يتفق المربون وأهلُ العلم على أن القراءة نافذةٌ رحبة، يطلُّ من خلالها النشء على عوالمَ ثقافية جديدة تُغني معارفهم، وتُثري مداركهم، وتُعمِّق وعيهم، وترتقي بخبراتهم، وتُضيف إلى عمرهم أعمارًا. كيف لا وهم يطالعون فيما يقرؤون خلاصةَ تجارِب المؤلفين، وزبدةَ خبراتهم في الحياة التي عاشوا أحداثَها وتقلَّبوا في متغيراتها سنين طويلة؟! أما الذين لا يقرؤون فهم محرومون من تلك الخيرات، وأمةٌ لا تقرأ هي حتمًا أمةٌ لا تفهم!!
وبإزاء الوضع المتردِّي الذي تَدَهْدَت إليه أمتنا؛ من عزوفٍ عن المطالعة، واستدبارٍ لجادَّة القراءة، وهِجران للكتاب، وجب على العقلاء كافةً، الغُيُر على أمة {اقْرَأْ} أن يتعاونوا على وضع الحلول النظرية والعمليَّة لتغيير هذه الحالة المزرية التي صِرنا إليها..
وإني لأرى أن أعظمَ ما يَحول بين أبنائنا والكتاب، ويُقيم جدارًا عازلاً بينهما، هو أن لغةَ الكتاب ليست اللغةَ الأمَّ التي اكتسبوها في طفولتهم الأولى، فأبناء العرب في أقطارهم المختلِفة تلقَّوا جميعًا اللهجات العاميَّة في بيئاتهم التي نشؤوا فيها، وحين بلغوا السابعةَ ودخلوا المدارس فوجئوا أن لغةَ الكتاب مباينةٌ لما أَلِفُوه من لسان آبائهم وذَويهم! ومن هنا بدأت الحواجزُ النفسية تُشاد بينهم وبين الكتاب، وكلما أمعنوا في التقدُّم في صفوف الدراسة ازدادت الهوَّة عمقًا، فلغة الكتاب لا تُستخدم إلا عند القراءة والكتابة، أما لغةُ الخطاب والتواصل في المدرسة والبيت والشارع.. فهي لغتُهم الأمُّ التي فُطروا عليها!
وإذا ما أردنا تحبيبَ الكتاب إلى أطفالنا، وجعلَ القراءة عادة لهم، وثقافة راسخة بينهم، فأولُ ما يجب أن نقومَ به هو العودة بهم إلى لغة القرآن، وبلاغة النبيِّ العدنان، ولسان أجدادهم من أهل الفصاحة والبيان..
ولقد خطا أستاذُنا الكبير د. عبدالله الدنان - رائد تعليم الفصحى بالفطرة والممارسة - خطوات واسعةً في هذا المضمار، من خلال تجرِبته الرائدة في إكساب الأطفال العرب -في سنيهم الأولى- اللغةَ العربية الفصيحة، وقد نجحت طريقتُه نجاحًا باهرًا فاق التوقعات، وكان من أُولى ثمرات هذا النجاح ومن أعظمها وأجداها نفعًا = تعلقُ الأطفال الشديدُ بالكتاب، والرغبةُ الوثيقة في القراءة والمطالعة..
إن تطبيقَ هذه الطريقة، وهي التواصل الدائمُ مع الطفل بالعربية الفصحى، هو بلا ريب الحلُّ الأمثل والأنجع لبناء جيل قارئ واع فَهِم مبدع..
ومن لم يتسنَّ له تطبيق تجرِبة الدنان، فعليه أن يعوِّض بأمور أُخرى، أهمها:
1- توفير القصص الجميلة الملوَّنة للطفل من نعومة أظفاره، يقلِّبها بيدَيه الغضَّتين، ويتأمل في صورها، حتى يصيرَ الإمساك بها وتقليبُ صفحاتها عادة له.
