأنهار . وملابسهم لم تقطع من النار , إنما فصلت من الحرير . ولهم فوقها حلى من الذهب واللؤلؤ . وقد هداهم الله إلى الطيب من القول , وهداهم إلى صراط الحميد . فلا مشقة حتى في القول أو في الطريق . . والهداية إلى الطيب من القول , والهداية إلى صراط الحميد نعمة تذكر في مشهد النعيم . نعمة الطمأنينة واليسر والتوفيق .
وتلك عاقبة الخصام في الله . فهذا فريق وذلك فريق . . فليتدبر تلك العاقبة من لا تكفيه الآيات البينات , ومن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . .
الوحدة الثانية:25 - 41 الموضوع:قصة البيت الحرام وإبراهيم عليه السلام وشعائر الحج مقدمة الوحدة
انتهى الدرس الماضي بتصوير عاقبة الخصام في الله , ومشهد الجحيم الحارق للكافرين , والنعيم الوارف للمؤمنين .
وبهذه النهاية يتصل الدرس الجديد , فيتحدث عن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام .
وهم الذين كانوا يواجهون الدعوة الإسلامية في مكة , فيصدون الناس عنها ; ويواجهون الرسول [ ص ] والمؤمنين فيمنعونهم من دخول المسجد الحرام .
وبهذه المناسبة يتحدث عن الأساس الذي أقيم عليه ذلك المسجد يوم فوض الله إبراهيم - عليه السلام - في بنائئه , والأذان في الناس بالحج إليه . ولقد كلف إبراهيم أن يقيم هذا البيت على التوحيد , وأن ينفي عنه الشرك , وأن يجعله للناس جميعا , سواء المقيم فيه والطارى ء عليه , لا يمنع عنه أحد , ولا يملكه أحد . . ويستطرد إلى بعض شعائر الحج وما وراءها من استجاشة القلوب للتقوى وذكر الله والاتصال به . . وينتهي إلى ضرورة حماية المسجد الحرام من عدوان المعتدين الذين يصدون عنه ويغيرون الأساس الذي قام عليه ; وبوعد الله للمدافعين بالنصر متى نهضوا بالتكاليف التي تفرضها حماية العقيدة .
الدرس الأول:25 ذم الكفار بصدهم عن المسجد الحرام
(إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس , سواء العاكف فيه والباد . ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم). .
وكان ذلك فعل المشركين من قريش:أن يصدوا الناس عن دين الله - وهو سبيله الواصل إليه , وهو طريقه الذي شرعه للناس , وهو نهجه الذي اختاره للعباد - وأن يمنعوا المسلمين من الحج والعمرة إلى المسجد الحرام - كما فعلوا عام الحديبية - وهو الذي جعله الله للناس منطقة أمان ودار سلام , وواحة اطمئنان . يستوي فيه المقيم بمكة والطارى ء عليها . فهو بيت الله الذي يتساوى فيه عباد الله , فلا يملكه أحد منهم , ولا يمتاز فيه أحد منهم: (سواء العاكف فيه والباد).
ولقد كان هذا النهج الذي شرعه الله في بيته الحرام سابقا لكل محاولات البشر في إيجاد منطقة حرام . يلقى فيها السلاح , ويأمن فيها المتخاصمون , وتحقن فيها الدماء , ويجد كل أحد فيها مأواه . لا تفضلا من أحد , ولكن حقا يتساوى فيه الجميع .
ولقد اختلفت أقوال الفقهاء في جواز الملكية الفردية لبيوت مكة غير المسكونة بأهلها . وفي جواز كراء هذه البيوت عند من أجاز ملكيتها . . فذهب الشافعي رحمه الله - إلى أنها تملك وتورث وتؤجر محتجا بما ثبت من أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - اشترى من صفوان بن أمية دار بمكة بأربعة آلاف درهم فجعلها سجنا . وذهب إسحاق بن راهويه - رحمه الله - إلى أنها لا تورث ولا تؤجر , وقال:توفى رسول الله [ ص ] وأبو بكر وعمر , وما تدعى رباع مكة [ جمع ربع ] إلا السوائب , من احتاج سكن , ومن استغنى أسكن . وقال عبد الرزاق عن مجاهد عن أبيه عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - أنه قال:لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها . وقال أيضا عن ابن جريج:كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم . وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن تبويب دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها . فكان أول من بوب سهيل بن عمرو , فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك , فقال:أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجرا , فأردت أن اتخذ لي بابين يحبسان لي ظهري [ أي ركائبي ] قال:فلك ذلك إذن . وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد أن عمر بن الخطاب قال:يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء . . وتوسط الإمام أحمد - رحمه الله - فقال:تملك وتورث ولا تؤجر . جمعا بين الأدلة .
وهكذا سبق الإسلام سبقا بعيدا بإنشاء واحة السلام , ومنطقة الأمان , ودار الإنسان المفتوحة لكل إنسان !
والقرآن الكريم يهدد من يريد اعوجاجا في هذا النهج المستقيم بالعذاب الأليم: ومن يرد فيه بإلحاد
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي