فولتير هو العدو اللدود للتعصب والمتعصبين، للاصولية والاصوليين، يكفي ان تذكر اسمه لكي يرتعدوا خوفاً أو يزمجروا غضباً! ولا غرو في ذلك، فقد أمضى حياته في محاربتهم وتفكيك عقائدهم والتحذير من مخاطرهم على المجتمع والحضارة والإنسانية.
وفي هذا الكتاب الجديد الذي وقعه فريق من كبار الباحثين في الدراسات الفولتيرية نجد تحليلاً معمقاً لكتابه المشهور عن التسامح. وهو الكتاب الذي أصدره في عزّ المعركة التي كانت دائرة في فرنسا آنذاك بين الاصوليين والفلاسفة حول حرية الاعتقاد والضمير، وحول الاقلية البروتستانتية وهل يحق لها ان «تنوجد» أم لا، وحول عائلة «كالاس» البروتستانتية في مدينة تولوز وما أصابها من ويلات على يد الغوغائيين والمتطرفين الكاثوليكيين. وعلى الرغم من ان فولتير ينتمي، من حيث أصله العائلي، الى مذهب الاغلبية الكاثوليكية إلا انه وقف بحزم لصالح هذه العائلة المضطهدة ودافع عن حق البروتستانتيين في الوجود وممارسة شعائرهم ومعتقداتهم.
بالطبع فلم يكن يستطيع ان يذهب إلى حد أبعد مما ذهب إليه في مفهوم التسامح لأن ضغط الشارع الأصولي كان قوياً والظروف قاهرة. ولكن حسبه فخراً انه تجرأ على تحدي النزعة الشعبوية الغوغائية ووقف إلى جانب الحق والعدل ضارباً عرض الحائط بكل انتماءاته المذهبية والعائلية.. وهكذا أصبح مضرب المثل على انخراط المثقف في القضايا العامة، ومخاطرته بنفسه وطمأنينته أحياناً من أجل القضايا العادلة. ومشى على خطاه في القرن التاسع عشر فيكتور هيغو واميل زولا، وفي القرن العشرين جان بول سارتر وميشيل فوكو من جملة آخرين عديدين. أصبح يمثل الضمير الحي لأمة من الأمم عندما تصبح مسألة الحقيقة والعدالة على المحك، وعندما تشتد الأزمة وتحتدم.
يقول البروفيسور نيقولا كرونك المشرف العام على هذا الكتاب ما معناه: عندما طالب فولتير بالتسامح مع البروتستانتيين المضطهدين والمحتقرين من قبل الأغلبية الكاثوليكية فإن الأمر لم يصل به إلى حد مساواتهم الكاملة في الحقوق مع الكاثوليكيين. لماذا؟ لأنه كان يعرف ان هذا الشيء مستحيل في وقته. صحيح انه استبق على التطورات اللاحقة التي حصلت بعد الثورة الفرنسية ولكنه بقي في موقع متأخر كثيراً عن الموقع الذي اتخذه الإعلان الشهير لحقوق الإنسان والمواطن. ومعلوم ان هذا الإعلان أعطى الحقوق كاملة لجميع المواطنين الفرنسيين بغض النظر عن أصولهم المذهبية أو الطائفية. وأسس بالتالي مفهوم المواطنية بالمعنى الحديث للكلمة وأحدث القطيعة الفلسفية والسياسية مع لاهوت القرون الوسطى. عندئذ صرخ أحد زعماء الثورة الفرنسية، البروتستانتي «رابو سانت ايثيني» أمام الجمعية الوطنية قائلاً: أيها السادة. اننا لا نطالبكم بالتسامح معنا، ولكن بالحرية! ولكن هل كان بإمكانه ان يطالب بذلك لولا ان فلاسفة التنوير كلهم كانوا يقفون وراءه ويسندون ظهره وفي طليعتهم فولتير؟
مهما يكن من أمر فإن كتاب فولتير يطرح مسألة الممكن والمستحيل في فترة من الفترات. فهناك أشياء يستحيل التفكير فيها في لحظة ما، ثم يصبح ذلك ممكناً بعد عشرين أو ثلاثين سنة. وعلى هذا النحو يمكن ان نفهم المسافة التي تفصل بين كتاب فولتير الذي ظهر عام 1963، وصرخة «رابوسانت ايثيني» عام 1789 أو بعدها بقليل. ينبغي ان ننتظر حتى تنضج الظروف ويصبح التغيير أمراً ممكناً. ينبغي إحداث ثورة في العقول قبل المطالبة بتغيير العادات السائدة والقوانين الراسخة. وهذا ما فعله فلاسفة التنوير. ولكن هل كان فولتير أول من دعا إلى التسامح في مجال العقائد الدينية؟ بالطبع لا. فقد سبقه إلى ذلك الفيلسوف الانجليزي جون لوك الذي نشر هو الآخر كتاباً يحمل نفس عنوان كتاب فولتير: مقالة في التسامح، أو لكي نكون أكثر دقة: رسالة في التسامح. وكان ذلك منذ عام 1689: أي قبل ظهور كتاب فولتير بسبعين سنة على الاقل. ومعلوم ان فولتير كان يعتبر نفسه تلميذاً لجون لوك ومن أكثر المعجبين به. وقد استشهد به قائلاً: انظروا إلى الرسالة الممتازة لجون لوك عن التسامح. هذا يعني ان الفرنسيين والانجليز والأوروبيين بشكل عام كانوا مشغولين آنذاك بمسألة التعصب الديني ويحاولون ان يجدوا لها حلاً أو علاجاً، ما كانوا يقولون كما يقول بعض أشباه المثقفين العرب اليوم: «التعصب غير موجود عندنا، وانما فقط في المسيحية ومحاكم التفتيش، شعبنا لا يعرف التعصب، معاذ الله، الخ».. وهم يتوهمون بذلك انهم يخدمون الشعب.. يحصل ذلك كما لو ان الشعب نازل من السماء! واذا ما حاولت تشخيص رواسبه أو مشاكله التي يعاني منها يومياً فكأنك تشتمه أو تعتدي عليه! ما كان فلاسفة أوروبا يتخذون مثل هذا الموقف الديماغوجي المتواطئ مع العصبيات الشعبوية. على العكس، كانوا ينخرطون في المعمعة ويتحملون مسؤوليتهم. وعلى هذا النحو استطاعوا ان ينهضوا بشعوبهم ويرسخوا وحدتها الوطنية ويسيروا بها على درب التقدم والرقي.
ولكن فولتير يختلف مع لوك عندما يتحدث هذا الأخير عن المسيحية العقلانية. وهو عنوان أحد كتبه. ففي رأي فولتير انه لا يمكن للمسيحية والعقل ان يجتمعا معاً، على الأقل بحسب ما كانت المسيحية مفهومة وسائدة في عصره. فالفهم السائد لها آنذاك كان أصولياً، متعصباً، متزمتاً. وبالتالي فإما ان نتبع العقل واما ان نتبعها.. والأمر محسوم بالنسبة لفولتير، ولكن هل يعني ذلك أنه كان ملحداً أو كافراً كما يقول الجهلة؟ بالطبع لا، ولكن المتعصبين يريدون أن يحشروك في الزاوية: فاما أن تكون مؤمناً على طريقتهم الظلامية والعدوانية، واما ان تكون كافراً!.. فولتير أثبت العكس، فولتير أثبت أنه يمكن للمرء أن يكون مؤمناً ومضاداً للتعصب في آن معاً. فولتير كان يؤمن بإله كل الكائنات وكل العوالم وكل الأزمان. وبالتالي فالله ليس للمسيحيين فقط، أو للمسلمين أو لليهود، وإنما لكل البشر، كلهم عباد الله ويستحقون رحمته وغفرانه، إذا كانت أعمالهم صالحة وسلوكهم مستقيماً في المجتمع. وكل عقيدة فولتير تتلخص بكلمة واحدة: عبادة إله الحق والعدل، وحب البشر، كل البشر بغض النظر عن أجناسهم وأديانهم ومذاهبهم. ولأن فولتير فتح الأفق أمام إيمان آخر جديد غير الإيمان المتعصب القديم، فإنه استطاع أن ينتصر على التعصب والمتعصبين.
لا يمكن فهم إيمان فولتير بالطبع إن لم نأخذ بعين الاعتبار ثورة نيوتن في مجال العلوم الفيزيائية والفلكية، وما حققه العلم والفكر من تقدم في عصره. عندئذ أصبح الفهم العقلاني للدين أمراً ممكناً. وأصبحوا ينظّفون الدين من الخزعبلات والخرافات والعصبيات الضيقة الموروثة عن العصور الوسطى. وفتحوا المجال بذلك لولادة تيار مسيحي عقلاني يهضم كل مكتسبات التطور والقوانين العلمية. ولو أتيح لفولتير أن يعيش ويشهده لغير رأيه فيما يخص الجمع بين المسيحية والعقل أو الدين والعقل بشكل عام. فلم يعد المسيحيون في أوروبا يفرضون عليك قناعاتهم وكأنها مقدسات لا تناقش. فعندما تطلع على كتابات علماء اللاهوت المسيحي في أوروبا المعاصرة، يخيّل إليك وكأنك تطلع على مناقشات فلاسفة لا مناقشات رجال دين!، وأكبر دليل على ذلك كتاب «اللاهوت في عصر ما بعد الحداثة» الصادر عام 1996 في جنيف بسويسرا.. نعم ان التطور أو التقدم يكون في كل المجالات أو لا يكون.
لكن لا ينبغي إطلاقاً أن نعتقد بأن الأمور في عصر فولتير كانت على هذا النحو. فبيننا وبينه ـ أو قل بين مثقفي أوروبا وبينه مائتا سنة ـ ينبغي ألا ننسى ذلك.. ولهذا السبب، فإن معظم الكتب الأساسية في القرن الثامن عشر كانت تصدر بشكل سري. ولم يكن مؤلفها يُلاحق فقط، وإنما حتى قارئها الذي يتحمّس لها ويحاول نشر أفكارها. وإذا ما وجدوا بالصدفة كتاباً لفولتير أو لجان جاك روسو في بيتك، فإنهم كانوا يلاحقونك أو يحاكمونك.. كانت أوروبا آنذاك متعصبة، جاهلة، أصولية، ولكن بما أن أوروبا الحديثة مليئة بالحريات ولا أثر للإرهاب الديني فيها، فإننا نتخيل أنها كانت دائماً هكذا!. وهذا خطأ كبير نقع فيه بسبب انعدام الحسّ التاريخي لدينا، أو على الأقل ضموره.. وبالتالي فإذا كان رجال الدين متسامحين في أوروبا حالياً أو غير قادرين على قمع حرية الفكر والنشر، فإن الفضل في ذلك يعود إلى المعارك الهائجة التي خاضها شخص مثل فولتير أو جان جاك روسو أو ديدرو أو سواهم من فلاسفة التنوير.
* دراسات عن كتاب فولتير: مقالة في التسامح
* مجموعة مؤلفين بإشراف البروفيسور نيقولا كرونك (Nicholas Cronk)
* الناشر: مؤسسة فولتير ـ اكسفورد والمطبوعات الجامعية الفرنسية ـ باريس
مواضيع ذات صلة
إنسخ في الذاكرة المؤقتة أرسل النص بالبريد الإلكتروني إطبـــــــع إحفظ في الأقــراص
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي