يربط علماء النفس بين التفكير وطريقة حل المشكلات، ويعرفون التفكير بأنه النشاط العقلي المعرفي الذي يرمي إلى حل مشكلة ما، فإذا كان تفكير الفرد عقلانيًا كان سلوكه سويًا، وكان حله للمشكلات يتم بطريقة متبصرة واعية. أما إذا كان تفكيره غير عقلاني كان سلوكه غير سوي تجاه المشكلة، ومن ثم فإن مساعدة الأفراد على اكتساب العقلانية في التفكير يعزز استجاباته السوية، وهو الدور الذي نعول على تعليمنا أن يؤديه في عقول المتعلمين حتى تكون سلوكاتهم سوية تصدر عن رؤية ووعي وتبصر، تدل على تفكير علمي يحدد الظواهر ويلاحظها، ويفرز المشكلات ويرتبها، ويضع الفرضيات ويجربها، ثم يستنبط منها الأحكام ويعممها.
وهنا يبرز الدور الريادي للمدرسة في تصحيح طرق تفكير المتعلمين ودحض التفسيرات الخاطئة للأحداث والحلول غير الواقعية للمشكلات، ودفع المتعلمين بأنفسهم لتفسير علمي عقلي للعديد من الظواهر التي يعيشونها، وذلك عن طريق تمكينهم من الأسلوب العلمي في التحليل وتنمية جملة من المهارات والاتجاهات والمواقف لديهم، فالمدرسة لا تعلم العلوم باعتبارها سجلاً للمعارف والحقائق والمنجزات والابتكارات المتراكمة فقط، بل باعتبارها طريقة للتفكير المنهجي الذي يتميز بالتنظيم المنطقي، فقيمة العلوم لا تكمن في كونها مجموعة من الحقائق الثابتة والمكتشفات التي تم الوصول إليها عن طريق التجربة والبحث والتقصي، بل في اعتبارها طريقة للتفكير المنظم والبحث المنهجي المؤدي إلى تلك المكتشفات والمبتكرات (ليست العلوم سلسلة لإجابات مؤكدة من غير بينة أو دليل، ولكنها أسلوب منطقي لحل المشكلات، والعلوم ليست مطلقة ولكنها بحث دقيق عن الحقيقة)(1).
لكن السؤال المطروح هل أي تعليم وأي طريقة تعليمية يمكن أن تؤدي إلى الحد من انتشار التفكير الخرافي أو غير العلمي وبث التفكير العلمي في الناشئة؟ يسرد الدكتور عبدالرحمن عيسوي في معرض الإجابة عن هذا السؤال نتائج عدد من البحوث والدراسات الحقلية العربية والأجنبية، فإذا وجد الدكتور زعرور أثرًا لارتفاع المستوى الدراسي وللتعليم العلمي على الحد من انتشار التفكير الخرافي في المجتمع اللبناني، فإن النتيجة التي توصل إليها الباحث الإنجليزي لورد تتوخى مزيدًا من الدقة وتميط اللثام حول غموض وعمومية هذا التعميم الذي توصل إليه زعرور. إذ تؤكد نتيجة بحثه أن العلاقة منخفضة بين التحصيل العلمي كما يدرس تقليديًا وبين انكماش المعتقدات غير العلمية، وتتفق هذه النتائج مع نتائج بحث أنجزه زايف(2). يقترح لورد أن تأثير التعليم يصبح أعظم عندما يوجه بنوع خاص إلى المعتقدات غير المؤسسة على أسس علمية (التمثلات الخاطئة)، ويؤيد هذا الاقتراح كثير من علماء النفس، إن طريقة التدريس هي المهمة وليس حشد الحقائق في ذهن التلميذ. إن تكوين الاتجاه العلمي أو تنمية عادة التفكير العلمي الموضوعي هي التي تؤثر في شخصية المتعلم(3).
فالطريقة التعليمية التقليدية التي يقتصر فيها دور المعلم على تقديم المعرفة الجاهزة دون إشراك الطفل في تعرفها واختبارها لا تؤثر في طريقة تفكير الطفل ولا تساعده على التطور والنمو، كما أن عدم التصدي للمفاهيم الجاهزة لدى التلاميذ وتمثيلاتهم السابقة الخاطئة ومناقشتها معهم لا يتيح لهم المجال لتصحيح أفكارهم واستبدال حقائق علمية بخرافاتهم، إن إحدى أهم القواعد العلمية في التعلم تؤكد أن أكثر الحقائق حيوية وأشدها تأثيرًا على سلوك الفرد هي تلك التي يكتشفها ويصل إليها بنفسه، وليست تلك التي نلقنها إياه ليحفظها ويختبر في قدرته على استرجاعها عن ظهر قلب؛ فللعمل العقلي المبني على التجربة أفضلية خاصة بخلاف اللغة(4).
أي دور لدرس العلوم؟
ولقد اقترح الكثير من المربين استخدام مادة العلوم كوسيط تعليمي يساعد في بناء الاتجاه العلمي عند الأطفال. وفي هذا يوضح كل من شيدت وروكاسل أن التدريس الجيد للعلوم يكوّن لدى التلاميذ الاتجاه العلمي لحل المشكلات، حيث الملاحظة والاختبار والتفكير والبرهان...، وكذلك هو تدريب على الأمانة والدقة والموضوعية واحترام آراء الآخرين، والبعد عن اتخاذ القرارات والأحكام والتعاميم العامة غير الموثوقة(5).
والعمل التربوي ببلادنا (المملكة المغربية) أيضًا يحاول الأخذ بمستجدات علوم التربية، ويحاول تأطيرها وفق التوجهات المجتمعية لبلادنا كمحيط اجتماعي يحتضن هذا العلم وينظمه. وفي هذا الجانب أدرجت مادة العلوم ضمن مقرر المدرسة الأساسية وجاء هذا الإدراج مسايرًا لإصلاح المناهج الذي بدئ فيه منذ حوالي عقدين من الزمن، لتحل هذه المادة الجديدة محل ما كان يعرف بدرس الملاحظة والتفتح العلمي اللذين يعتبران امتدادًا لدرس الأشياء.
إن النشاطات المقترحة لهذه المادة تجمع بين الطابع العملي والطابع الفكري والطابع العلمي في إطار منهاج العلوم التجريبية المقرر، تنمي تفكير الطفل ومهاراته الحسية الحركية وقدراته العقلية على التصنيف والملاحظة والترتيب والتحليل والبحث. والغاية الكبرى من كل هذا هي بث منهج التفكير العلمي في المتعلمين عن طريق تدريبهم على اتباع وتطبيق خطوات المنهج التجريبي حتى يستوعبوها وتصبح وسيلتهم وطريقتهم في البحث والقيام بمختلف النشاطات الفكرية والعملية سواء داخل المدرسة أو في حياتهم اليومية داخل بيئتهم المادية والثقافية التي تكتنفهم وتحيط بهم، ويكون هذا المنهج أداتهم لحل مشكلاتهم وفهم مختلف الظواهر المحيطة بهم(6).
فإلى أي مدى تفلح مدرستنا في إكساب الطفل عادة التفكير العلمي وخطوات المنهج التجريبي؟
بيّن نيومين أن العلوم ليست مجرد مجموعة من المعارف الثابتة يحفظها المتعلم ويقوم بتذكرها وتقديمها في اختبار تحريري، وأنها ليست سلسلة من تجارب يتم أداؤها في المختبر فقط، بل إن العلوم نشاط تعليمي يتناول القيام بمجموعة من الأنشطة العلمية تتضمن الملاحظة والتمعن في الكون والبحث والاستقصاء بعمليات علمية يمارسها التلاميذ، للوصول إلى تأكيد لحقائق ومفاهيم معروفة أو إلى حقائق جديدة وربما حقائق أفضل وتصحيح تمثلات خاطئة(7).
هل تعليمنا المدرسي وخصوصًا في السلك الأول من التعليم الأساسي قادر على تحقيق الغايات المصوغة، إن تعليمنا الذي ما زال يعاني هيمنة التلقين يؤدي دورًا سلبيًا في عملية بناء المعرفة عند الأطفال وتكوين المفاهيم العلمية.
لا يكفي لأجل تجديد التعليم إدراج مواد جديدة في المنهاج، بل الأمر يقتضي أن يتأسس هذا الدرس العلمي على تصور دقيق للتفكير العلمي والمنهج التجريبي، وتطوير طرق التدريس، وخصائص المتعلم وحقائق النمو.
