د. عزا لدين دياب
شغلت العلاقة بين الإنسان وبيئته اهتمام نفر من الفلاسفة وعلماء الاجتماع منذ عصور موغلة في قدمها، حتى إن رهطاً من هؤلاء بالغ في تأثير البيئة على الإنسان، إلى الحد الذي اعتبر فيه الإنسان صورة من صور هذه البيئة. وسمي هذا الاتجاه بـ:الحتمية الجغرافية، واعتبر ابن خلدون أحد المؤسسين له.
لكن اتجاه الحتمية الجغرافية خلال مسيرته،أخذ يقلل تدريجياً من غلوائه في تأثير العوامل الجغرافية على ملامح الإنسان الفيزيقية، ويقر بوجود عوامل أخرى لا تقل تأثيراً عليه، وعلى حياته، وسلوكه الاجتماعي.
ويطلق علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا على الاتجاه الذي يهتم بدراسة العلاقة غير المتوقفة والمتطورة بين الإنسان وبيئته الطبيعية بالاتجاه/النهج :الإيكولوجي المستمد أصلاً من مصطلح (إيكولوجيا ecology).
والحق أن الاتجاه الإيكولوجي، بحكم تدفق المعرفة وبلوغ المجتمعات المتقدمة معالم مجتمع المعرفة،أصبح من الاتجاهات الرئيسة في العلم الأنثروبولوجي /علم الإنسان الذي يتابع باهتمام غير متوقف العلاقة القائمة والمتغيرة بين الإنسان وبيئته الطبيعية،ودور هذه الأخيرة في تشكيل حياة الناس .أقصد نشاطهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي،وفي سلوكهم الاجتماعي اليومي .
وخلص أنصار هذا الاتجاه /النهج إلى أن تلك العلاقة تتسم بحالة ومستويات من الصراع، الأمر الذي يتطلب مزيداً من الدراسة والبحث عن حلول للمتغيرات التي تحدث في عالم الطبيعة،وانعكاساتها على حياة الناس،وما تحمله من مخاطر على مصير البشرية.
والمهم بيانه أن استجابة الناس لظروفهم الطبيعية تختلف من مجتمع إلى آخر باختلاف الوعي والعلم وامتلاك الحضارة وما في الطبيعة من ثروات، ومكان ومكانة إستراتيجية،ومناخ..إلخ، وما يبدعه الإنسان من معرفة وحلول للتغلب على تحديات بيئته الطبيعية.
ومن المعروف أن المجتمعات المتقدمة ..مجتمعات المعرفة هي المجتمعات الأكثر تحكما واستجابة للظروف الطبيعية التي تحيط بهم ..بل قل أكثر إمكانية في سوق العلاقة بينهم وبين محيطهم الطبيعي لصالح الإنسان، ورفاهه الاجتماعي وما يحمل من معاني صحية،واستقرار، وسلامة العيش في سياق ما يسميه العلم الأنثروبولوجي: التوازن الإيكولوجي الذي تتمخض نتائجه لصالح المزيد من التحكم في الطبيعة، واستغلال ثرواتها، والتحرر نسبياً من الخضوع لمفاجآتها.
وعن سؤال لماذا الحديث عن الاتجاه /النهج الإيكولوجي مادامت وجهة الدراسة تتعين أصلاً في الحديث عن العلاقة بين الإنسان وبيئته، وما بينهما من تأثير متبادل؟
الظروف البيئية، وديمومة العلاقة بين الإنسان وبيئته تقول لنا بكل حقائقها :المكان.. المكانة.. الثروات.. المناخل لا تفرض أو تشترط على المجتمع الواحد أو المجتمعات استجابات واحدة.. متشابهة.. متماثلة في الشكل والمضمون، وإنما تتنوع الاستجابات بتنوع الجماعات المختلفة .وهذا معناه أن أبناء الوطن الواحد، مثل القطر العربي السوري لا يتماثلون في كل استجاباتهم لتلك الحقائق.
والحق أن تعدد وتنوع الاستجابات في المجتمع الواحد، مثل المجتمع العربي السوري، يؤدي إلى تنوع في النسق الثقافي، ووجود ما يسمى بالثقافات المحلية أوالجهوية، مثل ثقافة اللباس.. وثقافة المأكل والمشرب..إلخ. ومع ذلك فإن هذا التنوع من المشتركات الثقافية الشيء الكثير التي تعود بأصولها وجذورها للعوامل البيئية التي ترسم وتعين حدود الثقافة ومحدداتها وخصائصها .
والمهم والأهم بالمشتركات الثقافية ..وتنوع الاستجابات بين أبناء المجتمع الواحد، مثل المجتمع العربي السوري، البيئة النظيفة، والهواء النقي، والترويح اللازم.. وهذا بيت القصيد، ولب الموضوع .كل ذلك يظل شرط التعامل السليم بيننا وبين بيئتنا الغالية.. وشرط الصحة السليمة لكل أبناء الوطن، وتنشئة جيل خال من الأمراض المزمنة التي تشكل البيئة غير النظيفة، وضعف الوعي الصحي شرط وجود ونشوء تلك الأمراض.
ولاشك أن الهواء النظيف.. والإنسان القوي.. والاستجابات المثلى للطبيعة لا توجد إلا في بيئة نظيفة بالمطلق. فإذا سألتني عن مستوى استجابة الإنسان لبيئته، أقول لك دلني عن وعيه وثقافته البيئية، أجيبك فوراً عن استجاباته، وعن سلامتها.
وعلى هذا الأساس لا غيره تظل استجابات المجتمع لبيئته الطبيعية، وما فيها من منافع وتحديات في آن معا المؤشر الرئيس عن العلاقة والتأثير المتبادل بين الإنسان وبيئته الطبيعية، ودالة من دلالات حسن التعامل مع البيئة، والاعتداء عليها، وارتكاب جرائم بحقها، على النحو الذي يجري لطبقة الأوزون، وحرق الغابات، وتلويث الهواء، والعبث بالتوازن الإيكولوجي.
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي