(لم أعد قادرا ً على العيش مع نفسي هذا ما كنت أفكر به ) هكذا يبدأ إكهارت تول مؤلف كتاب قوة الآن سرد قصته و يتابع فيقول : فجأة أصبحت مدركا ً لمدى خصوصية الفكرة :هل أنا شخص واحد أم شخصان؟ إذا لم يكن بمقدوري أن أعيش مع نفسي فمن المفترض أني شخصان .. و بعد كثير من التأمل اعتبرت أن واحدا ًمن هذين الشخصين حقيقي) .
إكهارت تول حين وصل إلى أقصى درجات الألم و لم يعد قادرا ً على الاحتمال كان على وشك أن يقع في هاوية الإقدام على الانتحار لكن الألم الشديد حين تجاوز حدوده المعقولة و في لحظة غريبة و خاطفة تحول إلى حالة مدهشة من التنوير الروحي
يؤكد لنا إكهارت تول إن ضغط الألم الشديد أجبر وعيه على الانسحاب من حالة التطابق التي كان يعيشها مع تلك النفس التعيسة و المخيفة إلى حد بعيد و التي كانت صنيعة عقله المضطرب المليء بالخوف و القلق و التوجس و جعله يدرك أن هذا الكائن التعيس و المتألم الذي يسكن جسده ليس بالضرورة هو لأنه شخص أكبر بكثير من هذا القابع تحت وطأة التوتر و التفكير المستمر و استعادة الماضي و التوجس من المستقبل و حين تلاشت تلك الضجة العقلية استطاع أن ينصت إلى العالم المفعم بالهدوء الداخلي و السلام حيث لا ألم و لا خوف ..
بوذا يقول : التنوير هو نهاية الألم ..و بذلك يخبرنا إن التنوير حالة ليس فيها ألم لكنه لا يخبرنا ماذا هي و يعود ويقول :
الألم هو الرغبة إذن حيث هناك تنوير روحي لا يوجد ألم ناتج عن الرغبات و من إلحاح هذه الرغبات على العقل و بالتالي العبودية للتفكير الدائم بهذا الرغبات ..
و يعود إكهارت تول ليعرّف التنوير فيقول : التنوير هو اتحاد مع الحياة والعالم و مع نفسك الأكثر عمقا ً إنه نهاية العبودية للتفكير الذي لا ينقطع .
و هذه ليست دعوة إلى الانحدار إلى سوية عدم التفكير وإنما هي دعوة لتجاوز التفكير بما لا نفع من التفكير به والتسامي فوقه و أنت حين تفعل ذلك ستستخدم عقلك بطريقة فعالة و مركزة حين تحتاجه وذلك في خدمة أهداف عملية و واقعية لكن هذا الحوار العقلي هو حوار إرادي بناء و ليس هواجس مدمرة لا نفع منها
هذا الكتاب الساحر هو دعوة إلى الحياة بكل سحرها و زخمها , دعوة لقبول اللحظة الراهنة كما هي و اعتبارها هدية من السماء حتى لو كانت ليست ما نريد تماما ً لأن هذه اللحظة هي الحقيقة الوحيدة التي نستطيع الانطلاق منها فالماضي بكل عذاباته و أفراحه هو في هذه اللحظة الحاضرة وهم غير موجود و المستقبل سواء كان يحمل الوعد بالخلاص أو الخوف و الضبابية هو سراب و أيضا ًغير موجود .. الحقيقة الوحيدة هي في الآن .
و العيش في الآن هو من أكثر الأمور المتعلقة بالفطرة و بأن تكون الطفل الذي كنته قبل أن تتعلم القلق فالأطفال سعداء دائما ً لأنهم لا يعلمون أن عليهم أن يقلقوا من أي شيء و يثمّنون كل ما يتعثرون به و يعتبرونه هدية و لا يعرفون عذابات الفقدان التي تشوه حياة الكبار و تحرمهم عيش اللحظة لأنهم يتصورون غدا ً قادما ًيفقدون فيه من يحبون و كلنا شاهد يوما ً طفلا ً يغسل يديه بالماء و الصابون و يراقب الرغوة على يديه بعينين داهشتين كما لو أنه يشاهد معجزة و الابتسامة الكبيرة على شفتيه نحتاج نحن الكبار إلى نجاحات كثيرة و هدايا ثمينة كي نبتسم مثلها .. و ليس الأطفال فقط من يتقنون الحضور في الآن هناك الديانة البوذية التي هي في الجوهر ممارسة نفسية تعتبر الحضور المستديم والدائم هو أحد أهم الوسائل لتوجيه مشاعر المرء والارتقاء بها وهذا الحضور الكلي هو الهدف الذي كان يجعل بعض معلمي الزنية يتسللون من خلف تلامذتهم و يباغتونهم بضربة من عصاهم لاختبار درجة حضورهم ..حتى أن البوذيين يبتسمون لأزهار الطريق و يقولون أشياء جميلة في عقولهم عن أشياء يصادفونها في طريقهم إلى أعمالهم إذ أنهم يؤمنون بان كل شيء في الوجود له روح و هي جزء من روح الله العظمى و كل شيء له كينونة قائمة بحد ذاتها لولاها لاندثر و تلاشى و هذه الروح تستحق الالتفات إليها و الشعور بها و هذا مستحيل إلا في حالة الحضور الكلي .
إذن السر هو في أن تكون داخل جسدك و مدركا ً اللحظة التي أنت فيها و تفاصيلها و كل ما يحيط بها أي أنت تكون كامل الحضور و يكون هذا الحضور هو حالة من الانتظار و التوقع لحدث ما قد يطرأ في أية لحظة و إن لم تكن واعيا ً له قد تفوته..قد تكون اللحظة الحاضرة هي فراشة صغيرة تفرد جناحيها تستعد للطيران تعطيك درسا ً مجانيا ً في روعة أن تكون على قيد الوجود و الحضور .
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي