غادة الخوري
ما لهذه اللحظة العربية الراهنة تترنح بين الحياة والموت؟ كأن “لا حياتنا حياة ولا موتنا موت”… هل بحكم العادة نستمر؟ وهل في استمرارنا دفق أم تكرار أم تحجر!؟ أي لحظة هذه، لا حضور لنا فيها ولا غياب…. ترنح في الـ “ما بين” الذي يستولد فراغاً خصيباً.
يلّح السؤال عن سبب هذا الخلل، لكن بأي فكر نسأل؟ بفكر الماضي أم بتوجس من المستقبل؟ وبدل أن نجهد في الحفر عميقاً او حتى وقوفاً في مواجهة شجاعة مع ضعفنا، تخترقنا بسهولة قصوى أجوبة من خارج ثقافتنا ومعاناتنا وتاريخنا نتبناها من دون غربلة وباستسلام كلي للجاهز والسريع الهضم.
لم تستكن بعد ارتدادات الهزة “الوجدانية” التي أصابتنا بفعل كتابين صدرا قبل سنوات قليلة! “قوة الآن” لاكهارت تول و “السر” لروندا براين. لم تخفت حالة التهافت أو الانبهار بهذين “الانجازين” وكأنهما فتح في الثقافة الانسانية! كأننا شعوب بلا ذاكرة وبلا حضارة وبلا فكر! ماذا في كتاب “السر” غير ما تكتنزه ثقافتنا وموروثنا الشعبي او ادياننا؟؟ ”بالشكر تدوم النعم؟ اعرف نفسك أولاً؟ اطلبوا تجدوا؟ اقرعوا يفتح لكم ؟ كن جميلاً لترى الوجود جميلاً؟” لا أختزل “السر” هنا، بل اختصر عناوين “الاسرار” في هذا “الكتاب- الحدث” الذي صار ينام تحت كل وسادة عربية! ألم نقرأ كل هذه “التعاليم” في كتبنا السماوية او في خاطرة او قصيدة او رواية او قصة او حتى في حكايات جداتنا؟؟ حسناً… قد نصنف هذا الوله بكتاب “السر” عودة الى الأصل… صحوة ما… تماثل الذاكرة من خرف ظرفي! لكن اذا تأملنا ما فعله كتاب “قوة الآن” والسيل الجارف من المقالات والتعليقات والردود التي “تمجد” الانعتاق من كل ألم لبلوغ ذروة السلام الداخلي، يسقط استغرابنا من الاثر “المدوي” الذي تركه “السر” في نفوس البعض.
من شفير الانتحار أطل علينا اكهارت تول بقوة الآن! كلمنا عن رغبات تؤلمنا كلما ألحت علينا شهوة أو ذكرى أو خوف أو أمل. لم يرد لنا أن نتمزق بين ماض خارج سطوتنا ومستقبل لم يحن وقته. “لا تدعوا العقل يضطرب” قال. اذهبوا الى المساحة الخاوية من أي ألم أو خوف. أقلعوا عن التفكير وتأملوا “الآن”، عيشوا كينونة اللحظة وكل ما عداها وهم! لا ألم في التخطي، لا خلاص من الخوف الا بالتحرر من عبودية التفكير الملحاح برغبات، ذكريات، مخاوف وأحلام لا تستدعي الا الألم والعذاب!
كونوا أطفالاً يقول تول. اشهدوا لمعجزة اللحظة وافرحوا بها كأنها هدية… اصغوا الى الصوت في الرأس. اتركوا الافكار تعبر ولا تحكموا عليها الى ان تفقد سلطتها عليكم وبسرعة تهمد لأن عقولكم لم تزودها بالطاقة عبر التماثل معها.
لا شيء سوى النوايا الصافية حدت بتول الى نقل تجربته الشخصية في بلوغ التنوير الروحي عبر التحرر من العقل او التفكير اللارادي. تجربته هذه لا جديد فيها بل استكمال أو تنويع على تعاليم اليوغا والريكي وكل تقنيات التأمل على اختلافها والتي اجتاحت منطقتنا وشهدت نجاحاً منقطع النظير في استقطاب “تلاميذ نجباء” يتلقفون بجوع مزمن كل ما يثير فيهم حلم السعادة!