2- قراءة القصص للأبناء، خصوصًا قُبيل النوم، التي غالبًا ما يحبونها ويتعلَّقون بها.
3- ومع تقدُّم الطفل في العمر يَحسُن اصطحابه بين حين وآخرَ إلى المكتبة ومعارض الكتب، ومساعدتُه في اختيار ما يُناسب عمرَه منها.
4- تخصيص جُزء من مكتبة الأسرة للطفل يضع فيها قصصَه وكتبه، ويُفضَّل أن يكون له مكتبةٌ خاصة به في غرفته.
5- تعويد الطفل ادخارَ جزء من مصروفه لأجل اقتناء القصص والكتب النافعة.
6- جعل القراءة ثقافةً منزلية ثابتة، بأن تُخصَّص ساعة يوميًّا تسمى ساعة القراءة، يجلس فيها أفراد الأسرة يقرأ كلٌّ منهم ما يحب، وفي أحد أيام الأسبوع تكون ساعةُ القراءة جماعية، يشترك فيها الجميعُ في قراءة كتاب واحد.
أما الرقابة على الأبناء فيما يقرؤون: فأنا مع التوسُّع قليلًا في إتاحة الحرية لهم، لأن الكبير منَّا قبل الصغير، إنما تُقبل نفسه على قراءة ما يحبُّ ويجد فيه المتعة. وفي مرحلة من مراحل عمر الأبناء لن يكونَ عندهم الوعيُ الكافي لاختيار الكتاب النافع، فقد يتجه بعضُهم إلى قراءة المجلات المصوَّرة التي لا طائل منها، أو مطالعة قصص المغامرات (البوليسية) التجارية، أو كتب الطرائف والنكت، أو الشغف بمجلات الرياضة والسيارات وغير ذلك..
أقولُ: إن هذه مرحلةٌ مؤقتة يحسُن بالأولياء والآباء ألا يمنعوا أولادَهم من قراءة ما يشتهون فيها، مع النصح لهم وتوجيههم إلى ما هو خيرٌ، برفق وبالتي هي أحسن.
وإن أنسَ لا أنسَ تلك الأيامَ الخواليَ، يوم كنت فتًى في المرحلة المتوسِّطة، وتعلقتُ بقراءة بعض المجلات الرياضية مثل: (ماتش)، و(الوطن الرياضي)، و(أولمبياد الكرة)، وصحيفة (الاتحاد).. كنت أنتظر كلَّ عدد جديد من أعدادها بشوق كبير، وما إن يصير بين يديَّ حتى ألتهمَ صفحاته بعينيَّ وفؤادي، كما يلتهم الجائعُ لذيذَ الطعام!
أجل كنت أقرؤها كلمةً كلمة، وأشارك في أبواب بريد القرَّاء فيها.. كلُّ ذلك جعلني أعتاد القراءة، وآلَفُ الجلوس ساعات متبتِّلاً في محرابها.. وحين بلغت المرحلة الثانوية وازداد وعيي ونَضِجَ فكري استبدلت بأكوام المجلات - التي تكدَّست عندي - سلسلةَ العالم والمفكر الإسلامي د. محمد سعيد رمضان البوطي (أبحاث في القمَّة)، لتكون نَواة مكتبتي الثقافيَّة التي غدت اليوم - بفضل الله - كبيرةً وغنيَّة بنفائس كتب التراث والفكر والثقافة، وصار الكتاب صديقيَ الأمين ورفيقيَ الصادق، لا تكتمل سعادتي ولا تأنسُ روحي إلا بالقرب منه والتواصل معه.
وبعد، فأنا مع إتاحة الحرية للأبناء، على أن تكونَ حريةً واعية منضبطة، ولا مانع من توسيع أُفُقها ما دامت في نطاق المباح والجائز شرعًا.
والله تعالى أعلم وهو الموفِّق والهادي.
رابط الموضوع:
http://www.alukah.net/social/0/4256/#ixzz3zzHc4kQm