ما يشرحُ الصَّدْرَ، ويزيحُ سُحُب الهمِّ والغمِّ، السَّفَرُ في الديارِ، وقَطْعُ القفارِ، والتقلبُ في الأرضِ الواسعةِ، والنظرُ في كتابِ الكونِ المفتوحِ لتشاهد أقلام القدرةِ وهي تكتبُ على صفحاتِ الوجودِ آياتِ الجمالِ، لترى حدائق ذات بهجةٍ، ورياضًا أنيقةً وجناتٍ ألفافًًا.
اخرجْ من بيتكَ وتأملْ ما حولك وما بين يديك وما خلفك، اصْعَدِ الجبال، اهبطِ الأودية، تسلّقِ الأشجارَ، عُبَّ من الماءِ النميرِ، ضعْ أنفك على أغصانِ الياسمين، حينها تجدُ روحك حرةً طليقةً، كالطائرِ الغرّيدِ تسبح في فضاءِ السعادةِ، اخرجْ من بيتِك، ألقِ الغطاء الأسودَ عن عينيك، ثم سرْ في فجاجِ اللهِ الواسعةِ ذاكرًا مسبحًا.
إنَّ الانزواء في الغرفةِ الضيّقةِ مع الفراغِ القاتل طريقٌ ناجحٌ للانتحارِ، وليستْ غرفتك هي العالمُ، ولست أنت كلَّ الناسِ فَلِمَ الاستسلامُ أمام كتائبِ الأحزان؟..
ألا فاهتفْ ببصرِك وسمعِك وقلبِكَ: ﴿انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً﴾، تعال لتقرأ القرآن هنا بين الجداولِ والخمائِل، بَيْنَ الطيورِ وهي تتلو خُطَبَ الحبِّ، وبَيْنَ الماءِ وهو يروي قصة وصولهِ من التلِّ.
إن التَّرحْالَ في مساربِ الأرض متعةٌ يوصِي بها الأطباءُ لمن ثَقُلَتْ عليه نفسُهُ، وأظلمتْ عليهِ غرفتهُ الضيقةُ، فهيَّا بنا نسافْر لنسعد ونفرح ونفكر ونتدبّر ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ﴾.
عيش حياتك كما هي
اقبلِ الحياة كما هي.. فحالُ الدنيا منغصةُ اللذاتِ، كثيرةُ التبعاتِ، جاهمةُ المحيَّا، كثيرةُ التلوُّنِ، مُزِجتْ بالكدرِ، وخُلِطتْ بالنَّكدِ، وأنت منها في كَبَد، ولن تجد والدًا أو زوجةً، أو صديقًا، أو نبيلاً، ولا مسكنًا ولا وظيفةً إلاَّ وفيه ما يكدِّرُ، وعنده ما يسوءُ أحيانًا، فأطفئ حرَّ شرِّهِ ببردِ خيْرِهِ، لتنْجُوَ رأسًا برأس، والجروحُ قصاصٌ.
أراد اللهُ لهذه الدنيا أن تكون جامعةً للضدينِ، والنوعين، والفريقين، والرأيين خيْرٍ وشرٍ، صلاحٍ وفسادٍ، سرورٍ وحُزْنٍ، ثم يصفو الخَيْرُ كلُّهُ، والصلاحُ والسرورُ في الجنةِ، ويُجْمَعُ الشرُّ كله والفسادُ والحزنُ في النارِ. في الحديث: "الدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها إلا ذكرُ اللهِ وما والاهُ وعالمٌ ومتعلمٌ" فعشْ واقعكَ ولا تسرحْ من الخيالِ، وحلّقْ في عالمِ المثالياتِ، اقبلْ دنياكَ كما هي، وطوِّع نفسك لمعايشتها ومواطنتِها، فسوف لا يصفو لك فيها صاحبٌ، ولا يكملُ لك فيها أمرٌ، لأنَّ الصَّفْوَ والكمال والتمام ليس من شأنها ولا منْ صفاتِها.
لن تكمل لك زوجةٌ، وفي الحديث: "لا يفركُ مؤمنٌ مؤمنةً إن كره منها خلقًا رضي منها آخر".
فينبغي أنْ نسدد ونقارب، ونعْفُوَ ونصْفحَ، ونأخُذ ما تيسَّرَ، ونذر ما تعسَّر ونغضَّ الطَّرْف أحيانًا، ونسددُ الخطى، ونتغافلُ عن أمورٍ.