من طرف c.ronaldo
تركيا السنية في مواجهة إيران الشيعية
مادة متنوعة
قبل زهاء ثلاث سنوات طفت إلى سطح الشرق الأوسط تركيا كقوة إقليمية جديدة، لم تكن حتى وقت قريب من القوى التقليدية المتصارعة بأقصى قوتها على النفوذ والمصالح المتباينة في منطقة تضخمت فيها إلى حد بعيد لغة الصراعات حتى أصبحت هي القاعدة الثابتة.
وقد ساعدت التطورات المتسارعة منذ احتلال العراق والعدوان الإسرائيلي على لبنان في ظهور محاور صراع جديدة لم تكن مألوفة قبل ذلك، وازدات هذه التطورات سخونة بعد أن أصبح العامل الديني والمذهبي العمود الفقري والموجه لكل الصراعات، حتى غدت الخارطة مقسمة على أساس الأديان "مسلمون، مسيحيون، يهود" والمذاهب الإسلامية بالخصوص"سنة وشيعة"، وأفرز سقوط العراق من المعادلة الإقليمية، أرضية جديدة أصبحت فيها إيران لاعبا قويا تكتسب أوراقا حساسة، ولعل أخطرها هي “الورقة الشيعية” في مقابل عالم مترامي الأطراف من المسلمين السنة، ولكنه عالم مشتت ومقسم لا يخضع لأي مرجعية حاكمة، أو دولة مركزية تستطيع أن تواجه “الغزو الشيعي”، أو “الهلال الشيعي”، كما عبر عنه أكثر من مسؤول سياسي وشخصية دينية من السنة في إشارة إلى تنامي الدور الايراني.
وفي الواقع لم تكن أي دولة عربية سنية قادرة على مواجهة “الخطر الايراني”، وحتى المراهنة على بعضها سرعان ما كان مجرد سراب، فمصر مثلا القوة العربية الأولى، انكفأت داخل حدودها لأسباب يراها البعض غير مفهومة، والمملكة العربية السعودية اختارت التركيز على حماية أمنها الداخلي من “إرهاب” قد يتسرب من العراق والحدود الأخرى، فيما غرقت باكستان الدولة النووية الإسلامية السنية الوحيدة في مشاكلها الاقتصادية والسياسية وجرتها “الحرب الأمريكية على الإرهاب” إلى حقل ألغام من الأزمات السياسية والتناحر مع القبائل قد يبعدها لسنوات عن الالتفات إلى ما حولها.
في ظل هذا المشهد، استيقظت تركيا وارتفع منسوب الاحتمالات لتكون هي المرشحة الأقوى لمقابلة ايران فكرا ونفوذا واستقطابا للعالم العربي، خصوصا وأن الأتراك في ظل حكم حزب العدالة والتنمية بزعامة رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان، وقبله رئيس الجمهورية الحالي عبد الله غول، تجرعت بمرارة تداعيات احتلال العراق، كما تأذت تركيا شديد الأذى من الدور الايراني المتهور ومن محاولاته مصادرة العراق والدول العربية ذات الطائفة الشيعية لخدمة مصالح طهران، لاغير.
وتعلم تركيا وإيران أن ما يفرقهما أكثر مما يجمعهما، فعلى الرغم من عدائهما للأكراد، إلا أن ايران لها أجندة خاصة في هذا السياق، من خلال المناورة وفق مبدأ “فرق تسد”، وتركيا لن تنسى أنه منذ احتلال العراق كانت ايران تعتمد “الورقة الشيعية” في الدعوة لتفتيت العراق إلى أقاليم مذهبية وعرقية وهو ما يوفر فرصة ذهبية لأكراد العراق ليقيموا دولة حقيقية غير معلنة، بما يهدد مصير الدولة التركية نفسها.
وتؤشر التطورات المتلاحقة، أن أنقرة وطهران تتجهان إلى تنافس قد يقودهما إلى تصادم بين المصالح، وكلاهما يريد أن يحشد ما أمكن له من الأنصار من العالم العربي، وهذا ما يفسر في جانب كبير منه ازدياد اقتراب تركيا من العرب، وقد وفر العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة الفلسطيني غطاء سميكا لظهور تركيا كقوة إقليمية تدافع عن مصالح المنطقة وشخصيتها، بلغة مختلفة وناعمة، مناقضة تماما للغة التي تستخدمها ايران.
وبينما تسلحت ايران بسياسة شق الصف العربي، ومحاولات الإيقاع بين الدول العربية من خلال ايقاظ النعرات الطائفية، لتحقيق مصالح استراتيجية لها تتعلق بحضورها في المنطقة على المدى البعيد، مالت تركيا إلى سياسة مرنة تحاول أن تستقطب العالم العربي بجانبيه الرسمي والشعبي. ويوضح أحد المراقبين في المنطقة الفرق بين السياستين الايرانية والتركية فيؤكد أن “إيران أتت بواسطة الحرب وأدواتها البشرية والعسكرية، أما تركيا فرغم أن أدواتها البشرية والعسكرية حاضرة فإن بعدها السياسي مختلف عن البعد الإيراني..”.
لقد جرّت السياسة الايرانية في السنوات الأخيرة تركيا إلى حلبة الصراع، على الأساس المذهبي، ورغم أن معظم الدول العربية لا تقدم نفسها على أنها “دول سنية” في مقابل “دولة شيعية”، إلا أنها اضطرت أمام تمادي طهران إلى العزف على هذا الوتر لاستنفار أكثر ما يمكن من القوى، حتى استجابت أنقرة من وراء الحدود الشمالية للوطن العربي لهذا النفير، وبدأ يُلاحظ تقارب مثير بين أنقرة وعواصم عربية كبرى، لأن أنقرة تعلم حق العلم أنها لن تكسب العالم العربي دون سياسة مختلفة عن منافستها ايران، وهي لن تستطيع فعل أي شيء دون مساعدة مصر والسعودية أكبر دولتين سنيتين في المنطقة، حيث تلتقي المصالح الدينية والدنيوية للبلدان الثلاثة وبلدان أخرى أيضا.
وضمن سياستها لاستنهاض العالم السني تعمل تركيا، وفق منهج يتفادى صناعة الخصوم، مثلما فعلت ايران، فـ “تركيا الجديدة” تحت سلطة “حزب العدالة والتنمية” الإسلامي أصبحت تنظر إلى المنطقة العربية نظرة مختلفة عن “تركيا العلمانية”، التي كانت ترى في المنطقة “إقليما متخلفا”، بينما تندفع هي بأقصى قوتها نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي دون أن تحقق أي تقدم، لكن “تركيا الأردوغانية” بوجهها الإسلامي المعتدل وفي عودتها إلى “الأشقاء السنة” تعمل على كسب التأييد لطروحاتها الإقليمية بخصوص القضايا الشائكة، ومنها على الخصوص الصراع العربي الإسرائيلي على مساراته المختلفة.
أما على المستوى الداخلي، فإن “تركيا الجديدة” بدأت تتآكل فيها المبادئ العلمانية، من خلال تنامي الوعي بضرورة الحضور الديني في العمل السياسي، وهذا المبدأ يعبر عنه أكثر من حزب في تركيا اليوم ابتداء من حزب الرفاه الذي أطاح الجيش بزعيمه نجم الدين أربكان من رئاسة الحكومة عام 1996.
في ذلك الوقت كانت الأحزاب الإسلامية ذات حضور محتشم، أما الآن فيكاد الإسلاميون السيطرة على الحكومة والمعارضة أيضا، إذ نجد في مواجهة حزب العدالة والتنمية المعتدل الحاكم، حزب “السعادة”، وهو حزب إسلامي "محظور" أكثر تشددا من حزب أردوغان، وقد بدأ في الأشهر الأخير ينشط بقوة، وللدلالة على ذلك أنه استطاع خلال العدوان الإسرائيلي على غزة أن يُسيّر أكبر التظاهرات التركية المنددة بالعدوان، كما ينظر حزب “السعادة” إلى الفلسطينيين كإخوة في الدين والمذهب تجب مناصرتهم ومقاطعة عدوهم "إسرائيل"، وهذا الحزب سيكون منافسا قويا لحزب العدالة والتنمية في أي انتخابات، إذا رفع الحظر عنه، وهذا ما يخشاه حزب أردوغان الحاكم.
كل هذه المؤشرات تجعل سياسة تركيا الإقليمية تتحرك بقلق تجاه أي قوى يمكن أن تهدد ولو من بعيد مصالحها، وكان الدفاع التركي المستميت على شرعية حماس وأحقية مقاومتها لإسرائيل يصب في هذا الباب، إذ أن أنقرة تخشى من أن تنضم حماس إلى محور إيران- حزب الله، لتتحول القضية الفلسطينية إلى ورقة سياسية تلعب بها إيران لتحقيق هيمنتها السياسية على المنطقة، وتحرم بالتالي تركيا من عالمها الذي حلمت به منذ سقوط الاتحاد السوفياتي.
في بداية التسعينيات لم يخف تورجوت أوزال مؤسس حزب الوطن الأم ذي المبادئ الإسلامية طموحه في إقامة عالم تركي على أنقاض جمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية السابقة لإقامة عالم تركي يمتدّ من بحر إيجه حتى الحدود الصينية، في محاولة استباقية لمنع الامتدادات الإيرانية هناك، ولكن إذا كان أوزال "المهادن للعلمانية" أسقط من أوراقه العامل المذهبي لبناء القوة التركية، إلا أن تركيا أردوغان لا تستحي من تقديم نفسها كدولة إسلامية تطمح لتكون عاصمة “العالم السني” في مقابل ايران زعيمة” العالم الشيعي” وممثلته الوحيدة.
merçi