لكن الى أي مدى يحق لنا نحن الانعتاق من الشعور بالألم على طريقة تول وسواه؟ هل آن الأوان لنتخطى تاريخنا الماضي والراهن والذي قد لا يأتي؟ هل يحق لنا الاحتفاء بالآن؟ وأي معجزة أو هدية يمكن ان نشهد عليها في لحظة احتضار عربي طال أمده؟؟؟ ما اللحظة العربية الآن؟ ما فئة دمها؟ ما لونها؟ وأي تنوير يأتي في زمن يمتطي خيباتنا مهرولا الى حتفه من دون وصول؟؟؟ ألسنا مطالبين اليوم وفي هذه اللحظة (!!) بتأمل كينونتنا أولاً لنستشرف صيرورتنا التي لم نجرؤ بعد على مقاربتها؟ الى متى سنستمر في المراوحة على عتبة قضايانا بحسرة وحنين وبكاء على ماض لم ننفض غباره بعد ولم نرمِ منه ما عفن وفسد؟ الى متى يستمر التغني والتمني واستجداء حياة تأتينا صدفة ونحن غافلون؟ كيف لنا أن نختبر قوة الآن ونحن لم نحترف بعد لغة الصمت ولم نتدرب على التنفس عميقاً بين خطأ تاريخي وقرار مصيري؟ لا مرؤة فينا تشرئب الا على المنابر حيث نشحذ حروف الهجاء او المديح وننمق لغتنا بالاستعارة والتشابيه لنرتق خطاباتنا الرثة ونستر أخطاءنا ونحجب البصيرة والضمير بضوضاء التصفيق وسحر الصورة…
ماذا تعني تجربة اكهارت تول لعربي لم يسأل نفسه بعد: هل أنا انسان كان أو سيكون؟ هل أعيش واقعي فعلاً أم تأويلاً؟ هل أصنع زمني أم أجتر بؤسي؟ هل أحتاج متل تول الى التحرر من عبودية التفكير أم أن سطوة اللاعقل واللاتفكير هي مقتلي!
ألم نرتجي سلاماً زائفاً، ظرفياً ومعيباً حين اخترنا التنصل من أعباء فرضت علينا بفعل خنوعنا فسارعنا الى القائها على الآخرين؟ ألم نفقد احساسنا بالألم لشدة ما كتمنا او أجّلنا غضباً مخافة خسارة المزيد؟
التنوير الروحي حالة متقدمة لا نستحقها الآن قبل أن تتضح رؤيتنا لما وصلنا اليه من تمزق وتفكك! كيف لنا ان نتخطى آلامنا اذا تنكرنا لها؟ هل نتخطى ما لا نقوى على رؤيته وتحديد معالم نشوئه وأسباب تناميه؟ متى نتخطى الانفعال الى فعل الانقلاب على الذات؟ متى ننبش قبورنا الداخلية ونزيح عنا هذا الركام الذي بنينا عليه أمجاداً باطلة؟ ليس المطلوب الاسترخاء الآن قبل ان نزلزل الارض من تحتنا. ليس المطلوب الآن الا القسوة ومحاكمة الذات، ثورة على البلادة، على وهم الطمأنينة. لم يكن شيء على ما يرام في ماضينا ولن يكون الآن ولا بعده الا اذا تعاملنا جذريا مع ما يحول بيننا وبين أنفسنا وواجهنا ما نخاف منه بدل تعزية هذه النفس البائسة بأن التوقيت غير ملائم للتغيير فنمعن في تمويه سباتنا المزمن وإطالة عمره. هي مواجهة تقارب الموت، حرائق تبعث من رمادها حياة أصفى تبدد الأمل الكاذب وتؤسس للصدق في أرضنا التي سئمتنا جبناء. الدخول في الفاجعة وقبولها حتى نهاياتها هي اللحظة الأقوى والمطلوبة الآن لنسقط كل أقنعتنا ولنعري وجوهنا الحقيقية. عندها فقط ندرك أن ما نخاف منه حرصاً على حياتنا هو نفسه ما يقتل حياتنا.
“لا يُغلب الخطر إلا بالخطر”، الذهاب الى الأطراف القصوى هو المطلوب الآن لنهدم كل ما يهدمنا. اكهارت تول قال للألم أن ينتحر وظفر بحياته، لنقل نحن : حياً نريدك يا ألم لنتعلم ألا نكررك!
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي