قد يبدو للوهلة الأولى أن خوض عالم الدراسات العليا أمراً “مخيفا”ً ليست فقط من حيث التخلي عن جانب الراحة و الرفاهية (بعض الشيء)، ضرورة الإلتزام بجدول يومي و روتين معين، و التعود على بيئة أكاديمية جديدة مختلفة كثيراً عن مرحلة البكالوريوس كونها تتطلب الكثير من العمل و الجهد مثل عبء المواد الدراسية المتقدمة إلى جانب المساعدة في التدريس، إجراء البحوث بشكل فردي أو بمشاركة مجموعة من الباحثين، المشاركة في المؤتمرات و النقاشات العلمية، و في نهاية المطاف، كتابة أطروحة (رسالة) بحثية كمتطلب هام لاستكمال متطلبات الدرجة العلمية، و فوق هذا كله التزامات و متطلبات الحياة الإجتماعية و ربما اهتمامات أخرى (غير أكاديمية) لا يمكنك الإنفصال عنها.
لا أنكر أن فكرة استكمال درجة الماجستير (و بلغة أخرى غير لغتي الأم) كانت فكرة مرعبة بالنسبة لي في بدايتها و خلالها و ازدادت المخاوف من الإخفاق كثيراً وقت كتابة الرسالة. و بعد الماجستير، انتقلت المخاوف لمرحلة الدكتوراة، لكن لحسن الحظ، فقد سلك هذا الطريق من قبلي و قبلك عزيزي القاريء الكثير من طلاب الدراسات العليا بل و تخطوه بثقة و نجاح أيضاً. لكن، لأنّ “الحماس” غالباً ما يكون في أوجِهْ في بداية الفصل الدراسي أو في السنوات الأولى من الدراسة ثم يخبو تدريجياً مع طول فترة الدراسة و زيادة الأعباء الدراسية و الصعوبات البحثية، فإن من أكبر التحديات التي يمكن أن تواجهها كطالب في مرحلة الدراسات العليا هو أن تحافظ على حماسك و مستوى إنتاجيتك يوما بعد يوم و لسنوات عديدة (قد تصل ٤ سنوات أو تزيد لمرحلة الدكتوراة فقط) حتى الوصول إلى آخر سطر تكتبه في رسالتك و من ثم مناقشتها بالطريقة اللازمة و كما خططت لها، و بذلك، تحصل على الدرجة العلمية بإذن الله.
في هذا المقال سأذكر بعض النقاط التي استخلصتها من تجربتي خلال كتابة رسالة الماجستير و قراءاتي خلال رحلة الدكتوراة خاصة في حالات الإجهاد الأكاديمي التي تمر بي و التي أتمنى أن تساعدني شخصيا حتى نهاية رحلتي و تساعدك على التغلب على ضعف همتك، و الحفاظ على مستوى حماسك حتى تصل لهدفك المرغوب بإذن الله.
الهدف و النهاية المرجوة
ضع هدفك نصب عينيك و ذكّر نفسك دوما بالنهاية التي ترغب في الوصول لها. فمن الطبيعي جدا أن تمر بمراحل ضغط، إحباط ، أو إجهاد خلال رحلة الدراسات العليا.
في المراحل الأولى، قد تبدو لك هذه المرحلة مختلفة تماماً عما تعودت عليه مسبقا، خاصة لو كنت مبتعثاً، و ذلك نتيجة لاختلاف اللغة و البيئة الأكاديمية و البحثية، لذلك، قد تدخل هذه المرحلة بحالة من التوتر و سرعان ما تصاب بالإجهاد. لتتغلب على ذلك يمكنك وضع لوحة كبيرة لأهدافك في غرفتك أو على مكتبك، صورة أو عبارة محفّزة، أو حتى مذكّرة في هاتفك أو الحاسوب الخاص بك لهدفك الذي ترغب في الوصول إليه. بعد ذلك، اقرأ هدفك/أهدافك يومياً قبل النوم أو بداية كل صباح أو في الأيام التي تشعر فيها بضعف الهمة أو بأي طريقة و وقت يناسبك، المهم أن تذكر نفسك دوماً بهدفك أو أهدافك و النتيجة النهائية التي تطمح لتحقيقها.
الإسترخاء
أوجد طريقة ما تساعدك على الاسترخاء في حالات الإجهاد. تذكر دوما أن الشعور بالتوتر حول كل شيء لن يساعدك على الحصول على أي شيء. لذلك، تذكر بأن تأخذ قسطاً من الراحة بشكل منتظم من مكتبك و حاسوبك، و أعطِ نفسك بعض الليالي تقضيها بعيداً عن المهام المتعلقة بالدراسة. مثلا، قم بممارسة بعض الأنشطة التي تساعدك على الإسترخاء: الخروج مع العائلة أو الأصدقاء أو مهاتفتهم، الاستماع إلى أو مشاهدة برامج محببة إليك، ممارسة الرياضة أو هواية معينة، إعداد وجبات طعام خفيفة مختلفة عما تأكله يومياً، و القراءة الحرة من أجل المتعة فقط و ليس بغرض الدراسة.
لست وحدك
تذكر دوماً بأنك لست وحدك، فالكثير من الطلاب هم في نفس موقفك و يمروا بنفس التجارب أو ما هو أسوأ منها أيضاً.
مشروعات الدراسات العليا قد تكون في كثير من الأحيان مشاريعاً فردية. و مع ذلك، ليس هناك من سبب يمنعك من مشاركة أفكارك مع الآخرين، الأمر الذي قد يساعدك على التخلص من الإحساس بالعزلة. ليس هذا فقط، بل إن مشاركة أفكارك مع الآخرين قد يمكنك من تطويرأفكارك أو النظر إلى مشاريعك البحثية من منظور جديد و آفاق جديدة لم تتنبه لها من قبل. أيضا ذكّر نفسك بأن الكثيرين من قبلك قد مروا بذلك، و في نهاية المطاف، ستصل مثلهم للمحطة التي تريد بإذن الله. فإن كنت تفكر في إكمال دراساتك العليا أو لازلت في البداية أو حتى لو كنت في منتصف الطريق و شعرت بضعف الهمة، أنصحك بأن تتقدم إلى من سبقوك من الطلاب بطلب الدعم بكافة أشكاله، و المشورة و النصح بشأن كيفية تخطيهم لمرحلة الدراسات العليا أو لمشروع بحثي معين بنجاح سواءاً في محيط معهد اللغة، قسمك، جامعتك، أو حتى عبر وسائل التواصل الإجتماعي التي باتت تزخر بالكثير من حسابات الجامعات، الخدمات المتخصصة بالبحث العلمي، و المبتعثين الباحثين الذين يرغبون في الأخذ بأيدي الطلاب الجدد و المستمرين في الدراسة.
أنت هنا لتتعلم
البحث عملية شاقة لكنها ثريّة و ممتعة في نفس الوقت.
إنّ تعلّم كيفية إجراء بحوث ذات قيمة علمية هو ليس بالأمر السهل. لذلك، لا تتردد في طلب المساعدة من مشرفك، أساتذتك، زملاءك في الدراسة، أو ممن سبقوك من الطلاب و الباحثين في مجالك! تذكرأن رحلة الدراسات العليا هي الوقت المناسب لارتكاب الأخطاء و التعلم من التجارب المختلفة إيجابية كانت أو سلبية. ذكّر نفسك دوما أنك طالب و أنت هنا لتتعلم، و في نفس الوقت، لتكتسب خبرات و مهارات علمية مفيدة.
تكوين العلاقات
احرص منذ البداية على تكوين علاقة جيدة مع مشرفك
كونه مشرفك الأكاديمي الخاص فهو لم يوجد إلا لتوجيهك و مساعدتك و إرشادك خلال رحلتك العلمية. مشرفك الدراسي أو الأكاديمي أشبه ما يكون ببوصلتك التي تساعدك على تحديد معالم رحلتك من بدايتها حتى نهايتها. أُطلب من مشرفك ترتيب اجتماعات دورية (أسبوعية أو شهرية) بينكما بحيث يمكنك تحقيق أقصى استفادة من هذه العلاقة الأكاديمية الهامة، و من خلال هذه الاجتماعات المتكررة، يمكنك طرح جميع مخاوفك و تطلعاتك، و هي فرصة أيضاً لإطلاعه على خط سيرك فيما أنجزته من موادك الدراسية (إن وجدت) و فصول رسالتك، لتتأكد أيضاً أنك لازلت تسير في المسار الصحيح.
ابحث فيما تحبّ!
من الضروري اختيار موضوع البحث العلمي الذي تحبه أو تهتم به كثيراً لتحافظ على حماسك.
احرص منذ البداية على اختيار موضوع بحث تكون شغوفا به و يجعلك متحمساً لمواصلة البحث فيه و الكتابة حتى النهاية. احرص أيضاً على أن يكون موضوع بحثك هو ما تريد البحث فيه أولا و قبل كل شيء و ليس اختيار الموضوع لأنه فقط يحظى باهتمام واسع في تخصصك أو يكون ذا طبيعة سهلة لأنه غالبا ما ينتهي بشكل سيء إن لم تكن شغوفاً بما تبحث فيه. في هذا الصدد، من الضروري اختيار موضوع يتناسب مع اهتماماتك و اهتمامات مشرفك لأنه سيرافقك في رحلتك، و إلا سيكون عليك تغيير المشرف. لذلك، احرص على اختيار المشرف الأكاديمي أو المشرف الدراسي المناسب منذ البداية، و أطلعه بشكل مستمر على ما كتبت و لا تنتظر حتى النهاية لتريه ما أنجزت.
كن إيجابياً
انتبه لحديثك مع ذاتك لأنك ستسمع له غالبا.
كثيرا ما يشعر طالب الدراسات العليا بأنه ضحية و أنه لم يتلق الدعم و التوجيه الكافي منذ البداية، أو لم يتأهل في مرحلة البكالريوس بالشكل المناسب لخوض تجربة الدراسات العليا، لكن الحقيقة قد تكون أبسط مما تتخيل، ذلك أن حديثك مع ذاتك يمكن أن يؤثر على دوافعك و إنتاجيتك بشكل كبير. و لكي تكون أكثر إنتاجية (و تتخرج بشكل سريع وسلس بإذن الله) عليك بتغيير حالتك الذهنية من كونك الضحية (Victim) إلى كونك الشخص الأكثر الإنتاجية (Producer). عليك (ذهنياً) إعادة صياغة الكثير من الأفكار السلبية و تحويلها إلى إيجابية. منها على سبيل المثال لا الحصر:
** تخلّص من .. لابد لي أو عليّ أن I have to إلى .. أنا اخترت I choose to
التفكير بطريقة أنك اخترت هذا الطريق نحو درجتك العلمية يجعلك تستمتع بكل لحظة تمر بها في هذه المرحلة و يجعلك تخرج من دائرة التفكير حول كونك مرغماً على القيام بشيء ما بدلا من كونك اخترته بمحض إرادتك.
** تخلّص من .. لابد لي من إنهاء هذا الجزء في رسالتي أو درجتي العلمية I must finish إلى .. متى علي البدء بإنجاز مهامي التي توصلني لنهاية رسالتي و الحصول على درجتي العلمية When can I start؟
عندما يسيطر عليك التفكير بضرورة إنهاء مهمة ما باتجاه درجتك العلمية دون أن تقوم بشيء فعلي نحو ذلك غيّر هذه الفكرة إلى كيف و ما الذي يمكنك عمله لإنهاء مهمة ما و التقدم خطوة نحو حلمي.
** تخلص من .. مهمة كتابة الرسالة شاقة و طويلة جدا this is so big إلى .. مهما كانت المهمة كبيرة يمكنني إنجازها بخطوات صغيرة I can take one small step
قد تكون كتابة الرسالة بالفعل ليس بالأمر السهل، و طريقها طويل، وهذا مايضطرك في كثير من الأحيان إلى التسويف (تأجيل إنجاز مهامك المرة تلو الأخرى). في كل مرة ستشعر فيها أن موضوعك كبير و طريقك طويل ستلجأ للتسويف (Procrastination) وتأخير عملية البدء في مهامك. بدلا من ذلك، قم بعمل عصف ذهني للتفكير في كيفية تقسيم مهامك الكبيرة إلى مهام صغيرة تقوم بتنفيذها بشكل يومي. مثال: قراءة ورقة علمية و تلخيص أهم أفكارها، تنظيم ملفاتك، مقابلة مشرفك أو مجموعة الباحثين في معملك، و هذا كله عملاً بمبدأ (قليل دائم خير من كثير منقطع) و خير طريقة لإنجاز عملك هو أن تبدأ العمل.
** تخلص من .. يجب أن أكون مثاليا I must be perfect إلى .. أنا بشر I can be a human
بعض الناس قد يعانوا من المثالية الزائدة (Perfectionist) عن حدها. التفكير بأنك شخص مثالي يجعلك غير راضٍ عن آدائك كثيراً. عوضاً عن ذلك، اجعل توقعاتك عن نفسك في دائرة التوقعات المعقولة، و تذكر أنك بشر قد تصيب مرة و تخطيء في مرات، و أسأل نفسك: ما هي الأشياء المهمة التي علي إنجازها في رسالتي لتخرج بالشكل الأفضل قدر المستطاع (و ليس الشكل الأمثل و بدون أي خطأ يذكر). بهذا السؤال، ستخرج نفسك من دوامة المثالية و التوقعات اللامعقولة عن نفسك.
** تخلص من .. ليس لدي وقت للراحة أو الرفاهية I don’t have time to play/relax إلى .. لابد من أن أجد وقت للرفاهية أو الراحة I must have time to play
الحقيقة أن الوقت الأفضل للحصول على الراحة هو عندما تشعر بحالة من الإجهاد. حصولك على فترات من الراحة في أوقات ازدحام جدولك بالأعمال يجعلك تفكر بطريقة أفضل و يساعدك على الوصول إلى حلول خلاّقة لحل مشكلاتك، و وقت الراحة هو بمثابة إعادة شحن لبطارية حماسك.
قد تكون رحلة الدراسات العليا و كتابة الرسالة طويلة لكنك ستتعلم منها الكثير، المهم أن تحيا حياة متوازنة و تعطي لكل شيء حقه في حياتك دون التركيز على جانب واحد فقط على حساب الآخر.