1ـ فالتوجيهات الرسمية الصادرة عن وزارة التربية الوطنية تسرد ضمن الأهداف التربوية العامة بنودًا هي في حقيقة أمرها صفات وخصائص يتميز بها التفكير العلمي(
.
ولكن هذه التوجيهات نفسها تفتقد التنظيم المنطقي، فبدل تحديد الهدف من درس النشاط العلمي وقصره على إكساب التلميذ التفكير العلمي الذي يتميز بحب الاستطلاع وروح النقد والميل إلى التعاون والاتجاه الإيجابي نحو حماية الموارد الطبيعية وتقدير العلم وجهود العلماء وغير ذلك. وتعويد الطفل خطوات المنهج التجريبي من ملاحظة الظاهرة وتحديد المشكل ووضع الفرضية وتنظيم التجربة واستنباط القاعدة وتعميمها، بدلاً من ذلك تكتفي التوجيهات في باب تحديد الأهداف النوعية بذكر خطوتين اثنتين وهما الملاحظة والتجريب، وتحشر التوثيق ضمن خطوات المنهج التجريبي حشرًا لا مبرر له، وكان حريًا بمؤلفي الكتاب أن يضعوا نصب أعينهم أنهم يصنفون وثيقة مرجعية تساهم في تنوير سبيل المعلم وتعميق تكوينه، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق بذلك المصنف الذي يفتقد التنظيم المنطقي والدقة العلمية.
2ـ تطوير في الطرق التعليمية: إن الطرق التعليمية وسلوكات المعلمين وعلاقاتهم بالتلاميذ في المدرسة وداخل الفصول يتبين عند تحليلها أنها تقليدية لا علاقة لها بأي نظرية علمية، ولا تتأسس على معرفة حقيقية بسيكولوجية الطفل أو بقدراته العقلية والمعرفية. إن ما هو شائع في مدارسنا مجرد طرق تقليدية متوارثة، تعتمد أساسًا على (محورية دور المعلم الذي يلقن ويقرر ويحدد وينظم، وعلى قصور المتعلم وسلبيته في مواقف النشاط والتعلم باعتباره عنصرًا منفعلاً فقط، وعلى تجزيئية المواد الدراسية وترتيبها وفق اعتبارات منطقية)(9).
3ـ ومعرفة المعلم للمبادئ الأساسية المرتبطة بالمتعلم محدودة وضعيفة، فقليلاً ما نجد معلمًا ملمًا بقدرات التلميذ ومستواه الإدراكي وأسلوبه المفضل في التعلم، وكذلك بجميع عناصر التقنيات التربوية التي يمكن توافرها في المواقف التعليمية كالمواد والأجهزة والخبرات التعليمية والتسهيلات المادية، وأيضًا بظروف وأساليب استخدامها. هذه المعرفة لا يوليها المعلم أهمية تذكر رغم أنها أداة ضرورية تساعد المعلم في تحقيق الأهداف التعليمية بأفضل صورة ممكنة. يقول بياجيه إن الفائدة الرئيسية لنظرية النمو العقلي في مجال التعليم هي إتاحة الفرصة أمام الطفل ليقوم بتعلم ذاتي، فإننا لا نستطيع تنمية ذكاء الطفل بالتكلم معه فقط، لا نستطيع أن نمارس التربية بشكل جيد دون أن نضع الطفل في موقع تعليمي حيث يختار بنفسه ويرى ما يحصل، ويستخدم الرموز، ويضع الأسئلة ويفتش عن إجاباته الخاصة، رابطًا ما يجده هنا بما يجده في مكان آخر، مقارنًا اكتشافاته باكتشافات الأطفال الآخرين.
لا تستطيع المدرسة أن تكون محرك إبداع وعامل تقدم إلا إذا سادت فيها الروح العلمية. والتقدم العلمي الذي تتمتع به كثير من المجتمعات اليوم لم يحدث نتيجة تحسن قدرات الإنسان الحسية أو نتيجة تطور طرأ على جهازه العصبي، إنما هو نتيجة تحسين ظروف التربية والتعليم، وإلى إتقان أساليب التعلم في الضبط والتجريب والملاحظة والوصف والتحليل وصياغة النظريات الكلية التي تفسر الظواهر ووضع القوانين الطبيعية المضبوطة(10).
هذا ما تستطيع أن تفعله المدرسة.. فهل يستطيع التربويون العرب أن يجعلوا من مدارسهم مدارس «حقيقية»؟