التعامل مع الحاجة للاستطلاع:
فقد آن الأوان الآن، أن نطرح هذا السؤال الخطير، (كيف نتعامل مع الحاجة إلى الاستطلاع؟)، وهنا نقول بداية إن تعامل المراهق مع استطلاعاته، وكذلك اهتمام المربي بمجال الاستطلاع عمومًا، وتعامله مع المراهق، فيما يتعلق باستطلاعاته، وفضوله، ورغبته للاكتشاف والمعرفة، كل ذلك من الأمور الهامة الضرورية، وللمساعدة الجادة البناءة في هذا المجال الحيوي المؤثر، نقترح التخطيط والعمل في ثلاث دوائر متداخلة ومتساعدة، على أن يكون النظر لهذه الدوائر مجتمعة لا منفصلة؛ لا يأخذ المربي واحدة دون أخرى، ولا يتفاعل المتربي والمراهق مع واحدة ويدع الباقي.
وهذه الدوائر هي:
- حماية المراهق من التعرض للاستهواء بسبب الاستطلاع.
- تنمية قدرة المراهق على ضبط الاستطلاع.
- تلبية حاجة المراهق للاستطلاع بالطرق الطبيعية السليمة.
وبهذا يتم التعامل مع حاجة الاستطلاع لدى المراهق بتوازن واعتدال، بين منعه في مجالات، والإذن به مجالات أخرى، وبين ضبطه داخليًّا بتنمية القدرة على الانضباط الذاتي لدى المراهق، وضبطه خارجيًّا بمنع أو حجب بعض الأشياء من وسائل وكتب وأنشطة وأماكن وغير ذلك، وينبغي أن يشعر المراهق بطريقة عفوية أن أنشطته الاستطلاعية ملباة من خلال تلك الدوائر الثلاث:
(1) الحماية من الاستهواء والإغواء:
لا نكون مبالغين إذا قلنا أن المراهق يتميز بالقابلية للاستهواء والإغواء؛ بسبب ضعفه النفسي وقوة غرائزه بالإضافة إلى قلة خبرته، فإذا علمنا أنه محب للاستطلاع والاكتشاف عرفنا بذلك الطريق الأول، والممهد الطبيعي لحدوث الاستهواء، ومن ثم اكتساب السلوكيات والممارسات المختلفة، ومنها ما يقع فيه المراهقون من انحرافات وشذوذات في الفكر وفي الخلق والسلوك.
(ويمكن للمربي أن يخطط لإغلاق أبواب الاستطلاع المؤدية إلى ذلك، وأن يحجب ما يستطيع حجبه من جواذب ومغريات، ومواطن وشهوات تلفت نظر المراهق وتسترعي انتباهه وفضوله، وتلح عليه ليمارسها أو يجربها أو يقتنيها) [المراهقون دراسة نفسية إسلامية، د.عبد العزيز النغيمشي، (126)].
ومن هذه المواطن والمغريات على سبيل المثال:
- الفكر المنحرف، المزين والمحاط بالجاذبية، والملمع في شكله وأسلوبه وعرضه، من كتب وكتيبات وقصص غرامية وصراعية، ومن مجلات مصورة وملونة ومخرجة بفنون الإخراج الملفت والسافر في شكله ومادته.
- المادة الإعلامية المنمقة والجذابة التي تدعو إلى الرذيلة، والدعاية الكاذبة المهولة، التي تخدع المراهق، ومن ذلك المسلسلات والتمثيليات والأفلام التي تجذب المراهقين، وتروي استطلاعهم بطريقة منحرفة.
- مواطن الرفقة السيئة، والتجمعات المشبوهة، التي قد تدعو المراهق للوقوع في المخدرات والمشروبات الكحولية والتدخين وغيرها، والتي تعرض هذه الأشياء، وتجتذب المراهق إليها للتجريب في البداية، ثم ما يلبث إلا أن يكون من مأسوريها.
وهكذا يتضح لنا أن المراهق بحاجة إلى من يحميه من الاستهواء والانجذاب، وخصوصًا في البيئات المكتظة بأنواع الثقافات والأفكار، وشتى القيم والأخلاق، وفروع الإغواء والإغراء.
وإذا علم المربي أن المراهق إنما هو قوي العاطفة، قليل التجربة، هش التفكير، ضعيف النفس، زاد إحساسه بالمسئولية من أجل القيام بالحفاظ عليه وحمايته.
(2) تنمية القدرة على ضبط الاستطلاع:
وهنا لابد أن نبين أن عملية الضبط عند الإنسان، لا تأتي في الغالب بصورة عفوية فطرية محضة، فإذا تأملنا حتى عمليات الأكل والشرب، واللبس والإخراج، من حيث نظامها، وكيفياتها، وأعرافها، نرى أنها يتم اكتسابها والتعود عليها عبر التنشئة الاجتماعية، وعن طريق العملية التربوية التراكمية، وهكذا تلبية الفرد لحاجاته النفسية؛ كحاجته للتقدير، وتحقيق الذات، وإلى الاجتماع، وبهذا يتضح لنا أن كيفيات الإشباع وطرقه وضوابطه، تنشأ من خلال الاحتكاك الاجتماعي والتراكم التربوي.
(فالمراهقون في حاجة إلى إلى أسلوب ضبط جيد في المواقف كالمواجهات مع الآخرين، وعند وجود إغواءات مختلفة، فالشباب في حاجة ماسة إلى ضبط النفس) [كيف تقولها للمراهقين، ريتشارد هيمان، (495)].
وكذلك تربية وتنظيم الحاجة الاستطلاعية، وضبطها، أمر لا يستغني عنه الفرد؛ ويحتاج إلى ضبطه، إذ أن إساءة استعمالها، وتجاوزها لحدودها، يضر الإنسان، ويضيع الفائدة المعلقة عليها، فتذهب هدرًا، ولذا كان حري بنا أن نرشد إلى خطوات الضبط الاستطلاعي، إذ أنها من الأهمية بمكان، وهي كالتالي:
أولًا: إشعار المراهق بمراقبة الله:
وهذه من أهم الخطوات، وهي إشعار المراهق باطلاع الله عليه، والتأكيد على الرقابة الدائمة، في المناسبات التربوية المختلفة، حيث يربط الفرد بأن هناك كشف لاكتشافاته مهما كانت، واطلاع دائم على استطلاعاته مهما خفيت، قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: 19].
ثانيًا: تكوين الضوابط الحسية والحركية:
ويتم ذلك من خلال بناء ضوبط الممرات والمعابر، التي تستخدم للاستطلاع، وباستخدام الحوافز والتعزيزات في المناسبات المختلفة المقصودة والعفوية، من أجل تنمية قدرات كبح وإمساك الألات والحواس المختلفة ـ عن الاسترسال والتعدي ـ ومن ذلك:
- الغض: والمقصود به غض البصر، والتعود عليه، بالتربية، وتذكر العواقب المترتبة على عدمه، من إطلاق البصر، وإشباع النظر، الذي هو أول وسائل الاستطلاع وأهم معابره.
من أحل ذلك حرص المنهج الإسلامي النفسي على توجيهه، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30].
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرف)[رواه مسلم].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعلي رضي الله عنه: (يا علي لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى، وليس لك الآخرة)[صححه الألباني].
وهذه الآيات والأحاديث وغيرها الكثير، تبين ما ينبغي للمسلم أن يتعود عليه، وأن يعود رعيته عليه، بالتمرين على غض البصر، عندما تعرض له الفتنة بصورها المختلفة.
- حفظ السمع: (ونقصد به تعويد النفس ـ والغير ـ على الإعراض عن المسموعات المذمومة، وعن قبائح الأقوال، ومغرياته الموقعة في الرذيلة، وهي كثيرة عديدة) [المراهقون دراسة نفسية إسلامية، د.عبد العزيز النغيمشي، (130)].
(فالسمع أحد الحواس الخمس الرئيسة عند الإنسان، وهو من أهم المنافذ، فإن فقد البصر لا يمنع من التعلم، لكن فقد السمع يتعذر معه تعلم اللغة، وتحصيل العلوم؛ ولذلك ذكر الله السمع وحده، أو مع العقل، في عدة مواضع من القرآن، وذلك لميزته) [القرآن وعلم النفس، محمد عثمان نجاتي، (118)].
فلابد من نهج سلوك منضبط، عند استخدام هذا المنفذ المهم، ولابد من عملية تصفية دقيقة، تتم من خلال سلوك الإقبال والإعراض، بحسب الموضوع والمجال؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون: 3].
- فن السؤال: (ونقصد به أن تكون أسئلة الإنسان موجهة توجيهًا صحيحًا لخدمة التعلم المثمر، والاستطلاع المفيد، مضبطوطة بحدود الأدب العام، ولا تجر السائل إلى متهاهات، أو تدخلات لا تعنيه، وهذا الباب باب تربوي واسع، للإسلام فيه آداب ومواقف، وأمثلة كثيرة، ومن خلالها يُرَبَّى المراهقون في أسئلتهم على سمت معين؛ فلا يسألون في كل شيء، ولا حول كل شيء، ولا يتعرضون للمجالات المتجاوزة لحدود عقولهم، وإمكاناتهم، ولا يتتبعون الأسئلة والتكشيف ما يجرهم إلى الانحرافات السلوكية، والمهالك النفسية... إلخ) [المراهقون دراسة نفسية إسلامية، د.عبد العزيز النغيمشي، (131-132)].
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}[المائدة: 101].
- الاستئذان: وهو منتهى ضبط الاستطلاع؛ حيث يعتاد الناس ـ والمراهقون خصوصًا ـ أخذ الإذن عند إرادة السماع، أو النظر، أو السؤال، أو الإقدام على أمر مهما كان، والاستئذان بعد مدخلًا مهمًا لفعل الشيء وممارسته، فإذا تم التحكم به وضبطه؛ سلم المراهقون من كثير من التعديات والتجاوزات الناتجة عن الفضول وحب الاستطلاع.
قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[النور: 59].
فإذا بلغ الطفل الحلم ـ وهو سن المراهقة ـ يستأذن على كل حال عند دخوله البيوت، أو غرف الآخرين، أو الأماكن الخاصة من أي نوع، وعلى أي صنف من الناس، من الآباء والأمهات، أو الإخوة والأخوات وغيرهم؛ لئلا يفاجئ الآخرين، أو يكشف سترهم، ولئلا تقع عينه أو سمعه على ما لا فائدة له به، مما يثير فضوله، ويستتبع استطلاعه.
فالاستئذان قاعدة سلوكية مهمة في تربية الأطفال والشباب، وضبط توجيهاتهم، واستطلاعاتهم، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أن أمرأً اطلع عليك بغير إذن؛ فحذفته بحصاة ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح)[صححه الألباني].
ثالثًا: منع التعدي الاستطلاعي:
ونقصد به "التجسس"، وهو غاية التعدي في الاستطلاع، والإساءة في استخدامه؛ إذ أن ضرره لا يقع على الشخص نفسه فقط، بل يتعدى إلى غيره، وما يترتب عليه من القلق، والحسد، والهم بالسوء، والازدواجية في الشخصية، بين الوديع البريء ظاهرًا، والسيئ البذيء باطنًا، كل ذلك يجعله سلوكًا شاذًا ممقوتًا.
ولذلك وجب حظره وإعلان الحرب عليه، وقد ذكره الله في القرآن، ضمن شهوات نفسية أخرى، كشهوة البطن، وشهوة الغيبة، وأوجب على المربي العمل على إغلاق بابه؛ فيقوم بمنع المتربي من تتبع العورات.
ودافع الاستطلاع ـ وخصوصًا عند المراهقين ـ يدعوهم أحيانًا إلى التجسس بالنظر، أو بالتسمع على الأبواب، أو باستخدام الوسائل المختلفة في تتبع أحوال الناس، وأخبارهم، مما يكرهون الاطلاع عليه.
وفي كل ذلك إشباع للفضول، والرغبة الملحة عند المراهقين، وخصوصًا في المسائل الجنسية، وما يتعلق بها سواء بطريقة مباشرة، بالتجسس على الناس، أو عن طريق وسائل الإعلام، من تلفاز وسينما، وفيديو، وصحافة، مما فيه تكشف للعورات، وجرح للفضائل، وكشف لما أمر الله بستره وصيانته.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12].
ولذلك كان من المهم تربية الأطفال على ذلك، فيسهل على المربي توجيههم حينما يبلغون سن المراهقة، (فأنت من قبل أن يبلغوا الحلم ـ وهم أطفال ـ علمتهم هذا الاستئذان، ولذلك فالأمر بسيط والتوجيه يبدأ من الطفولة، ثم يعيد تأكيده عند البلوغ) [بلوغ بلا خجل، د.أكرم رضا، (195)].
وبهذا نكون قد عرضنا لمنهج واضح، وخطة متكاملة البناء، ترشد إلى نقاط محددة، مستلهمة من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، تحدو بالمراهق نحو الطريق الصحيح القويم، الذي يرشده إلى كيفية التعامل الناجح المثمر مع استطلاعته،