يمثل الإيمان اليهودي عنصر الارتباط الوحيد بين اليهود المعاصرين. وذلك بغض النظر عما إذا كان هذا الإيمان يقتصـر على التبرع لإسرائيل (بوصفها تجمع شعب الله المختار) ام كان يصل إلى حدود التمسك المتشدد بتعاليم التلمود. فإذا كان البعض لا يستسيغ مصطلح الإيمان بحجة وجود ملحدين يهود فلا بأس من استخدام مصطلح التراث اليهودي كبديل. حيث نجد غلاة المتشددين يعترفون بفضل اليهود العلمانيين والملحدين في دعم إسرائيل خلال أزمتها في حرب يوم الغفران. وأقله نجد قبولهم تهويد كل من ولد لأم يهودية مهما يكـن ماضيـه وممارساتـه السابقة. وإذا كنا نتناول الموضوع من وجهة تحليلية فان علينا ألا نهمل مسألة الموت وهو منبع القلق الأساسي للإنسانية. ولا شك بأن الاعتقاد بالانتماء إلى الشعب المختار من قبل الرب يعطي شعوراً بالأمان تجاه قلق الموت. وذلك بغض النظر عن مستوى وعي الشخص لمثل هذا الشعور. وعليه فان التعاليم اليهودية هي المحدد الرئيسي للأطر العامة للشخصية اليهودية. خصوصاً وان اليهودية هي ديانة تحدد بدقة أطر الحياة اليومية لمعتنقها وتضع القواعد الصارمة للسلوك اليومي للمؤمن.
ولنبدأ بمقطع من سفر الخروج (التوراة) وفيه:" وعندما ترحل لن تكون فارغ اليدين* بل إن كل امرأة سوف تقترض من جارتها* ومن تلك التي تقيم في بيتها جواهر من الفضة وجواهر من الذهب وأثوابا* وسوف تضعها على أجساد أبنائك وبناتك* ولسوف تسلب المصريين*(سفر الخروج22:403 ).
وهذا المقطع يعكس سمة من السمات الرئيسية للشخصية اليهودية حيث تبرز نزعة التخصيص بحيث يكون اليهودي مسؤولاً أمام الإله عن الأذى الذي يلحقه باليهود الآخرين. لكن بإمكانه أن يغش أو يسرق أو حتى يقتل غير اليهود دون أن يكون مسؤولا أمام الرب ودون أن يعتبر ذلك انتهاكا لتعاليم الدين. وتترجم إسرائيل ذلك عمليا بتأمينها اللجوء والحماية لليهود الفارين من وجه العدالة في الدول الأخرى بما فيها الولايات المتحدة نفسها.
لكن النزعة اليهودية التخصيصية تتبدى بوضوح اكبر في التلمود الذي كتبه أحبار اليهود ليجعلوه دستور الحياة اليومية لليهود. ففي التلمود نجد النزعة المادية ـ النفعية أكثر بروزاً ووضوحاً ومنه نقتطف مثلاً: يكرم الفقير لمهارته والغني لثروته… الذهب والفضة يمكنان القدم من الثبات … الثروة والقوة يفرحان القلب… الموت افضل من التسول … سبع صفات تلائم الأخيار ومنها الثروة … حين يقوم الإنسان بالصلاة عليه أن يتوجه في صلاته لصاحب الثروة والممتلكات لأنهما لا يتأتيا من العمل و إنما من الفضيلة … إن الخيرين يحبون أموالهم اكثر من أجسادهم … في وقت الشدة يتعلم الإنسان قيمة الثروة…
واستنادا إلى التوراة يقول نوبسنر (أستاذ اللاهوت اليهودي في جامعة بارد الأميركية) بأن المملكة التي تهم اليهودي ليست قائمة في السماء ولكنها تلك التي نتواجد فيها الآن. والتي تتطلب حفظ الحياة وتقديسها وتقديس حياة البيت والعائلة. إنها الحياة القائمة في الحاضر. إنها إلهنا والآن في حياة الجماعة والمجتمع… لذلك فان اليهود لم يكونوا يوماً قديسين جائعين أو متقشفين لا يغتسلون ، انهم يقبلون على طيبات الحياة بحماس…
من جهته يعتبر ماكس فيبر أن موقف اليهود من فكرة العالم الآخر هو الذي حولهم للإقبال على عالم المال والأعمال وصرفهم عن ركوب موجات الزهد. مما حولهم إلى أقلية متخصصة في التجارة والربا والصيرفة (ثم لاحقاً في البورصات).
وهذا النمط الفكري ـ الحياتي أعطى لليهود خصوصية تأسست عليها طبقة اجتماعية ـ وظيفية منسجمة مع وعي اليهودي لخصوصيته الدينية. وهذا ما جعل اليهود المعاصرين اعصياء على الذوبان في المجتمعات التي عاشوا فيها. ويرى العديد من الباحثين أن التعاليم اليهودية التي تمنع امتلاك الأرض والعمل في الزراعة قد لعبت دورها في منع الانصهار اليهودي.
ونعود إلى نوبسنر الذي يقدم تفسيرا لسؤال محير يتعلق بالموقف اليهودي من مفهوم الدين إذ يقول:… أننا نعلم من التاريخ اليهودي بأنه عندما يتضارب الدين مع المصالح الاقتصادية فإن الغلبة تكون للمصالح وليس للدين.
وهذا يقودنا لاكتشاف الدور الوظيفي للغيتو إذ انه كان ضرورة للمحافظة على هذه الطبقة التي شكلها اليهود بتقديمهم المادي على الحسي وبعدم استعدادهم للمخاطرة بمصالحهم أيا كانت الأسباب والظروف. حتى يمكن التأكيد على استحالة استمرارية اللاوعي اليهودي الجمعي بدون الغيتو. فإليه يرجع الفضل في حماية اليهود من تأثير العناصر الثقافية الخاصة بمجتمعات شتاتهم. وهذا ما يفسر إصرار إسرائيل على الاعتزال وإصرار مجموعاتها على حاراتها الخاصة. كما انه يفسر خوف اليهودي العادي من السلام ومن الذوبان في المحيط.
نهاية هل يمكن للتحليل النفسي أن يقدم لنا تفسيراً موجزاً لشخصية هذه ملامحها؟. وهل تبقى مقولة روهايم حول تكرار الموقف الطفولي ذات قيمة ودلالة؟. جوابنا هو نعم وباختصار فان اليهودي يجد "هوية الأنا" داخل الغيتو ويفقدها خارجه. فيلجأ للتمرد النرجسي ـ العدواني لمغالبة قلقة من تفكك "هوية الأنا".وذلك بحيث يصبح كل ما هو خارج الغيتو (وبالتالي كل ما هو غير يهودي) موضوعا سيئا ومهددا. ومحاربة اليهودي للمواضيع السيئة غير محدودة بأية حدود. فمسئوليته أمام الإله تقتصر على الأذى الذي يلحقه باليهود وبالتالي فان هذه المسؤولية لا تمتد إلى المواضيع السيئة كونها غير يهودية.
كما أن جواز تقديم المصلحة على الدين يجعلنا نفهم استمرار قبول الملحدين، والمتحولين إلى أديان أخرى، من اليهود. وهذا ما يبرز من جديد "نعمة الولادة اليهودية" ويجعلها القدسية شبه الوحيدة في الديانة اليهودية.
أما عن السلوك السياسي للشخصية اليهودية وانعكاس هذه السمات على السياسة الإسرائيلية فنؤجله إلى الفصول التالية.
هـوامش ومراجـع
1 – سيغموند فرويد: الطوطم والمحرم صدر بالألمانية عام 1913 وترجمته منشورات بايو إلى الفرنسية عام 1965 وله عدة ترجمات عربية منها دار الطليعة العام 1983.
2 – سيغموند فرويد: موسى والتوحيد تم نشره بالألمانية عام 1939 ثم ترجم إلى عدة لغات ومنها العربي بطبعات مختلفة. ومنها طبعة دار الطليعة.
3 – Roheim G: Psychoanalysis and Anthropology, International University press, N Y, 1950
4 – بناء على هذه الهشاشة وعدم القدرة على تحمل الاحباطات تقوم إسرائيل باعتداءات دورية غير ذات هدف محدد سوى دعم مشاعر القدرة على العدوان و إثباتها.
5 – انظر فصل سيكولوجية الخداع اليهودي على سبيل المثال.
6 – مجموعة من الباحثين : بسيكولوجية الهيستيريا والوساوس المرضية، دار النهضة العربية – بيروت 1990 .
7 – سيغموند فرويد: حالة الرئيس شريبر.
8 – تندرج في هذا الإطار سلسلة طويلة من العمليات التجسسية التي قام بها يهود أميركيون لصالح إسرائيل. وبعضها كان شديد الوطأة على الولايات المتحدة.
9 – عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشـروق، القاهرة، 1999 .
10 – سنورد لاحقاً في هذا الفصل والفصول التالية بعضاً من المقاطع التلمودية التي تشير إلى هذا الاحتقار.
11 – يعتمد هذا المبدأ في كافة مذاهب العلاج المعرفي.
12 – تمكن مراجعة مبادئ التربية في الغيتو اليهودي (بعض النظر عن البلد) والمنطلقات التلمودية المحددة لهذه التربية الهادفة إلى ترسيخ بارانويا الاضطهاد و مشاعر العظمة المرضية.
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي