متى و كيف يتكون تقدير الذات ؟
يأتي الطفل إلى الدنيا و ليست لديه أية فكرة عن ذاته .. صفحة بيضاء فارغة من المعالم ، و حين بلوغه الأسبوع السادس من عمره تتشكل مشاعره الأولية عن ذاته وفقاً للكيفية التي تلبي فيها حاجاته الجسدية و الانفعالية من قبل والديه و سائر المتعاملين معه .
و أثناء تدرج الطفل في مراحل النمو المختلفة … فإن تقديره لذاته يتغير حسب الطريقة التي يستجيب بها الأشخاص المهمون في حياته لمتطلباته … و حسب درجة النجاح التي يحرزها في اجتيازه لكل مرحلة من مراحل النمو هذه .
و قد أشارت بعض التقارير الدولية إلى العلاقة المطردة بين الروابط العاطفية الأولى مع أمه و سلامة صحته الجسدية و النفسية و نموه العقلي ..
و هذا ما حدا ( جون بولبي 1969 ) و هو طبيب نفسي إنجليزي ليقرر أن ( الرباط بين الطفل و الأم هو ركيزة الصحة النفسية أو منطلق المرض النفسي ) .
لذلك فعلاقة الطفل بأمه أهم و أدق بكثير من علاقته بأبيه .. ذلك أنه يبدأ في تكون علاقة الود منذ الأسابيع الأولى لولادته ( بل إن هناك أبحاثاً علميه تؤكد بالنتائج العملية الملموسة أن اكتئاب الأم أثناء فترة الحمل يؤدي إلى ولادة أجنة مبتسرين ضعيفي النمو ذوي درجات منخفضة من الذكاء ) .
إن أعلى أنواع الالتحام هو الذي يكون بين الطفل و أمه .. أنه أول حب يدركه و أول تغذية و أول دعم ( وقد يكون أول حرمان ) و سوف يؤثر بعمق في طريقة إدراكه للعالم حين يصبح راشداً .
وهذا ما أشار إليه أريكسون في نظريته إلى ( أن الطفل يستمد ثقته بنفسه و بالآخرين من خلال علاقته بأمه ) .
وهذا لا يعني إغفال الدور الكبير الذي يلعبه الوالد في عملية تكوين الصورة الذاتية ، و التأثير الخطير لدور المعلم في تقدير الذات خاصة عند الطلاب الذين لا يحضون بانتباه إيجابي في عائلاتهم ، ثم دخول عامل مهم فعال جداً وذلك عند بلوغ الأطفال سن المراهقة ألا و هو كسب قبول الأقران .
ولكنني و دَدْت في حديثي هنا التركيز على دور الأم بالذات في تشكيل الصورة الذاتية لاستشعاري العميق بعظمة الدور الذي تلعبه في حياة طفلها .
إن المرحلة التي يشار إليها عادة بـ ( مرحلة السنتين الرهيبتين ) ربما تكون هي المرحلة الأهم في إدارك الطفل لتميزه وقوته الشخصية ، و التي يحتاج فيها إلى تدفق كبير من الحب و إلى جهود تربوية موجهة لتدعيم قدراته ومواهبه.
و مالم يحدث ذلك فقد تواجه صعوبات مستقبلية في تكوين شعور إيجابي و قوي بهويته الذاتية ، وفي بناء معرفة واعية بنقاط قوته وضعفه ، وينشأ عنده نقص نفسي و جوع عاطفي يجعله يمضي في حياته محاولاً أن يعوض النقص ، باحثاً عن الإشباع العاطفي ، بدلاً من الالتفاف لتطوير إمكانياته .
لذلك فإن مرحلة المشي و التدرب على الحمام التي يمر بها الأطفال لهي من أدق المراحل التي يبدأ معها الطفل في تكوين أول خطوط صورته الذاتية معتمداً في ذلك عللا استجابات و تشجيع والديه و من حوله .
فمثلاً إذا بدا الأبوان خائفين من وقوع الطفل عند بدئه خطواته الأولى فإن هذا يجعله يميل إلى أن يكون حذراً جداً و خائفاً من تكرار المحاولة .
و للعلم فإن كل طفل يولد بلا خوف ، وليس لديه إلا الخوف من الوقوع ، والخوف من الأصوات العالية أما بقية المخاوف الأخرى فيصنعها له من حوله .
و نقطة دقيقة أخرى لا بد من التعليق عليها هنا و هي : إصرار الأبوين ـ وهما شيء مقدس في نظر الطفل ـ على تدريبيه مبكراً على الحمام قبل أن تتمكن عضلات إخراجه بيولوجياً من التحكم في عملية الضبط و الإخراج (لا تكتمل قدرتها على التحكم قبل السنتين ) مما يشعره بشيء من الإحباط في حال عدم قدرته على تلبية توقعاتهما.
وعندما كلفت اللجنة المختصة بتقدير الذات عميد كلية الاجتماع في جامعة كاليفورنيا الدكتور نيل سميلرز ( Neil Smelser ) بأن ينقل إليها خلاصة الأبحاث المتعلقة بتثدير الذات خلص إلى القول بأن :
( تظهر الأبحاث أن التقدير المتدني للذات يسهم في مجموعة من السلوكيات التي تشكل أساس المشاكل الاجتماعية الرئيسية ، و أنني مقتنع بأهمية تقدير الذات كآلية مركزية يمكن من خلالها التخفيف من حدة المشاكل الاجتماعية ) .
و يعتبر ستيفنهاجن و بيرنز 1987م ( Steffenhagen & Burns ) أن التقدير المتدني للذات هو الآلية الديناميكية النفسية الكامنة وراء جميع السلوكيات المنحرفة .
و الآن … ما الذي يمكنني فعله كأم لبناء تقدير عال للذات عند طفلي ؟
ـأن أدعم الصورة الذاتية الإيجابية لديه .
ـأن أنمي عنده سلوكيات تساعده على تفعيل ذاته .
ـأن أتجنب الممارسات السلبية و المعيقة لاحترامه لذاته .
ـأن أغذي بيئته بالخبرات الثرية التي تطور من قدراته .
ـوأخيراً أن أستنفذ كل ما بوسعي من أجل إسعاده .
إن عملية إنجاب الأطفال تتساوي فيها الغالبية العظمى من النساء ، لذلك وجب علينا أن نميز بين كلمة أم وكلمة والدة ، إن كل من تنجب طفلاً هي والدة ، و لكن ليست كل والدة أماً .
الكلمة الأولى مشتقة من كلمة الولادة ، و الثانية تحفل بالمعاني النبيلة ، وتستلزم مجاهدة للنفس و مثابرة مستمرة نحو هدف كبير يمتد إلى ما لا نهاية ، ويتطلب التطلع إليه شيئاً من التضحية و الصدق في تحمل تبعات المسئولية عند ذلك يحق للوالدة أن تقول : أنا أم .. فتباركت من صالحة وضع الله جنته تحد قدميها .
1ـ تجولي معه داخل قصره :
يمكن تشبيه الذات مثل قصر ذي غرف كثيرة … و الذي ينتقل الطفل الصغير في أرجائه كلها .
( إنني ما أستطيع فعله ، إنني من أعرفه ، إنني ما أشعر به ، إنني ما أتذكر ، إنني الماضي الذي عشته ، إنني ما أملك ، إنني ما أفكر به ، إنني إلى أين أنتمي ) … و تستمر القائمة تتابعاً .
بفهم هذا التنوع الكبير في الغرف يجب أن يصبح الوالدان قلقين عندما يختار الطفل أن يعيش في غرف أقل وأقل، وفي أسوأ الحالات يختزل مساحة القصر كلها في غرفة واحدة قد يشعر الطفل فيها بالارتباك عندما تصبح فارغة.
( عند انتقالي إلى مدرستي الجديدة و دعت كل أصدقائي القدماء … و ليس لدي الآن أصدقاء ، إنني لا شئ بدون أصدقائي ) .
في هذه الحالة يحتاج الوالدان أن يساعدا الطفل في ملء الغرفة المفقودة و يعرفاه على المساحات المهجورة في قصره لمساعدته على رؤيته لذاته بصورة أعم و أشمل .
يمكنهما مثلاً استحداث بعض المناسبات الاجتماعية لطفلهما لإعانته على تكوين أصدقاء جدد ، و أن يشجعاه على ممارسة بعض النشاطات الفردية حتى يطور طرقاً جديدة للاستمتاع بوقته مع نفسه أحياناً ( من الجميل أن يكون لنا أصدقاء حميمون ، و لكنه من الممتع أحياناً أن نستمع برفقة أنفسنا ) .
إن التعيين المقيد للذات في مجال واحد يولد لدى الطفل مشاعر صعبة يمكنه تجاوزها بمساعدة والديه له للتعرف على مجالات أخرى رحبة للذات .
2ـ تحرير لا ترويض :
ما هو المنحى الذي تتوخاه أساليبنا التربوية ؟
هل هو لترويض أطفالنا بالصورة التي تناسبنا ، و تدعيم سلوكياتهم التي تسعدنا و تتناغم مع سلوكياتنا ؟
أم أنه تحرير لذواتهم و شخصياتهم من أي شبهة استنساخ .. و إطلاق العنان لها للانطلاق بوضوح للتعبير عن رغباتها ، و تقدير بكل الحب رغم اختلافها ؟
مثل كل الكائنات الاجتماعية الأخرى يتجه الجنس البشري إلى التشابه و التكيف لينال الراحة و الأمان ، لذلك يتعلم الطفل أنه من الأفضل أن ينسجم و يتشابه مع الأشخاص الذين يديرون النظام الأسري لكي يصبح محبوباً، ولكي يحصل على ما يحبه في المقابل دعنا نتأمل هذا الوضع :
الطفل الأول في العائلة تمت تنشئيه بصورة مشابهة لحد كبير لصورة الوالدين ، مريح و ودود و اجتماعي ، يملك مستوى عالٍ من النشاط و الطاقة و المهارات الرياضية ، يستمتع بممارسة اللعب مع الوالدين و مشاركتهم في اهتمامهم خارج المنزل ، و يؤلف الثلاثة معاً فريقاً رائعاً يتبادل فيه أفراده الإعجاب فيما بينهم .
ثم يأتي الطفل رقم اثنين و منذ البداية يبدو مختلفاً عن الطفل الأول : ضعيف البنية ، مولع بالتأمل ، أبطأ في النمو يفضل الجلوس في المنزل و ممارسة القراءة ، أقل انفتاحاً و صراحة .
و تبدأ المقارنات المهلكة ( طفلنا الأول كثير التحدث معنا ، يرغب في فعل ما نريده ، من الممتع أن نكون معه ، لكن الثاني يفضل أن يكون منفرداً و يصر على أن يظل مختلفاً ) .
عندما يعتقد الوالدان أن أحد أطفالهما ( سهل ) لتشابهه معهما ، و الأخر ( صعب ) لبعده عن الصورة الأسرية المطلوبة ، فإنهما يبدءان بالمساواة بين سهل و جيد ( سهل = جيد ) ، وبين صعب و سيء ( صعب = سيء ) .
و يستقبل الطفل الجيد المزيد من نظرات الاستحسان و المكافآت الإيجابية ، بينما يكون نصيب الطفل السيء جزءاً أقل من كل ذلك ، مما يجعله يشعر بالوحدة و الرفض ، وكلا الأمرين قاسيين على احترام الطفل لذاته ، فكل رسالة نوجهها له لكي يتغير تعني مزيداً من الرفض له .
هل انتهت الحكاية ؟
لا … لأننا سنكتشف فيما بعد أن ( المكافأة على التشابه ) ليست معيقة لاحترام الذات عند الطفل السيء (الصعب) ، فقط بل إنها بالإضافة لذلك يمكنها أن تؤذي احترام الطفل الجيد ( السهل ) لذاته … كيف ؟
لنتخيل ما يمكن أن يحدث في فترة المراهقة … عند بدء مرحلة الاستقلالية ، سيظل الطفل الصعب يطالب بحقه في ممارسة شخصيته المتفردة و التي تحارب دوماً من أجلها ، و في النهاية سيتوقف الوالدان عن الصراع فيتقبلا طفلهما الصعب كما هو ، مع محاولتهما لرؤية بعض الجوانب الإيجابية في شخصيته .
أما الطفل الأول ـ و هو الطفل الجيد منذ البداية ـ قد تتكون لديه مشكلة من نوع أخر ، فلقد ضحى ببعض رغباته واختلافاته من أجل أن يحتفظ بهذه السمعة الإيجابية طوال الأعوام ، ولكي يسعد الوالدين و يتجنب موجة النقد التي يتلقاها الطفل الأصغر ، في حين ظل متجاهلاً و متنازلاً عن الجزء الذي يمثل بعض اختلافاته و خصوصيته ليستمر في كسب استحسانهم ، مما سيقوض بعض الشيء من تميزه و تفرده حين الكبر .
أحد أخطاء التربية هو أن لا يعترف باستقلال الولد الذاتي ، فينمو دون أية ثقة بالنفس ، فالولد بنظر بعض الوالدين كائن تابع يحققون من خلاله مشاريعهم الذاتية ، إنه ليس طفلاً بل كائناً يجب برمجته ليصبح ما قرروا هم أن يكون .
لذلك فلا بد للوالدين أن يتعاملا مع التشابه و الاختلاف في أطفالهما كنعمة إلهية أنعمها على كل شخص لكي تساعده على تكوين خصوصيته و بصمته الشخصية ، ويحتاج كل طفل لأن يتصرف بسهولة و صعوبة ، أحياناً جيد و أحياناً سيء ، لكننا لا بد من أن نُفهمه أننا نحبه و نقدره و نتقبله في كل الظروف .
أ
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي