الخبر: وائل مهدي
هناك نظرية اشتهرت كثيرا في السنوات الأخيرة اسمها نظرية «البجعة السوداء» ظهرت في كتاب يحمل نفس الاسم في عام 2007 لمؤلف أميركي من أصل لبناني اسمه نسيم نقولا طالب. هذه النظرية تصف أي شيء لم يتوقع أحد حدوثه ولا يمكن تفسيره وله تأثير كبير جدا على العالم والأسواق بأنه «بجعة سوداء». وهذه الأيام ظهرت بجعة سوداء في أسواق النفط مع هبوط أسعار النفط تحت 60 دولارا بعد القرار التاريخي الذي اتخذته منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) والذي رفضت فيه خفض سقف إنتاجها دون 30 مليون برميل يوميا.
وهذا السعر «بجعة سوداء»، لأن لا أحد يريده ولا أحد توقعه ولا أحد يدري ماذا سيحدث بسببه، إلا أنه بدأ يسبب تأثيرات كبيرة وضخمة أولها انهيار عملة روسيا أمام الدولار بأعلى مستوى منذ عقدين من الزمان وفقدان بورصات دول الخليج مليارات الدولارات من قيمتها السوقية في غضون أيام. وتستمر الأحداث في التواصل ويبدو أن هناك سربا من البجع الأسود يطير فوق الأسواق المالية حاليا كما تقول شركة بتروميتركس للأبحاث النفطية في تقريرها أمس، الذي حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منه. وظهر البجع الأسود لأنه لا أحد يدري أين سينتهي صراع الأسواق حاليا كما تقول، إذ إن «أوبك» في نظرها تريد خنق إنتاج الولايات المتحدة من النفط الصخري فيما تريد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي خنق الدول المنتجة للنفط مثل روسيا وفنزويلا وإيران من خلال فرض المزيد من العقوبات عليها.
* حرب الأسعار
* وما يحدث اليوم في السوق لا يمكن التعبير عنه سوى أنه بجعة سوداء كبيرة. إذ لا يمكن فهم الأسباب وراء انهيار أسعار النفط الحالي بين يونيو (حزيران) وديسمبر (كانون الأول) والذي حدث بصورة كبيرة ومماثلة لما حدث في عام 2008 عندما انهار برنت من 147 دولارا إلى مستوى فوق الـ30 دولارا.
ففي عام 2008 انهارت الأسعار نظراً لأن الطلب على النفط تحطم مع انهيار الأسواق المالية وضعف الاقتصاد العالمي وبقاء الأسعار مرتفعة. ولكن الظروف للانهيار الحالي للأسعار ليست نفسها في 2008 كما تقول «بتروميتركس».
وبحسب ما تقوله الشركة التي تتخذ من سويسرا مقرا لها، فإن السبب وراء الانخفاض الحالي هو «رغبة السوق في معرفة مع من وإلى أي مدى دول الخليج في (أوبك) تشن حربا للأسعار». وتضيف «بتروميتركس»: «هبوط الأسعار عقب اجتماع (أوبك) الأخير تقوده التوقعات حول حرب الأسعار في (أوبك) وبناء المخزون النفطي في النصف الأول من العام القادم».
وبدأت نظرية حرب الأسعار تتكون في السوق في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بعد أن بدأت «أرامكو السعودية» في تقديم تخفيضات على نفطها المتجه لآسيا والولايات المتحدة ولحقتها العراق والكويت وإيران، وهو ما أشعل النظرية. وتداولت وسائل إعلام غربية كثيرة هذه النظرية وروجت لها، إلا أن السوق والإعلام لم ينظر أحدهما لحقيقة ما يحدث حينها.
ففي سبتمبر (أيلول) وأكتوبر كان موسم صيانة المصافي في ذروته وكان الطلب على المواد البترولية ضعيفا في آسيا وكان هناك فائض كبير من الديزل في السوق بسبب زيادة إنتاج المصافي الصينية، إضافة إلى تقلص الفرق بين سعر برنت في لندن وخام دبي الذي على أساسه يتم تسعير النفط السعودي المتجه إلى آسيا. وهذه الظروف كلها أثرت بالأخير على الهوامش الربحية للمصافي، وهي ما جعلت أرامكو تقدم تخفيضات مساعدة منها للمصافي في آسيا حتى تحقق أرباحا أفضل وهو ما أوضحه مصدر مطلع لـ«الشرق الأوسط» حينها.
ونفى وزير البترول السعودي علي النعيمي في خطابه الذي ألقاه في مؤتمر عن الغاز الطبيعي في منتجع أكابلكو المكسيكي الشهر الماضي أن «الحديث عن حرب أسعار علامة على سوء فهم مقصود أو غير ذلك ولا أساس له من الواقع». وأوضح النعيمي أن «أرامكو» تضع أسعارها الشهرية لنفطها على «خطوات تسويقية راسخة لا أقل ولا أكثر». وشرح النعيمي للحضور في المكسيك كيفية ذلك، فهي تراعي أمورا كثيرة منها وضعية الهوامش الربحية للمصافي والعلاقة مع الزبائن والحالة التي تكون عليها السوق وبعض العوامل العلمية والعملية الأخرى.
وعادت نظرية حرب الأسعار للظهور مجددا هذا الشهر مع إعطاء أرامكو وإيران تخفيضات هي الأعلى منذ 14 عاما على نفطها لآسيا في يناير (كانون الثاني) وتقديم العراق تخفيضا هو الأعلى منذ 11 عاما على «البصرة الخفيف» ولحقتها الكويت بعد أن قدمت خصومات كبيرة على نفطها لشهر يناير القادم هي الأعلى منذ 6 سنوات. ونفت العراق بصورة رسمية أن تكون الخصومات دليل على حرب أسعار، ولكن يبدو أن السوق لا تستجيب إلا لما تعتقده.
* «الكونتانقو» ليس مؤثرا
* ولا تزال الأسعار تحت 60 دولارا «بجعة سوداء» لأسباب أخرى. فلقد كان هبوط أسعار النفط بين شهري سبتمبر وأكتوبر من العام الحالي مفهوماً بسبب اتساع الكونتانقو حينها رغم أن الكونتانقو هذا العام لا يزال عند مستوى أقل بكثير من الكونتانقو في عام 2008. إلا أن الكونتانقو في ديسمبر بسيط جدا، ولا يبرر لتخزين النفط كما يقول مصرف «غولدمان ساكس» في تقرير صدر منتصف الأسبوع الحالي.
ويشرح المصرف الأميركي العملاق موقفه بالقول إن أسعار بيع نفط غرب تكساس الفورية في سوق نايمكس في نيويورك هبطت إلى 58 دولارا أخيرا ولكن سعر بيعه المستقبلي بعد 5 سنوات عند 69 دولارا للبرميل، وهذا لا يقارن بالوضع الذي كانت عليه الأسعار في 2008 عندما كان سعر بيع غرب تكساس 33 دولارا وكان السعر المستقبلي 70.5 دولار.
وأضاف «غولدمان ساكس»: «السبب الذي جعل الكونتانقو حادا في عام 2008 هو أن مخزونات النفط في الاقتصادات المتقدمة، الأعضاء في منظمة (OECD) ارتفعت بنحو 60 مليون برميل بين نوفمبر (تشرين الثاني) وأكتوبر لذلك العام. أما في نفس الفترة في العام الحالي 2014 فقد ارتفع المخزون بنحو 18 مليون برميل. وهذه المستويات بعيدة عن إحداث تحدٍ لسعات التخزين وتتطلب كونتانقو عميقا».
ومن الأمور غير المفهومة في هبوط الأسعار الحالي أن العوامل الجيوسياسية لم تعد مؤثرة. ففي ليبيا انخفض الإنتاج إلى نحو 350 ألف برميل هذا الأسبوع من 850 ألف برميل مطلع الشهر الحالي بسبب المواجهات المسلحة بين الحكومتين المتناحرتين على السلطة هناك على الموانئ النفطية. وأعلنت الولايات المتحدة أنها تجهز جولة جديدة من العقوبات الاقتصادية على شركات النفط الروسية، ومن بينها «غازبروم»، إذا ما قطعت إمدادات النفط إلى الاتحاد الأوروبي.
ورغم كل هذه العوامل الجيوسياسية إلا أن السوق لا تستجيب ولهذا تقول «بتروميتركس»: «مع حمى العقوبات والحظر وبقاء سعر النفط عند 60 دولارا، فإن السوق قللت من أهمية العوامل الجيوسياسية في احتساب سعر البرميل».
وحتى بالنسبة لشخص مثل المؤرخ النفطي الشهير الأميركي دانيال يرغن، الذي يرى أن دور «أوبك» انتهى في السوق بعد قرارها الأخير فإن وصول النفط إلى 60 دولارا لا يبدو مفهوما.
ويقول يرغن في مقابلة مع قناة «بلومبيرغ الإخبارية»: «بالنسبة لي فإن دخول أسعار النفط في مستوى 60 دولارا هو علامة على أن السوق انفصلت عن الاقتصاد».
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي