يحفظ التَّاريخ أنَّ أهل ليبيا الشُّجعان خاضوا أكثر من مائتين وستين معركة مع الطّليان خلال سنتين، وأنَّ نصفهم تقريباً قتلوا في جهادهم ضدَّ النَّصارى المحتلين، وكان شيخهم وكبير قادتهم يزحف نحو السِّتين من عمره حين نذر نفسه لقيادة المقاومة وجهاد الدَّفع، ولا نستغرب من شعب عربي أصيل هذه البسالة التي أيقنوا أنَّ طريقها بنصوص دينهم إمّا نصر أو شهادة.
وقد تسلَّط على ليبيا وأهلها حكم غاشم مجنون؛ وظلوا مربوطين بأغلال غليظة أكثر من أربعين عاما، كتم فيها القذافي أنفاسهم، وأفسد بلادهم، وسرق أموالهم، وحارب معتقداتهم، ومع ذلك فلم يجرؤ غالب الإعلام العربي على التَّعرض لهذا الحكم الطَّاغوتي باستثناء ما تقتضيه لوازم الخلاف مع بعض البلدان العربية، وسبب سكوت الإعلام العربي عنه لأنَّه لا يمثِّل خصماً لأكثرها؛ ويتقاطع معها في عداء وحرب أطياف الإسلاميين. وأغمضت دول العالم جفونها عن خزائن القذافي التي تفيض من أموال ليبيا؛ والمودعة في المصارف العالمية، وصمتت عن سحقه العنيف للشَّعب الليبي العريق، وعلَّة الغرب لا تختلف عن علَّة إعلامنا المختطف، فما دام هذا الأرعن لا يضر مصالحها فليذهب شعبه للجحيم آخذاً معه كل ما يُقال عن حقوق الإنسان، ولذا تأخرت المواقف الدَّولية من ثورة ليبيا؛ وتباينت مواقف قوى الأمم المتحدة مع أنَّ القذافي اقترف جرماً مهولاً.
وعندما هب التَّوانسة ضجراً من ظلم بنعلي وفساده، ونهض المصريون للقضاء على جبروت مبارك ونهبه، لم يجد جيرانهم في ليبيا بدَّاً من كسر القيود وتحطيم الحواجز، فبلادهم أغنى من جيرانهم وهم في الفقر سواء، والمتسلط عليهم لا يقل سوءاً عن زميليه الهاربين المخلوعين، وربما استحضر الليبيون في أذهانهم صورة الزُّعماء العرب في آخر قمة لهم بسرت؛ حيت وقف القذافي في صف واحد مع مبارك وبنعلي وعلي صالح، ولا ألوم الشَّعب العزيز إن تفاءل بأنَّ مجنونهم هو ثالثهم، وأنَّ يوم جمعة ينتظره ليكون بعده أسيراً أو قتيلاً أو طريدا.
وقد أربى فجور معمَّر على فجور صاحبيه المطرودين، فأعمل السِّلاح في شعبه قتلاً وإيذاء، وخطف الجرحى وأخفى الجثث دون اعتبار لآدمية حي أو ميت! وجعل ليبيا مسرحاً للمرتزقة والمأجورين، وزاد قبحاً حين وصف شعبه الأبي بالجرذان والحشرات والمدمنين، وأظهر الله على لسانه ما يخشاه هو وكثير من أمثاله، ويخوفون به السِّياسي الأمريكي والغربي حين أعلن أنَّ البديل عنه هو الحكم الإسلامي، وقد أكد على ذلك بقوله: أهل اللحى، وإنَّ اللحى لتفزع كل قلب احتوى من اللؤم والفساد ما احتواه قلب معمَّر.
واتهم العقيد شعبه بنقصان الوعي وأنَّه أداة بيد آخرين، بيد أنَّ هذا الشَّعب الذَّكي أثبت عكس ذلك حين رفض وعد القذافي ووعيده، وبات مطلبه الأسمى الخلاص منه ومن حاشيته المغتصبة، وعسى الله أن يحقق لهم مرادهم عاجلاً، ويوقع القذافي وأولاده في يد الثَّائرين، وحينها ستدخل الثَّورة الليبية آخر فصولها قبل ميلاد ليبيا الجديدة، ليبيا المعتزة بعروبتها وإسلامها، والمستفيدة من ثرواتها ورجالاتها.
وحتى لا تكون ليبيا بلداً منكوباً مضطرباً أو محتلا، وحتى ترتفع البأساء عن إخواننا هناك، وحتى لا يتدخل الأجانب فيها، فإنَّ التَّاريخ يتأهب ليسجل شهادته لرجل تنتظره ليبيا، رجل يخلِّصها من هذا المجرم وحاشيته برصاصٍ قاتل، أو انقلابٍ مؤقت، أو اعتقالٍ محكم. وإنَّ أحرار ليبيا وحرائره لينتظرون بفارغ الصَّبر هذا الرَّجل وتلك اللحظة، خاصَّة بعد انكشاف نية القذافي الخبيثة لإحراق بلادهم؛ وبعد صدور أكثر من فتوى تدعو لقتله، فمَنْ من القوات المسلحة الليبية أو حرس القذافي أو موظفي قصره يتطلع لهذا الشَّرف الدَُنيوي والأجر الأخروي؟ ومَنْ سيكون فارس الثَّورة الليبية ومختارها؟ ومَنْ يجرؤ على الحسم محموداً غير مذمم؟
وإلى أن يُعتقل القذافي أو يُقتل أو يهرب على أقل تقدير كسابقيه، فإنَّنا نبتهل لربنا القادر أن يحفظ ليبيا، ويربط على قلوب أهلها ومجاهديها، وأن يلهمهم الاتحاد على أنفعهم لديارهم، وأن يوفقهم لتثبيت عرى الوحدة بين جميع الجهات والقبائل. وندعو إلهنا الرَّحيم أن يحقن دماءهم ،ويحمي أعراضهم، وينعم عليهم بالأمن والنَّصر. ونأمل أن تتحرك الحكومات العربية لإجابة الشَّعب الليبي المستجير ولو من الجانب الإنساني فقط، فإن لم تفعل فلا مناص لها من رفع الحصار عن مؤسسات المجتمع العربي الخيرية والإغاثية لنجدة أهل ليبيا، فهو واجب ديني وإنساني ومن صميم النَّخوة التي يفاخر بها العرب.