أصحاب الجنة وأصحاب النار
صفاتهم ومصيرهم في نظرية التربية الاسلامية
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه ورقة عمل أبين فيها باختصار بعض صفات أهل الجنة وأهل النار، ومصيرهم ، ومفهوم كل واحد منهم في نظرية التربية الاسلامية .
وقد استعنت بالمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لاستقصاء الآيات القرآنية التي تحدثت عن كل من الفريقين ، ثم رجعت غلى مختار الصحاح لأخذ بعض المعاني اللغوية المتعلقة بالموضوع . وحاولت جهدي أن استنتج بعض القواعد التربوية من خلال الآيات القرآنية والمعاني اللغوية. ثم بينت مكان كل من الفرقيين في نظرية التربية الاسلامية .
والله المستعان والموفق.
أولا: أصحاب الجنة
"أصحاب الجنة" في اللغة :
"أصحاب" جمع صاحب . والصاحب اسم فاعل من صحب بمعنى لزم، واتبع، …
و"الجنة" في أصل اللغة من الفعل جنن الذي يدل على الخفاء والاستتار ، ومنه "الجن" و "المجن" الساتر الواقي…
و "أصحاب الجنة" في الدلاة اللغوية تدل على ذلك الفريق من الناس الذين سيلازمون "جنة" النعيم في الآخرة ، وهم قبل ذلك ملازمين لصفات عرفوا أنها توصلهم إلى "الجنة" ، فالجنة ملازمة لقلوبهم، حاضرة في أذهانهم في الدنيا قبل الآخرة، في كل عمل يقومون به يحرصون أن يقربهم من "الجن" ويبعدهم عن "النار" .
وقد روي أن ابن تميمة رحمه الله كان لقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. يعني بذلك جنة سرور القلب بذكر الله والأنس به ، وانشراح الصدر بالقرب منه ، ولذة مناجاته …
أصحاب الجنة في القرآن الكريم
ورد في هذا التركيب الاضافي في: "أصحاب الجنة" في القرآن الكريم ثلاثة عشر مرة بمعنى الفريق الذي سينال جنة النعيم في الآخرة جزاء عمله الحسن في الدنيا.
وورد هذا التركيب "أصحاب الجنة" دالا على أناس مخصوصين أصحاب "جنة" مخصوصة في الدنيا مرة واحدة في سورة القلم. وقد جاء في سياق الذم لرجال عندهم "جنة" دنيوية قرروا منع الفقراء من الأكل من ثمارها: "إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة …" سورة القلم/17
وورد ذكر الفريق الاول "أصحاب الجنة" بمعنى جنة الآخرة بألفاظ أخرى وصفات عديدة منها:
- "أصحاب الصراط السوي" مرة واحدة في سورة طه/125
- " أصحاب الميمنة" مرتين في سورة الواقعة/8 ومرة في سورة البلد/18
- "أصحاب اليمين" خمس مرات في سورة الواقعة ومرة واحدة في سورة المدثر
دلالات تربوية
قبل الانتقال إلى عرض بعض صفات "أصحاب الجنة" أقف مع بعض الدلالات التربوية لهذا العرض الاحصائي السريع.فمن ذلك:
1- أن بعض الناس قد يكون من "أصحاب الجنة" الدنيوية ولا يكون من أصحاب "جنة الآخرة". فليس المظهر الخارجي، ولا الاسم الظاهر، ولا اللقب الرسمي أو الاجتماعي هو الذي يحدد المصير في الآخرة. لذلك فإن التربية الاسلامية حريصة على تعميق معنى الإخلاص والتقوى في نفوس "أصحاب الجنة" حتى لا يغتر الواحد منهم بمظاهر دنيوية فيخسر جنة الآخرة.
2- إن "أصحاب الجنة" الذين يختارهم اللله تعالى لجنة الآخرة، إنما نالوا هذا الجزاء بما كانوا يعملون من خير وعمل صالح وجهاد واستقامة يدل على ذلك وصفهم بـ"أصحاب الميمنة" و "أصحاب اليمين" واليمين في لغة العرب وفي لغة القرآن والسنة إنما تدل على كل خير وعمل صالح…
وأوضح من هذا وصف حالهم في الدنيا انهم " أصحاب الصراط السوي" سورة طه/125، فمن كان على الصراط السوي في الدنيا أوصله إلى الجنة في الآخرة.
صفات "أصحاب الجنة" في القرآن الكريم
ذكر القرآن الكريم صفات كثيرة لأصحاب الجنة لكنني أختار منها هنا ما يناسب مطابقة حال "أصحاب الجنة" مع نظرية التربية الاسلامية ليكون هذا دلالة على أن من نجح في الدنيا تربويا نجح في الآخرة بكونه من "أصحاب الجنة".
أولا: "أصحاب الجنة" هم أهل العبودية الكاملة بمظاهرها الثلاث:
· فمن ذلك قوله تعالى في وصفهم: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله" التوبة/71.
فهم أهل العبودية في مظهرها الشعائري: "يقيمون الصلاة"
وهم أهل العبودية بمظهرها الاجتماعي: "ويؤتون الزكاة" وقبل ذلك: "يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر".
· وهم أهل العبودية في مظهرها الكوني التسخيري: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب((190))الذين يذكرون الله قياما وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض…" آل عمران 190-191
ثانيا: علاقتهم مع الناس قائمة على صفاء القلب والبعد عن الظلم والحسد (علاقة عدل وإحسان): قال تعالى: "والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون((42)) ونزعنا ما في قلوبهم من غل" الأعراف/42-43
فقلوبهم لا تحمل الغل ولا الحقد ولا الحسد.
وعلاقة العدل والإحسان يقيمها أصحاب الجنة بدءا بأقرب الناس إليهم: الوالدين "ووصينا الانسان بوالديه احسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين((15)) أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون" سورة الأحقاف.
فهم حريصون على الاحسان لوالديهم وحريصون على صلاح أولادهم. ويظهر في هذا نظرتهم التربوية المستقبلية التي يرون فيها أهمية عمارة الأرض وإمداد البشرية بالنشئ الصالح.
ثالثا: "أصحاب الجنة" هم الذين نجحوا في الابتلاء في الحياة الدنيا. سواء كان ابتلاء بالمصائب أم ابتلاء بالنعمة فهم الصابرون في البأساء والضراء وحين البأس. وهم الشاكرون حال الإبتلاء بالنعمة.
رابعا: "أصحاب الجنة" هم الذين أدركوا أنهم مسؤولون عن أعمالهم أمام الله تعالى، فكانت أعمالهم في الدنيا انطلاق من شعورهم بالمسؤولية، إعدادا للإجابة المنجية لهم عندما يسألون يوم القيامة .
ثانيا: "أصحاب النار"
"أصحاب النار" في القرآن الكريم:
جاء ذكر "أصحاب النار" في القرآن الكريم بهذا االلفظ وغيره تسعا وعشرين مرة. وقد جاء ذكرهم بأوصاف أخرى أيضا. منها:
· "أصحاب الجحيم" ست مرات
· "أصحاب السعير" ثلاث مرات
· "أصحاب المشئمة" ثلاث مرات
· "أصحاب الشمال" مرتان في سورة الواقعة/41
وإذا عدنا إلى المعنى اللغوي لكلمة أصحاب الدالة على الملازمة والمصاحبة فربما يمكننا استنتاج دلالة تربوية: ألا وهي أن هؤلاء الناس الذين وصفهم القرآن أنهم "أصحاب النار" في الآخرة لأنهم سيلازمونها ويرتبطون بها كانوا أصلا أهلها وأصحابها بالملازمة والارتباط في الدنيا قبل الآخرة:
فنار الغيرة والحسد، والعشق الحرام، والنظر الحرامن ونار اللذة الحرام، … إلخ كل هذا كان ملازما مصاحبا لهملا ينفكون عنه في الدنيا. كما قال تعالى: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا"
ففي أنفسهم نار الجشع والطمع التي لا تنطفأ. والله أعلم.
كما أنهم أصحاب العذاب النفسي الدنيوي قبل العذاب الأخروي قال تعالى: "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكى ونحشره يوم القيامة أعمى". فحياتهم ضنك ومشقة وعذاب مستمر، مهما بدا في ظاهر امرهم غير ذلك. وقد اعترف أهل التربية الغربية بما تواجهه وتعانيه مجتمعاتهم من هذا العذاب النفسي الكبير مع أنهم في الأمور المادية هم الأسعد والأوفر حظا.
بعض صفات "أصحاب النار" في القرآن الكريم
أولا: التهرب من المظهر الشعائري للعبادة وما فيه من استقرار نفسي ولجوء إلى الاخلق جل وعلا واعتراف بربوبيته وعبودية الإنسان له:
قال تعالى: "قالوا ما سلككم في صقر قالوا لم نكن من المصلين"
فذكر أن ترك شعيرة الصلاة سبب من أسباب دخول "صقر" وهي النار.
ثانيا: إهمال المظهر الكوني التسخيري للعبادة بإهمال أدوات المعرفة: السمع والبصل والفؤاد (العقل)، فمن لم يؤد حق سمعه وبصره وعقله في مجال العلم والنظر في آيات الأنفس والآفاق كان من أصحاب النار كما قال تعالى: "وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير* فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير" وقال تعالى: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا".
ثالثا: الظلم الاجتماعي: فظلم الآخرين سواء بالقتل أو ما دونه، يؤدي إلى النار. كما قال تعالى على لسان ابن آدم المقتول ينبه أخاه إلى خطورة القتل والحسد والظلم: "إني أريد ان تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار" المائدة/29.
وكذلك ذكر عن الذين يبخلون بمالهم عن الفقراء: "ولا يحسب الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة" أي سيكون طوقا من نار في أعناقهم كمل ذكرت التفاسير.
رابعا: علاقتهم مع الآخرة علاقة إنكار أو لا مبالاة:
قال تعالى: "قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جائتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون"
ولذلك كان هؤلاء الناس أهل شقاء وضياع في دنياهم ولم تستقمع حياتهم حتى مع اشد القوانين. وفي تجربة أمريكا لمنع الخمر عبرة تاريخية حيث أنفقت الملايين لتطبيق قانون منع الخمر فلم تفلح. وما ذلك إلا لعدم إيمان هؤلاء الناس بالآخرة وعدم إيمانهم بانهم مسؤولون أمام إله عظيم قدير سميع بصير.
هذا والله أعلم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.