ما هو العقل؟
للإجابة على هذا السؤال لابد من استحضار خمسة معاني :
الأول: العقل بمعنى الفعل
الثاني: العقل بمعنى الفاعل
الثالث: العقل بمعنى الجهاز المفعل
الرابع: العقل بمعنى المادة المعالجة
الخامس: العقل بمعنى النتيجة المحصل عليها
وهكذا يصبح الجواب مركبا ومعقدا، ويحتاج إلى تفصيل كاف وواف لكل معنى من المعاني الخمسة؛ والسبب الذي يجعل هذا التفصيل ضرورياً هو التصور الخاطىء عن العقل الموجود في أذهان كثير من الناس.
إن أول ما يتبادر إلى أذهان عامة الناس عند سماعهم كلمة "العقل" الدماغ وما يقوم به من عمل خاص به وهو التفكير والتصور والخيال؛ ويعتقدون خطأً أن العقل محصور في هذا الجهاز ــ المخ ـــ وما يقوم به من العمليات الذهنية !
وهذا خطأ فادح وكبير جدأ، ويؤدي إلى طمس وتمييع معنى العقل وحقيقته.
فليس ما يقوم به الدماغ هو كل العقل ولا هو حقيقته الجوهرية المركزية، وإنما هو ثُلُثٌ منه فقط.
وبما أن غالبية الناس يتصورون العقل في الدماغ فقط فإنهم يدركون الثلثَ منه ويغيب عنهم الثلثان.
إن حقيقة العقل الأولى ـــ وهي حقيقة جوهرية ومركزية ـــ ما يحدث في القلب، فهناك في سويدائه يحدث شيء مهم جدا جدا : إنه "الـــَّربْــــطُ" المحكم ـــ بغض النظر عن كونه حدث بطريقة سلبية أو إيجابة ـــ بين الفكرة (المعلومة) التي انقدحت في الدماغ ـــ الذهن ـــ وبين المشاعر (العاطفة) التي انطلقت من الصدر ـــ الوجدان
والمقصود بالوجدان ما يحدث في عموم الصدر من خوف أو رجاء، رضا أو سخط، حلم أو غضب، فرح أو حزن، حب أو كره....إلخ، وهذه كلها مشاعر وأحاسيس وعاطفة تنبع من ينابيع الصدر المختفة كرد فعل على الفكرة التي انقدحت في الذهن ـــ الدماغ ـــ أو كاستجابة لها، وفي نهاية المطاف تنتهيان وتجتمعان ـــ الفكرة والعاطفة ـــ في داخل القلب وهو الذي يعقد بينهما القران، فيصير ذلك "عَـقْـلاً" إذا وقع ذلك بطريقة صحيحة، أي إذا كانت الفكرة تناسب الحقيقة الكونية الوجودية، ثم استجابت لها العاطفة إيجابياً.
أما إذا وقع الربط ـــ عقد القران ـــ بطيقة خاطئة، أي إذا كانت الفكرة لا تناسب الحقيقة الكونية الوجودية، ثم استجابت لها العاطفة إيجابياً؛ فإنما يعد ذلك لاعقل.
وعندما نقول الفكرة تناسب الحقيقة الكونية أو لا تناسبها، فإنما المقصود بذلك ما يلي : عندما تكون الفكرة أصلها خير وتعبر عن خير وتهدف إلى خير، ويقوم القلب بربطها بمشاعر الخوف والسخط، والغضب، والحزن، والكره مثلا فذلك الربط هو عين اللاعقل؛ و عندما تكون الفكرة أصلها شر وتعبر عن شر وتهدف إلى شر، ويقوم القلب بربطها بمشاعر الرجاء، والرضا، والحلم، والفرح، والحب مثلا، فلا يمكن أن يطلق عى ذلك الربط والقران المعقود سوى لفظ اللاعقل، والعكس صحيح.
ولماذا يكون الربط الذي ذكرناه موصوفا باللاعقل، ويوصف عكسه بالعقل؟
الجواب في غاية البساطة والوضوح لأن ربط فكرة/أفكار الشر بعاطفة/عواطف الخير يؤدي في النهاية إلى قبولها وتبنيها، وفي ذلك ما فيه من الضياع والهلاك والخسران؛ كما أن عقد فكرة/أفكار الخير بعاطفة/عواطف الشر يؤدي في النهاية إلى رفضها ومحاربتها، وفي ذلك ما فيه من الضياع والهلاك والخسران.
كان هذا تفسيراً للربط الذي يوصف باللاعقل، والآن إلى وصف العقد الذي يوصف بالعقل:
إذا رأى الإنسان أحداثاً تقع أمامه أو سمع كلاماً موجهاً إليه، وكان في ذلك خير ـــ ولا يكون في ذلك كله خير إلا في حالة كونه مصبوغاً بصبغة ربانية ـــ وكرد فعل على ذلك انبعث من صدره شعور ـــ عاطفة ـــ إيجابي قد يكون الرجاء، أو الرضا، أو الحلم، أو الفرح، أو الحب، واجتمعت المعومات الواردة من الخارج والعواطف المنبعثة من الداخل في داخل القلب وقام هذا الأخير بربط الصلة ـــ عقد القران ـــ بينهما فإن ذلك في حقيقة الأمر يعد "عَـقْـلاً" لأن المعومات التي تحمل في طياتها الخير تم ربطها بالمشاعر التي تحمل في طياتها الخيركذلك.
أما إذا رأى الإنسان أحداثاً تقع أمامه أو سمع كلاماً موجهاً إليه، وكان في ذلك شــرـــ ولا يكون في ذلك كله شـر إلا في حالة كونه مصبوغاً بصبغة شيطانية ـــ وكرد فعل على ذلك انبعث من صدره شعور ـــ عاطفة ـــ سلبي قد يكون الخوف أو السخط، أو الغضب، أو الحزن، أو الكره، واجتمعت المعومات الواردة من الخارج والعواطف المنبعثة من الداخل في داخل القلب وقام هذا الأخير بربط الصلة ـــ عقد القران ـــ بينهما فإن ذلك في حقيقة الأمر يعد "عَـقْـلاً" لأن المعومات التي تحمل في طياتها الشــر تم ربطها بالمشاعر التي تستنتج منها النفس المسؤولة أن هذه الواردات يجب أن ترفض لأنها تؤدي في النهاية إلى هلاك الكيان (الذات).
هذا الربط هو حقيقة العقل، وعلى نوعيته يتوقف مصير الإنسان
وهذا التخصيب الأولي والمبدئي هو الكود ـــ مفتاح التشغيل ـــ الذي سيوجه الدماغ ويتحكم في إننتاجه الفكري وسيرافقه من البداية إلى النهاية !!
وهذا هو العقل الحقيقي الذي أشار إليه الله في كتابه المقدس حيث قـال عز مـن قائل: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ أي كما يسمع الإنسان بأذنيه وهما حاسة السمع فكذلك فهو يعقل بقلبه لأن هذا الأخير هو حاسة العقل .
والآية محكمة لا سبيل إلى تأويلها، والسبب في عدم إمكانية التأويل هو التعقيب الذي جاء بعدها حيث قال المولى ـــ سبحانه وتعالى ــ :﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور ﴾
وهذا دليل قاطع على أن القلب المقصود هو تلك المضغة أو المضخة الموجودة في الصدر
إن ما تقوم به العين من التقاط للصور يسمى البصر، وما يقوم به القلب من التقاط للمعاني الدقيقة والمعلومات الرفيعة والمفاهيم العميقة التي تتضمنها تلك الصور يسمى البصيرة، وهذا لا يحدث إلا في حالة ما إذا كان القلب بصيرا وليس أعمى.
والفرق بين النظرتين ـــ نظرة العين ونظرة القلب ـــ هو أن العين تنظر ـــ ترى ـــ بطريقة تسمى "ماكرو" والقلب ينظر ـــ يرى ـــ بطريقة تسمى "ميكرو"، ولهذا سميت نظرة العين "بَــصَــرٌ" على وزن فَــعَــلٌ وسميت نظرة القلب "بَــصِيــرَةٌ" على وزن فَــعِـيــلَـةٌ، تصغيراً للفعل الذي هو الرؤية، أي النظرة الجنينية التي ترى ما هو دقيق وأدق والذي يستحيل على العين أن تراه.
من كتاب: " العقل ذلك المجهول"
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي