قراءة حتى الاشمئزاز
أنا من مُتابعي موقع "الجزيرة نت"، وأعتبِر هذا الموقع من المواقِع المحترَمة التي استطاعَت كسْب الثِّقة على المستوى العربي؛ لمصداقيَّتها ومواكبتِها للحدَث، وفي إتاحتها لوجهات النَّظر المتغايرة للظهور للعلَن؛ لتوضِّح كلٌّ منها أفكارَها وما تراه يَنطبق عليها، ولا يتعصَّب هذا الموقع لجهةٍ دون أخرى.
ولكن موقع الجزيرة نت بدأ بتَنفيذ فكرةٍ جديدة؛ وهي استِطلاع آراء مثقَّفي العالم العربي حول الرَّبيع العربي في زاوية ثقافة وفن، وفي الحلقة الثانية منه وقبل أيامٍ أجرى الموقعُ مقابلةً مع هيفاء البيطار الروائيَّة السورية، التي كان عنوان مقابلتها هو: "الربيع العربي عرَّى المثقَّفين المقاولين"، تحدَّثتْ في المقابلة عن الدور الضَّئيل للمثقَّفين في الربيع العربي، ووصفتْهم بالمنافقين، وفنَّدتْ أدوارَهم التي لَعبوها في هذه الفترة الحَرِجة التي يمرُّ بها العالَم العربيُّ، لتَتراوح ما بين الصَّمت التامِّ على ما يجري، أو الهروب إلى الخارج وإطلاقِ عبارات رنَّانة وانتقاد ما يجري، إلى اللجوء إلى ممالَأة الأنظمة على ما هي عليه، أو الانتِفاع من الثَّورات التي انطلقَت.
حتى وقت قريب لم أكن أعرف شيئًا عن هذه الكاتِبة، التي أخجَل أن أقول: إنَّني أعرفها، وما دَفعني للبحث عنها والاطلاع على كِتاباتها هي كثرةُ ما أتعثَّر باسمِها في مواقع الإنترنت، والــ"الزيطة" التي رافقَت صدورَ روايتها "امرأة في الخمسين". فقمتُ بتنزيل إحدى رواياتها وهي رواية "امرأة من طابقين"، وبدأت أطَّلع عليها.
حقيقة لم أستطع إكمالَ قراءتها، وانتقلتُ بشكل سريعٍ لنهايتها لأجِد الكاتبة تصِف بطلَةَ روايتها بعد العلاقات الجنسيَّة الكثيرة التي قامَت بها مع رجالٍ كُثر (خارج إطار الزواج) تصِف نفسَها بأنَّها عادَت نقيَّةً بعد فشلها في تحقيق النَّجاح والشهرةِ بطُرق الإغراء الكثيرة التي أبدعَت فيها البطلةُ، والتي كان آخرها مع ناشِر مرشِّح لكتاباتها، علاقات أبدعَت الكاتبة في وصفِها بدقَّة. قمتُ بقذف الرواية في سلَّة المحذوفات بعد أن سيطَر الاشمئزاز على نفسي، الأسلوب الأدبي للرِّواية جميل جدًّا، يَجذبك لتتابع القراءةَ، ولكن تَكمن أفكار مشوَّهة، مُقرفة لأبعد الحدود خلف ذلك التَّنميق الأدبي.
التركيز الأكبر لدى الكاتِبة كان أنَّ المرأة جسَد، تستغلُّه صاحبتُه لتحقيق شَهواتها المستعرة للوصول لِمأربها، وتَحقيق النَّجاح والشهرة من خلاله.، ورغبات متصارعة ترضخ صاحبتها لتلبيتِها.
ما أثار استغرابي جدًّا أنَّ هيفاء البيطار انطلقَت في لقائها مع الجزيرة نت تَنتقد دورَ المثقَّفين العرب في ثورات الرَّبيع العربي، وتدَّعي بأنَّ هذه الثورات قد عرتهم وأسقطَت ورقةَ التوت عن سَوْءَتِهم؛ لأنَّ دورهم لا يَكاد يُذكر في تَعرية الأنظِمة المستبدَّة، هيفاء البيطار التي تتعرَّى في كتاباتها من الدِّين والخُلق وكل ما اتَّفق عليه المجتمعُ من الثوابت التي تميِّزه. وتتمرَّد الكاتبة وتحارب أيَّ قيد يقيِّد حريَّةَ الإنسان من الانطلاق كالبهائم في هذا العالَم، تطالِب دومًا وبإصرار بالحريَّة الجنسيَّةِ للمرأة، وفي ذات الوقت تدَّعي أنَّها تدافع عن حقِّ المرأة وحريَّتها، هي تسميها حريَّة؛ التحلُّل والانعِتاق من قيود الدين والأخلاق والأعراف هي حريَّة، ويسمِّيها كلُّ عاقل تَحلُّلًا من الضوابط التي تضبط إنسانيَّة الإنسان.
تخيلوا معي لو أنَّ الكون يسير بشكلٍ فَوْضوي دون ضوابط تنظِّمه وتنظِّم العلاقات والارتباطات التي تَدور فيها الأشياء الكثيرة جدًّا، التي لا يُمكن على بشَر إحصاؤها، كيف سيكون الحال حينها يا تُرى؟ هل ستستمر حياة؟ ولو افترضنا جدلًا بأنَّها استمرَّت، هل بإمكانها أن تتطوَّر وتتقدَّم وتصِل إلى ما وصلَت إليه الآن؟
هيفاء بيطار لِمن لا يَعرف كتاباتها تَثور على الذكوريَّة في المجتمع العربي، التي تَفرض القيودَ على الأنثى، وتَترك سقفًا عاليًا من الحريَّة في المقابل للذُّكور، وفي نفس الوقت تَعتبره ظلمًا (تعبِّر عنه في رواياتها كالرِّواية التي تحدَّثتُ عنها في بداية مقالي) على الأنثى أن تُمنع من الاقتراب من الذكور وإقامة علاقات معهم.
وبعد كل هذه الأفكار الشوهاء التي تَبثها هيفاء بيطار، تَراها تَعتبر نفسَها صاحبةَ رسالة لكسر صمت النساء (كما قالت في أحد اللِّقاءات مع الجزيرة نت)، التي لم أجِدها تَقف في وجه النِّظام المستبد ضد اغتصاب النِّساء وتعذيبهنَّ في السجون، وإلقاء جثثهنَّ عاريةً تحمل أرقامًا مكتوبة على الجلد (كالصور التي كثيرًا ما سُربت وشاهدها العالَمُ من شرقه إلى غربه)، لم أرَها تقِف في وجه طغيانٍ رمَّل المرأةَ وشرَّدها واضطرها للجوء إلى دول غربيَّة، اجتازت بحارًا ومناطق ثلجية وتعرَّضَت خلال ذلك للتحرُّش والاغتصاب والموتِ غرقًا في أحيان كثيرة.
ما أعوزنا لامرأة تُدافع عن حقِّنا - نحن النِّساء - في العيش بكرامةٍ وعزَّة، ونَقاء وطهر، عزيزات مكرَّمات، تَكتب عن همومنا، وليس امرأة تُعين الفاسِدين من الرجال ممَّن يدَّعون أنَّهم مثقَّفون لإظهارنا جسدًا ومتعةً وسلعة رخيصة.
رابط الموضوع:
http://www.alukah.net/literature_language/0/97905/#ixzz3zzMaTHAY
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي