كيف يعمل العقل الباطن (اللاشعور)
تتحدى الدراساتُ الكمّية المُدقَّقة للعلاج النفسي
بعض الآراء الشائعة عن الكيفية التي يعمل بها
العقل الباطن والطريقة التي يتقدم بها المرضى تحت العلاج.
كيف يعمل العلاج النفسي psychotherapy؟ في السنوات العديدة الماضية عثرت مع زملائي من فريق بحث جبل صهيون للعلاج النفسي بسان فرانسسكو على بعض الإجابات المثيرة للدهشة عن هذا السؤال وعن سؤال آخر وثيق الصلة به ولا يقل عنه عمقا ـ ألا وهو كيف يعمل العقل الباطن؟
يسود الاعتقاد أنه ليس باستطاعة البشر أن يؤدوا من دون وعي (شعور) الأنشطة الذهنية نفسها التي يؤدونها وهم في حالة الوعي، مثل رسم الخطط وتقدير المخاطر. بيد أن دراستنا للمرضى تحت العلاج النفسي تشير إلى أن البشر في الحقيقة بإمكانهم، ومن دون وعي منهم، التفكير وتوقع النتائج وأخذ القرارات ورسم الخطط وتنفيذها. وأكثر من ذلك أن المرضى يستعينون بهذه القدرات في سعيهم لشفاء أنفسهم، أي سعيهم للتحكم في معتقداتهم ومشاعرهم وسلوكياتهم اللاعقلانية.
إن معظم الآراء الخاصة بعمل العقل الباطن والعملية العلاجية قد طورها المعالجون النفسانيون على أساس من الانطباعات السريرية (الإكلينيكية) المُسجَّلة على هيئة ملاحظات أو المُسترجَعة من الذاكرة. كان هذا التوجه خصبا انبثقت منه آراء جديدة، ولكنه عجز عن تقييم الأهمية النسبية لهذه الآراء. ومن ثم ذهب فريق بحث جبل صهيون للعلاج النفسي، ذلك الفريق الذي أشارك في إدارته مع زميلي ، إلى أبعد من الأسلوب الإكلينيكي، مفضلا بدلا من ذلك الاعتماد على البيانات الثابتة والقيام بفحوصٍ لكمية مدقَّقة سبق إعدادها لاختبار فرضيات محدَّدة.
ركزت دراساتنا على مقارنة مزايا فرضيتيْن من فرضيات التحليل النفسي (الفُرْويْدي Freudian) عن طبيعة عمل العقل الباطن. والفرضيتان يمكن تقييمهما تجريبيا (خِبْرِيًّا) empirically لأنهما يتيحان لنا تنبؤات محددة قابلة للاختبار عن الطريقة التي يسلك بها المرضى في أثناء العلاج.
تفترض نظرية التحليل النفسي أنه بدءا من الطفولة المبكرة تُدْفَن «المحتويات الذهنية» mental contents القوية (الأفكار والمشاعر) التي لا تتقبلها الذات الواعية تحت ما يُعرف بحاجز الكبت repression barrier الذي يضم القوى التي تحول دون وصول المادة المكبوتة إلى حد الوعي. بيد أن المادة المدفونة ـ التي كان يعتقد في أول الأمر أنها تتكون أساسا من نزوات (دوافع) impulses جنسية وعدوانية والتي استنتج فيما بعد أنها تشمل كذلك المعتقدات والأحكام وبعض المشاعر مثل الخزي (الخجل) والشعور بالذنب ـ تستمر في تأثيرها على المزاج والسلوك. وبذا فهي تضيف إلى الأعراض التي تدفع بالبشر إلى العلاج، مثل الاكتئاب الذي لا يمكن تفسيره، والقلق الذي لا أساس له والسلوك الصعب التكيف وكلها على ما يبدو مستعصية على التحكم الواعي.
ولأن حاجز الكبت يحد من معرفة البشر الواعية بالأسباب التي تتحكم في تصرفاتهم أو مشاعرهم وبذا يحد من تحكمهم في أجزاء من شخصياتهم فلا بد أن تكون الركيزة الرئيسية للعلاج التحليلي النفسي هي مساعدة المرضى على التخفيف من مكبوتاتهم ومواجهة ما هو مكبوت. فيطلب المعالِج إلى المرضى أن يقوموا بما يسمى بالتداعي الحر للأفكار free-associate، أي أن يُعبِّروا في كلمات عن أي أفكار أو صور أو ذكريات ترد على الخاطر. هذه التداعيات تؤدي إلى إيجاد المفاتيح التي تساعد على فهم دوافع المرضى واهتماماتهم غير الواعية. وبذا يمكن للمعالِج أن يفسر ما يصرح به المرضى وأن يُظهِر ما يبدو أنه دفين من الرغبات والمخاوف والمعتقدات أو الشعور بالذنب أو ما شاكل ذلك. وعلى ما يبدو فتفسيرات المعالِج تساعد على تبصير المرضى بآثار العقل الباطن في أفكارهم ومشاعرهم وسلوكهم الواعي.
وبالرغم من تطابق الفرضيتين اللتين قمنا بفحصهما مع المبادئ الجوهرية لنظرية التحليل النفسي، فإنهما تقدمان افتراضات مختلفة اختلافا بيِّنًا عن درجة التحكم التي يمكن للبشر ممارستها على عمل العقل الباطن. فالفرضية الأولى والأكثر تأثيرا وهي ما أدعوه بالفرضية الديناميكية dynamic hypothesis وتشتق أساسا من كتابات فرويد المبكرة، وتفترض أن البشر لا يملكون إلا القليل من التحكم أو لا تحكّم مطلقا على حياتهم العقلية اللاشعورية. وتطرح هذه الفرضية فكرة تكوين العقل الباطن في جُلِّه من نوعين من القوى. فمن جهة هناك الدوافع الجنسية والعدوانية التي تسعى نحو الإشباع وتندفع نحو الإحساس الواعي، ومن جهة أخرى هناك القوى المكبوتة التي تقاوم هذه الدوافع. وتتفاعل الدوافع والمكبوتات ديناميًّا كما تتفاعل قوى العالم المادي. فالقوتان المتساويتان والمتعارضتان مثلا قد تلغي الواحدة منهما الأخرى وقد تقهر القوة الشديدة قوة أخرى أضعف منها. ومن خلال تفاعلاتهما تحدد هاتان القوتان السلوك.
أما الفرضية الأخرى، التي أسميها فرضية التحكم غير الواعي (أو ببساطة أشد، فرضية التحكم control hypothesis) فتفصِّل آراء فرويد التي طرحها بإيجاز في كتاباته المتأخرة. وتفترض أن البشر بمقدورهم التحكم بِقَدْرٍ في عمل العقل الباطن. ووفقا لهذه الفكرة، يحتفظ البشر بالدوافع وغيرها من المحتويات العقلية مكبوتة ليس لأن قوى الكبت هي بالضرورة أقوى من الدوافع اللاواعية ولكن لأن الأفراد يمكن أن يقرروا ومن دون وعي (بالتخمين أو التقدير من الخبرة الماضية أو بتقدير الواقع الحالي الحي) إن الإحساس بما هو مكبوت أو التعبير عنه قد يهدد بالخطر. فقد يقرر المرضى مثلا أن البَوْح بالحب لشخص آخر ربما يؤدي إلى الصد أو الذلة والمهانة.
كما تفترض فرضية التحكم أن المرضى تحت العلاج تكون لديهم رغبة لاواعية قوية للتحسن، لذا فهم يرغبون من دون وعي (وكذلك بوعي) في أن يطرحوا المحتويات العقلية المكبوتة وأن يكتشفوا أهميتها. ومن ثم فقد يقررون بدون وعي منهم التحرر من المكبوتات والسماح للخبرة (المادة) المخبوءة أن تُسْفِر عن ذاتها، هذا إذا شعروا أن ذلك لا يشكل خطرا عليهم.
قارنّا كلا من الفرضية الديناميكية وفرضية التحكم بفحص التفاسير المختلفة التي تطرحانها لبعض الأحداث التي تحدث عادة في أثناء العلاج ومن ذلك حين يصبح المرضى تلقائيا مدركين للخبرة اللاواعية (مثل العداء نحو الإخوة والأخوات أو الأقرباء) من دون أن يكون قد سبق وذكرها المُعالِج.
وفي شرح ظاهرة العلاج هذه، تُبرز الفرضيتان بعض الملامح الخاصة للعلاقة بين المريض والمعالج. فالعلاقة مهنية وسرية خالصة وهي لا تتجاوز حدود العمل الرسمي، كما يتخذ المعالج فيها نحو مرضاه موقفا حياديا تحليليا. بيد أن كل فرضية تركز على مظهر مختلف من هذه العلاقة.
تركز الفرضية الديناميكية على الإحباطات التي يثيرها موقف المعالج. فتفترض أنه في أثناء العلاج يصبح المعالج هدفا لدوافع المريض اللاواعية، فقد يُوجَّه العِداءُ المكبوت عند المريض تجاه قريب منافس له إلى الطبيب المعالج نفسه لدرجة يصبح معها المريض، من دون وعي، غاضبا من المعالج. بيد أن دوافع المريض اللاواعية ربما تصاب بالإحباط نتيجة حَيْدة المعالج وبذا تشتد في عنفها ـ مثلها مثل الجوع إذا لم يتم إشباعه زادت ضراوته. وتنطلق الدوافع المُحَبطَةْ بضغط متزايد نحو مستوى الوعي لكن الضغط المعاكس لحاجز الكبت يحول في أغلب الأحوال بينها وبين الوصول إلى مستوى الإدراك.
ووفقا للفرضية الديناميكية قد يصل الدافع المُشْتَدّ intensified impulse تلقائيا إلى حدود الوعي على الرغم من حاجز الكبت بطريقتين. في الأولى قد يصبح الدافع، مقارنة بقوى الكبت، قويا جدا لدرجة يقهر معها هذه القوى، ويخترق حاجز الكبت. فقد يثور المريض مثلا كردة فعل على استثارة ولو طفيفة من جانب الطبيب المعالِج.
كما قد يدخل الدافع المُحبَط والمُشتَد إذا كان مستترا ـ نطاق الوعي بحيث يصبح ما يتم الوعي به صورةً جدّ مخففة من الدافع الأصلي. وبما أن هذا التخفي يستر شدة الدافع الأصلي وقوته الدافعة فإن الشكل المخفف منه يفلت من قبضة قوى الكبت المعتادة. مثال ذلك أن يُدْخِلَ الشعورُ بالغضب من الطبيب المعالج نطاق الوعي لدى المريض على شكل رغبة جامحة حمقاء منعزلة ظاهريا، إلا وهي الإيقاع بالطبيب.
تم تقويم الفرضيتين المتنافستين الخاصتين بطريقة عمل العقل الباطن باختبار تنبؤاتهما عن الطريقة التي يشعر ويتصرف بها المرضى حين يصبحون مدركين تلقائيا لدافع لاواع لم يسبق للمعالج ذكره. وتؤمن الفرضية «الديناميكية» بأن الدافع المكبوت الصعب الاحتمال يمكن أن يصل تلقائيا إلى حدود الوعي بطريقتين. فيمكن أن يقهر الدافع قوى الكبت (في اليسار) وفي هذه الحالة تتنبأ الفرضية بأن الصراع بين الدافع والمكبوتات التي يثيرها سيصيب المرضى بالقلق. وقد يصبح الدافع أيضا متخفيا (في الوسط) ويصل إلى حدود الوعي وذلك بإفلاته من ملاحظة قوى الكبت. وعلى ما يبدو فإن المرضى سيشعرون حينئذ بقليل من القلق (لأن الدافع لن يدخل في صراع مع المكبوتات) بل وسيعجزون عن الإحساس بالدافع غير المتخفي إحساسا قويا (حيا). وتؤمن نظرية «التحكم» (في اليمين) بأن الدافع اللاواعي سيصبح واعيا حين يتخلص المرضى من المكبوتات وذلك بعد أن يقرروا عن طريق التفكير اللاواعي أنه بإمكانهم الإحساس بالدافع بأمان. ويُتوقَّع من المرضى أن يشعروا بقليل من القلق وأن يحسوا بالدافع غير المتخفي إحساسا قويا. إن اكتشافات المؤلف تؤيد فرضية التحكم.
وتتنبأ الفرضية الديناميكية بأنه في حالة ظهور دافع نجح في قهر قوى الكبت، فإن هذا الدافع سيصارع هذه القوى حينما يصل إلى حدود الوعي ومن ثم يصبح المريض متوترا مضطربا. كما تتنبأ الفرضية بأنه إذا ظهر دافع لأنه قد تم تخفّيه فإنه يظهر من دون أن يسبب قلقا. ولأن المرضى في حالة التخفي لا يكونون على وعي تام بقوة الدافع الأصلي، تتنبأ الفرضية بأنهم لن يحسوا بالدافع إحساسا قويا (حيا).
يلزمني هنا أن أنوه بأن كلمة «يحسوا» لها معنى محدد مبني على جهاز مقيس يعرف بمقياس الإحساس Experiencing Scale. يقال إن البشر يحسون بفكرة أو شعور إحساسا قويا إذا هم أفصحوا عنها بوضوح وركَّزوا على فهم دلالتها. أما الأفراد الذين يتصف كلامهم بالغموض والذين تبدو كلماتهم بعيدة عن مشاعرهم فيقال إنهم يحسون بالأفكار والمشاعر إحساسا ضعيفا.
وعلى النقيض من الفرضية الديناميكية، تؤمن فرضية التحكم ـ بعيدا عن إحباط المريض ـ بأن موقف المعالج غير الانتقادي ووعده المريض بالسرية والكتمان سيضفي جوا من الأمان. لذلك فقد يستنتج المرضى لاشعوريا بأنه في مقدورهم وبكل أمان أن يدفعوا الخبرة (المادة) المكبوتة إلى مستوى الوعي. مثلا الشخص الذي اعتاد دوما أن يكبت الدوافع العدوانية خشية أن يثير الرغبة في الانتقام منه، قد يقرر ـ تحت العلاج ـ أنه قادر على التعبير عن غضبه من الطبيب المعالج من دون أن يناله عقاب. وبذا فقد يزيح عنه المكبوتات التي تقاوم هذا الشعور بالغضب.
وتفترض فرضية التحكم أنه بما أن المرضى لا يدفعون بالخبرة المكبوتة إلى الظهور إلا بعد تغلبهم لاشعوريا على خوفهم من التَبِعات، فإنه لن يعتريهم الاضطراب حين يحسون بهذه الخبرة، علاوة على ذلك فيما أنه لا يلزمهم إخفاء أفكارهم ومشاعرهم فإنهم سيكونون قادرين على مواجهتها وتأملها، أي بعبارة أخرى سيحسون بها إحساسا قويا.
مجمل القول، إن التنبؤات المتنافسة متميزة تماما. فتتنبأ الفرضية الديناميكية إما بشدة الاضطراب أو ـ وهذا في حالة الدافع المتخفي (المستتر) ـ بقدر قليل من الاضطراب المصحوب بدرجة طفيفة من الإحساس بالمادة الظاهرة. وعلى النقيض تتنبأ فرضية التحكم بقدر قليل من الاضطراب المصحوب بالإحساس القوي.
وحتى نُقَوِّم صحة كل من التنبؤين قمنا بفحص الطريقة التي يعمل بها العقل عند مريضة واحدة، هي السيدة C في أثناء التحليل النفسي psychoanalysis، وهو شكل مركّز من أشكال العلاج يزور فيه المريض المُحلِّل أربع أو خمس مرات في الأسبوع (المحللون هم المعالجون النفسانيون الذين تم تدريبهم تدريبا خاصا لعدة سنوات في النظرية الفرويدية والمنهج الفرويدي).
كان عملنا الأساسي في هذه الدراسة جد بسيط من ناحية المفهوم: وهو تحديد مستويات الاضطرابات عند السيدة C وإحساسها لحظة وعيها لخبرةٍ سبق كبتُها. بيد أن هذا المشروع كان سهلا من الناحية النظرية، صعبا من الناحية العملية، كما يتضح هذا من الوصف الشديد البساطة للطرائق التي اتبعناها وهي دقيقة وتستغرق وقتا طويلا.
في كل الدراسات التي أجريناها، جُمعت البيانات من نصوص كتابية حرفية لجلسات العلاج التي تم تسجيلها صوتيا بموافقة المريض. توفر هذه النصوص بيانات دقيقة دائمة كما تتيح للعمل الذي يقوم به فريق من الباحثين أن يقوم فرقاء آخرون بمراجعته مرة أخرى.
في هذه الدراسة الخاصة فحصنا النصوص المكتوبة للجلسات المئة الأولى للسيدة C مع محللها وكان رجلا. وحتى نتعرف الخبرة التي تم كبتها في المراحل المبكرة من التحليل ثم ظهرت عفويا بعد ذلك، قمنا أولا بفصل المحتويات العقلية ـ أي الآراء والمواقف والذكريات والمشاعر ـ التي ظهرت في النصوص المكتوبة للجلسات المتأخرة (الجلسات من 41 إلى 100) لا الجلسات المتقدمة. فلاحظنا، على سبيل المثال، في إحدى الجلسات المتأخرة للسيدة C أنها تذكرت رغبتها في قتل أخيها وأنه لا هي ولا معالجها قد سبق له ذكر هذه الرغبة من قبل.
وربما كانت السيدة C على وعي فعلا ببعض المفردات (البنود، الأفكار) الجديدة بالرغم من أنها لم تناقشها. هذا النوع من المفردات لا يحق لنا وصفه بأنه قد سبق كبته، لذا فقد كان علينا أن نسقطه تماما من حساباتنا. وحتى نحقق ذلك طلبنا إلى نحو عشرين محللا أو محللا تحت التدريب أن يعملوا كمحكّمين. وأعطينا كل محكم قائمة بالمحتويات الجديدة ومعها نسخٌ موجزة للنصوص المكتوبة للعشر جلسات التحليلية الأولى. وقرر المحكِّمون بعد ذلك، وعلى أساس من فهمهم لمشكلات المريض، أيا من المفردات يعتقدون أنها تم كبتها خلال العشر جلسات الأولى. (وكما يقضي العُرف العلمي الصحيح، فمحكِّمونا دائما «لا يعيرون التفاتا» لأي معلومات خارجية يمكن أن تؤثر في قراراتهم.) وقد بيّن المحكِّمون أيضا على مقياس التقدير ذي النقاط الخمس درجةَ الثقة degree of confidence لديهم في كل تقدير. ولم نقبل إلا المفردات التي احتسبت عن ثقة أنه تم كبتها، أي المفردات التي حصلت على متوسط تقدير للثقة يبلغ 4 أو 5.
أصبح لدينا قائمة جديدة للمفردات التي جرى كبتها والتي وصلت بعد ذلك إلى حد الوعي. كانت مهمتنا التالية استبعاد المحتويات التي يكون قد أوحى بها الطبيب المعالج ـ بطريقة أو أخرى ـ للسيدة C. وسلمنا القائمة الجديدة لمحكِّمين محايدين مع قائمة بكل ما قاله المحلل خلال المئة جلسة الأولى. ولم يعثر المحكِّمون إلا على محتوى واحد كان قد تم نقاشه مع المعالج وهذا المحتوى تم استبعاده.
حينئذ فقط أصبحنا في وضع يسمح لنا بقياس مستوى قلق السيدة C ودرجة إحساسها أثناء ظهور خبرة (مادة) سبق كبتها. وعرضنا نصوصا لأشطر أو مقتطفات من حديثها أثناء العلاج يستغرق كل منها خمس دقائق على مجموعتين من المحكمين قامتا بتقديرها، كل بمعزل عن الأخرى، على واحد من مقياسيْن صُمّما لقياس القلق (وضمّنّا كل جزء يفترض فيه أن يكون شاملا لمادة سبق كبتها مع مقتطفات أخرى كثيرة اختيرت عشوائيا، ولم يكن في مقدور المحكمين تمييز أي منها عن الآخر.) وكان أحد المقياسيْن، وهو مقياس مال Mahl Scale، يقيس القلق المبني على نسبة حدوث التعثرات (المقاطعات) في الحديث؛ فالتعثرات الكثيرة تعكس درجة عالية من القلق. أما المقياس الآخر، وهو مقياس ، فيقيس القلق المبني على تكرر الإشارة إلى مواضيع بعينها مثل التشويه والخزي والموت.
ومن القيم المتوسطة لتقديرات المحكمين صار بمقدورنا أن نستنتج أن السيدة C لم تعد تحس بالقلق وقت ظهور المادة المكبوتة أكثر من أي وقت آخر. بل أشارت تقديرات مقياس «مال» في الحقيقة إلى أنها حين تظهر المادة المكبوتة على سطح الوعي كانت تحس بقلق أقل بكثير من المعتاد (كل الحقائق التي أناقشها ذات دلالة عالية من الناحية الإحصائية إلا إذا ورد عكس ذلك.)
استخدم مقياس الإحساس لتقدير مدى حيوية إحساس السيدة C بالمحتويات الظاهرة. وبناء على تحليل المقتطفات نفسها كما فعلنا من قبل، وجدنا أنه حين وصلت المحتويات السابق كبتها إلى حدود الوعي، أحست بها السيدة C بحيوية أكثر من إحساسها بالمحتويات التي اختيرت عشوائيا.
اتفق المستوى المنخفض لقلق السيدة C وشعورها القوي مع فرضية التحكم وليس مع الفرضية الديناميكية، هذه النتيجة تشير إلى أن المرضى في أغلب الأحوال يظهرون المادة المكبوتة تلقائيا لأن المحيط العلاجي يوفر للمريض الإحساس بالأمان وليس لأن الدوافع المكبوتة قد زادت حدتها بفعل الإحباط.
وفي اختبار آخر للفرضيتين تحرّيْنا سبب تكرر حدوث سلسلة معينة من الأحداث في كثير من التحليلات، وفي هذه السلسلة يرهق المريضُ من دون وعي منه المحللَ بطلباته (فالمريض الذكر مثلا، ربما يعبر بوصفه لنزوة جنسية تتعلق بامرأة تشبه طبيبته المعالجة، عن رغبته في تكوين علاقة جنسية مع معالجته.) وإزاء هذا الشعور لا يرضخ المحلل للطلب بل يكون رد فعله بدلا من ذلك الصد دونما إحراج ـ ربما بتفسير ما يصرح به المريض أو بتوجيه سؤال له. وبعد هذا الصد فإن بعض المرضى قد يزداد تبصرهم ببواعثهم اللاشعورية ويتقدمون في العلاج.
وتشرح الفرضية الديناميكية هذا التسلسل من الأحداث بافتراض أن المطالب هي عادة محاولات لإشباع الدوافع المكبوتة. وبرفض الإذعان للطلب يحبط المحلل الدافع، وبذا يزيد من شدته وإذا زادت شدة الدافع فقد يخترق حاجز الكبت إلى حدود الوعي، أما إذا بقي مكبوتا فربما وبضغطه اللاشعوري سهَّل العملية العلاجية.
تطرح الفرضية الديناميكية وفرضية التحكم تفسيرات مختلفة لما يلاحظ من أن المرضى في بعض الأحيان يكتسبون التبصر (البصيرة) في أنفسهم بعد أن يكونوا، لاشعوريا، قد أثقلوا المعالج النفساني بمطالبهم (a)، مثال ذلك طلب الاعتذار بطريقة مُقَنَّعة (الشكل). وتفترض الفرضية الديناميكية (b) أن المرضى يطلبون هذه المطالب بفعل الرغبة اللاواعية لإشباع دوافعهم (دافع عدائي كما في الرسم التخطيطي.) فإذا أحبط المعالج دافعا وذلك بعدم الرضوخ له، ازداد الدافع حدة بل ربما نفذ إلى مستوى الوعي (فالمرأة في الشكل قد تكون مدركة لرغبتها في إيذاء المعالج.) ويكون التنبؤ المتحصل أن المرضى حين يكونون على وعي بدوافعهم المكبوتة يزداد قلقهم عن المعتاد ويقل شعورهم بالاسترخاء. أما فرضية التحكم (c) فتفترض أن ما يطلبه المرضى هو بمثابة اختبار لتحديد ما إذا كان بمقدور الطبيب المعالج أن يتحمل السماع إلى المادة المكبوتة من دون ضجر. وترى الفرضية أن المرضى ستزداد طمأنينتهم لرؤياهم الطبيب مرتاحا. وهذا ما يساعدهم على التحرر من مكبوتاتهم (فالمرأة في الشكل ربما تكون قد أدركت أنه لا داعي لقلقها من أن يجرح عداؤها شعور الطبيب المعالج بسهولة.) ومن ثم سيقل شعورهم بالقلق عن المعتاد ويزداد شعورهم بالاسترخاء. وسيشعرون بأنهم أكثر جرأة وودا. كما أن اختبار التنبؤات (d) كان مؤيدا لفرضية التحكم.
وعلى النقيض من ذلك، تفترض فرضية التحكم أن المرضى يكون لديهم غالبا دافع مختلف حين يطلبون مطالبهم اللاواعية. تذكَّر أن فرضية التحكم تفترض أن المرضى يريدون لاشعوريا أن يصبحوا على وعي بالمادة المكبوتة بيد أنهم يخشون إن هم باحوا ببعض من أفكارهم أو مشاعرهم المكبوتة فقد يقوض ذلك علاقتهم بالمعالج ومن ثم يعرضهم للخطر. لذا ومن دون وعي منهم يكثرون من مطالبهم كوسيلة غير مباشرة لاختبار تحمل المعالج لمثل هذه الأفكار والمشاعر. فإذا وجد المرضى أن المعالج يتحمل مطالبهم بارتياح فعلا (وبذا يجتاز اختبارهم)، فقد ينعمون بالشعور بالأمان الذي يحتاجون إليه للتحرر من مكبوتاتهم. فالرجل الذي يحاول من دون وعي أن يراود طبيبته المعالجة عن نفسها مثلا، قد يشعر بالأمان حين يجد أن المُعالِجة لم تستسلم له، كما أن مطالبه الجنسية لم تغضبها، وحينئذ تزداد ثقته بها وتقل خشيته من مواجهة رغبته الجنسية المكبوتة نحوها. (تفترض فرضية التحكم أن «اجتياز الاختبار» بالنسبة لبعض المرضى يتطلب بالفعل رضوخ المعالج لبعض الطلبات اللاواعية، بيد أنه من أجل الدراسة نركز فقط على الأمثلة التي يجتاز فيها المعالج الاختبار من دون الرضوخ لهذه المطالب).
ما الذي تتنبأ به الفرضيتان بالنسبة لاستجابات المرضى لسلوك الصدود من جانب المعالج؟ تتنبأ الفرضية الديناميكية أنه بعد استجابة الطبيب تزداد دوافع المرضى المُحْبَطة حدة وتتصارع صراعا متزايدا مع قوى الكبت، وبذا يصبح المرضى أكثر قلقا وأقل شعورا بالاسترخاء. وعلى النقيض من ذلك، تتنبأ فرضية التحكم بأنه بما أن بعض المرضى يشعرون بالطمأنينة لأن المعالج لم يرضخ لرغباتهم فسيقل قلقهم ويزداد شعورهم بالاسترخاء.
ولفرضية التحكم تنبؤات أخرى بالنسبة لاستجابة المرضى، وهذا ما لا تتناوله الفرضية الديناميكية. فتتنبأ فرضية التحكم بأنه بعد اجتياز الاختبار يشعر المرضى بود أكثر نحو المعالج ويرون فيه عونا لهم. علاوة على ذلك، فبما أن المرضى يشعرون بأنهم أكثر أمانا يصبح من المحتمل أن تزداد جرأتهم وحرية تعبيرهم عن أنفسهم تعبيرا مباشرا.
ولكي نختبر هذه التنبؤات، بدأنا مرة أخرى في دراسة النصوص الأصلية للمئة جلسة الأولى الخاصة بتحليل السيدة C، ووفقا لما يقتضيه تصميم بحثنا فإن السيدة C هي من الأشخاص الذين تزداد إفادتهم حين لا يرضخ المعالج لمطالبهم أكثر منها حين يرضخ لها.
وقد عرفنا عددا كبيرا من التفاعلات التي أثقلت فيها السيدة C بطلباتها على المعالج من دون وعي منها، وحتى نقارن بين تنبؤات الفرضيتين المتنافستين أعددنا هذه القائمة بحيث لا تشمل إلا المطالب التي تتناسب مع معايير الفرضيتين، أي المطالب التي يمكن أن تُفسَّرَ في آن واحد كمحاولات لإشباع دافعٍ لاواعٍ وكاختبارات هامة لاواعية.
فعلنا ذلك بسؤالنا المحكِّمين الذين يؤمنون بالفرضية الديناميكية أن يحددوا الأمثلة التي كانت السيدة C تحاول فيها إشباع حافز لاواع، ثم بسؤال المحكمين الذين يؤمنون بفرضية التحكم أن يختاروا الأمثلة التي كانت فيها السيدة C تضع من دون وعي منها اختبارا هاما للمحلل. ثم انتقينا بعد ذلك التفاعلات التي اختارها كل من فريقي المحكمين، أي المجموعة المتراكبة من التفاعلات.
ثم قمنا بعد ذلك بتقدير (تدريج) تدخلات interventions أو استجابات المعالج في هذه التفاعلات المختارة. وكما فعلنا كثيرا من قبل، سألنا محكمين ممن اعتادوا التفكير على أساس الفرضية الديناميكية أن يقوموا بتقدير كل تدخل وفقا للدرجة التي نجح فيها التدخل في إحباط دوافع السيدة C اللاواعية. وفي الوقت نفسه، سألنا محكمين اعتادوا التفكير على أساس فرضية التحكم ليقرروا مدى نجاح التدخل في اجتياز اختباراتها اللاواعية. ساعدنا هذا الإجراء على التمييز بين التدخلات التي أحبطت دوافع السيدة C أو التي اجتازت اختباراتها من تلك التدخلات التي أجابتها إلى طلباتها أو التي فشلت في اجتياز اختباراتها. (كما مكنتنا من الربط بين تقديرات فريقي المحكمين، ومن التأكد ـ كما اقتضت خطة البحث ـ من أن التدخلات التي اعتبرها فريق من المحكمين مُحْبِطة لدوافع السيدة C اللاواعية هي نفسها التي اعتبرها الفريق الآخر من المحكمين مجتازة لاختباراتها اللاواعية).
ثم طلبنا إلى المحكمين تدريج فقرات من حديث السيدة C (قبل التدخل وبعده) على مقاييس منفصلة صُممت بهدف تقدير القلق والشعور بالاسترخاء والجرأة ومشاعر الود. واستخدم فريق آخر من المحكمين كل مقياس، وكان المحكمون جميعا يجهلون ما إذا كانت الفقرة من الحديث قد حدثت قبل التدخل أو بعده. ثم قمنا بعد ذلك بحساب التغيرات في تقديرات السيدة C على كل مقياس بطريقة إحصائية ينتج منها ما يعرف ببواقي الدرجات المُكْتَسبة (مُتَبَقّي النقاط المحرزة) residualized gain score.
كشف تجميعنا للبيانات أنه حين لا يستجيب المحلل للمطالب اللاواعية من قِبَل السيدة C (ومن ثم يكون اجتاز اختباراتها أو أحبط رغباتها)، تصبح السيدة أقل قلقا وأكثر جرأة واسترخاء وودا. إن نتائجنا في مجموعها تعزز فرضية التحكم فهي تشير إلى أن المرضى من دون وعي منهم يُحمِّلون معالجيهم بمطالبهم كوسيلة لإقناع أنفسهم بأنه في مقدورهم أن يواجهوا بطمأنينة الأفكار والمشاعر والذكريات التي يحجبها الكبت.
ما الطريقة المثلى التي يمكن للمعالجين أن يساعدوا بها المرضى في تكوين البصيرة؟ لقد طورت ُصيغة من فرضية التحكم لمعالجة هذه القضية. تحدد صيغتي للفرضية أنواع التفسيرات التي سوف يكون لها أثر مباشر نافع في المرضى. علاوة على ذلك، فهي تتنبأ بأن مثل هذه التفسيرات ستسهم في القيمة الكلية للعلاج.
إن فرضيتي، التي قمت مع زملائي باختبارها، تفترض أن المشكلات النفسية تضرب بجذورها لا في الدوافع المكبوتة التي تسعى للإشباع بطريقة مخطئة (كما تقول الفرضية الديناميكية) ولكن في الأفكار المؤلمة التي تُعرف بالمعتقدات «المُمْرِضة» pathogenic beliefs. هذه الأفكار اللاواعية اللاعقلانية تسبب الاضطراب النفسي وتساعد في الحفاظ عليه. وهذه أفكار يصعب تكيفها من حيث إنها تمنع الناس من أن ينشدوا بعض الغايات المرغوب فيها بشدة، والمعتقدات تحذر الناس من أنهم إذا حاولوا جاهدين تحقيق هذه الغايات فسيعرِّضون أنفسهم للخطر ويعانون الخوف والقلق والذنب والخزي والندم. والمعتقدات المُمْرِضة تختلف من شخص لآخر. فربما عانى شخصٌ من الأشخاص الاعتقادَ بأنه لا ينبغي أن يسعى نحو الاستقلال خشية أن يتسبب في إحساس المقرَّبين منه بأنهم مهملون وتعساء، وقد يعاني آخرُ الاعتقادَ بأنه إذا سعى إلى علاقة جنسية مع امرأة انجذب إليها عوقب عقابا شديدا.
والمرضى تحت العلاج النفسي لا ينقصهم الحافز القوي لأن ينقضوا ـ أو يدحضوا ـ معتقداتهم الممرضة حتى يشعروا بالطمأنينة في سعيهم نحو الغايات التي تحذرهم منها هذه المعتقدات اللاواعية. فيعملون على دحض المعتقدات في جزء منها وذلك باختبارها بطريقة لاواعية بالنسبة للمعالج وأحيانا بإثقاله بالمطالب اللاواعية وأحيانا بطرق أخرى. فسيدة تخشى إن أصبحت مستقلة أن تجرح مشاعر والديها ومعالجها الذكر مثلا، قد تجرب السلوك المستقل في جلساتها وذلك بمخالفتها لآراء المعالج ثم مراقبته من دون وعي لتكتشف ما إذا كان جرح في مشاعره. أضف إلى ذلك، أن المرضى يستعينون بتفسيرات المعالج ليزدادوا تبصرا بمعتقداتهم اللاواعية وليتحققوا من أن الأخطار التي تنذر بها هذه المعتقدات لا وجود لها في الواقع.
ولأن سلوك المرضى في العلاج موجَّه لاشعوريا نحو دحض معتقداتهم المُمْرَضة والسعي نحو غايات محددة، يمكننا وصفه بأنه مُخطَّط. لذا أسمي تلك التفسيرات التي يُتوقَّع أن تساعد المرضى على تنفيذ خططهم اللاواعية «بالمؤيدة للخطة» pro-plan، وتلك التفسيرات التي تميل إلى إعاقة التنفيذ «بالمناوئة للخطة» anti-plan.
وحتى نعي مفهوم التفسيرات المخطَّطة، فلنأخذ حالة افتراضية لشاب يشعر بالذنب لرغبة ألمت به في أن يصبح مستقلا عن والديه لأنه يعتقد لاشعوريا بأنه بإضعافه علاقاته سيقضي على والديه. ستكون إحدى خططه اللاواعية أثناء العلاج جمعَ الدليل ضد هذا المعتقد حتى يشعر بالارتياح، وليكن هذا بانتقاله من منزله مثلا إلى منزل آخر. وقد يشرع في تنفيذ خطته باختبار لاواع لمقدرة المعالج على تقبل محاولة الاستقلال، وقد يكون ذلك مثلا بمناقشته الفكرة الخيالية لتسلم وظيفة في مدينة أخرى. وقد يجد أن تفسير كراهيته لأخذ الأمر على محمل الجد بأنه الخشية من جرح مشاعر معالِجه وأسرته، تفسير مريح «مؤيد لخطته». في حين يجد أن الإيحاء بأن نزوته إنما تعكس رغبة لاشعورية لتفادي مواجهة الاعتماد على معالجه وأسرته إنما هو عائق «مناوئ لخطته».
إن فرضيتي تبعث على التنبؤ بأن المرضى ستختلف ردود أفعالهم بالنسبة للتفسيرات المؤيدة للخطة بقدر أكبر منه بالنسبة للتفسيرات التي لا تمت للخطة بصلة أو المناوئة لها. وتتنبأ الفرضية بأنه حين يُطرح تفسير معضد للخطة فإن المرضى يزدادون تبصرا بمعتقداتهم ويمارسون أحاسيسهم بحيوية. أما إذا طُرح تفسير مناوئ للخطة، فإن المرضى يشعرون بصراع داخلي ويصبحون أقل تبصرا ويمارسون مشاعرهم بشكل أقل حيوية.
وقد اختبرت مع زملائي هذه التنبؤات في دراسات لثلاث حالات قصيرة الأمد من علاج التحليل النفسي استمر كل منها ستة عشر أسبوعا. وكانت طرائقنا مباشرة للربط (إيجاد العلاقة) بين التفسيرات المؤيدة للخطة وتلك المعارضة لها ومستويات التبصر والإحساس. وبدأنا بأن حدد المحكمون الإكلينيكيون (السريريون) معتقدات المريض المُمْرِضة والأهداف التي حذرت منها المعتقدات. فعل المحكمون ذلك بأن فحصوا نصوص من أجريتْ معهم المقابلة (التي سبقت البدء الفعلي للعلاج) والجلستين العلاجيتين الأوليين. وعلى أساس فهمهم لهذه النصوص توصلوا إلى ما يمكن أن يُعَدّ تبصرات (مدركات عميقة) مؤيدة للخطة: يتوقع منها أن تسهم في دحض معتقدات المريض الممرضة.
يهدف التدخل «المؤيد للخطة» من ناحية الطبيب المعالج إلى مساعدة المريض على دحض معتقد لاواع (a). وتؤمن الصورة المعدَّلة من فرضية التحكم عند المؤلف بأن المرضى يخفون معتقدات «مُمْرِضة» لاواعية تهدد بنتائج وبيلة (مثل الشعور بالذنب أو الخزي) إذا هم نشدوا أهدافا معينة. وفي العلاج يخطط المرضى، بلا وعي منهم، لدحض هذه المعتقدات العائقة (في اليسار). تتنبأ الفرضية بأن تعليقات المعالج المؤيدة للخطة ـ تلك التي تدعم الخطة (في الوسط) ـ ستساعد المرضى، الذين سيزداد تبصرهم ببواعثهم اللاواعية وسيحسون بمشاعرهم بقوة (في اليمين). أما التعليقات «المضادة للخطة» ـ وهي التي تدعم المعتقدات الممرضة ـ فتتنبأ بانعدام فائدتها وأنه يتبعها تَدَنٍّ في التبصر والإحساس لاختبار الفرضية. وفي اختبار من اختبارات الفرضية أعطيت فقرات (أشطر) مكتوبة من حديث المريض قبل وبعد تفسيرات المعالج لمحكمين إكلينيكيين (سريريين) (b). سجل المحكمون مستويات المريض من حيث التبصر والإحساس على مقاييس معيارية (c). وقام محكمون آخرون، كل بمعزل عن الآخر، بتقدير «مدى التخطيط» في التفسيرات. توحي العلاقات المتبادلة بين التخطيط والتغيرات في التبصر والإحساس أن التفسيرات المؤيدة للخطة هي حقا نافعة.
ثم أعطينا طائفة أخرى من الإكلينيكيين قوائم بالمعتقدات والأهداف والتبصرات المُعِينَة المقترحة جنبا إلى جنب مع قائمة أعددناها من التدخلات الفعلية للمعالج حوت كل التعليقات التي كان الهدف منها إحداث التبصر. واستنادا إلى هذه القوائم، فإن المحكمين (الذين كانوا يجهلون استجابات المريض) قدروا التعليقات على مقياس يتراوح بين أكثرها تضادا للخطة وأكثرها تعضيدا لها.
كان لايزال لزاما علينا أن نقرر الحد الذي يصل إليه تغير تبصر (بصيرة) المريض وإحساسه من حيث استجابتهما لتدخلات المعالج. وهذا حققناه بفصل فترات ممتدة من حديث المريض قبل إجراء التفسير وبعده مباشرة. وقام فريق من المحكِّمين، الذين كانوا يجهلون النظام الذي رُتِّبتْ وفقا له تعليقاتُ المريض وكذلك تدخلات الطبيب المعالج، بتقدير كل فقرة (شطر) وفقا لما يعرف بمقياس مورگان لتبصر المريض Morgan Patient Insight Scale، وقام فريق آخر من المحكمين بتقدير الفقرات على مقياس الإحساس Experiencing Scale ثم حُسب بعد ذلك بواقي الدرجات المكتسبة (متبقي النقاط المحرزة).
مقياس تقدير تبصر المرضى بأفكارهم ومشاعرهم وسلوكياتهم هو أحد الأجهزة العديدة التي استعان بها المؤلف وزملاؤه في بحوثهم لإعطاء ملاحظاتهم الصيغةَ الكمية. مقياس التقدير الموضح هنا هو أبسط بكثير من مقياس مورگان لتبصر المرضى المذكور في النص، لكنه يؤدي إلى النتائج نفسها.
وجدنا في حالة كل مريض علاقة ارتباطية (متبادلة) قوية بين التفسيرات المؤيدة للخطة والتحسنات في كل من التبصر ومستوى الإحساس. فحين حسبنا معامل (عامل) الارتباط بين متوسط مستوى التخطيط لكل التفسيرات في جلسة علاجية معينة وبين متوسط قيمة مستوى الإحساس عند المريض في هذه الجلسة كان معامل الارتباط عاليا جدا: 78 لأحد المرضى و 54 للمريض الثاني و57 للمريض الثالث، ومن ثم أيد البحث فرضيتي.
هل تساعد استراتيجية وضع التفاسير المؤيدة للخطة في نهاية الأمر في تحسين صحة المرضى العقلية أم أن الآثار الإيجابية تقتصر بشكل عام على الجلسة التي تم خلالها وضع التفاسير؟ في محاولتنا للإجابة عن هذا السؤال، قمنا بإجراء مقابلة شخصية للمرضى وقوَّمنا صحتهم النفسية (عن طريق سلسلة اختبارات. مما يُعرف بمقاييس الناتج outcome measures) بعد ستة أشهر من افتراقهم عن معالجيهم.
وقد حدث أن مريضا واحدا كان مستواه عاليا والثاني متوسطا والثالث متدنيا، وكانت هذه النتائج مرتبطة ارتباطا قويا بأنواع التفسيرات التي تلقاها المرضى. وحين أحصينا القدر اليسير من التفسيرات المؤيدة للخطة والمناوئة لها والمُلْتَبِسة (الغامضة) وجدنا النسب في الحالة الأولى 89 و 2 و 9 على التوالي وفي الثانية 80 و 2 و 18 وفي الثالثة 50 و 6 و 44 . وبالرغم من أن النتائج ينبغي أن تكرَّر في عدد أكبر من الحالات حتى تصبح جديرة بالثقة، فالبيانات توحي بأن المرضى الذين حصلوا على نسبة عالية من التفسيرات المؤيدة للخطة سيتفوقون على المرضى الذين لم يحصلوا على النسبة نفسها.
كيف يعمل العلاج النفسي إذًا؟ تقترح دراستنا بعض الإجابات ببرهنتنا على نفع التفسيرات المُؤَيّدة للخطة وغياب هذا النفع في التفسيرات المضادة للخطة. دعمنا الفرضية القائلة بأن المرضى يتحملون المعتقدات الممرضة اللاواعية وأنهم يضعون وينفذون الخطط اللاواعية لدحض هذه المعتقدات بغية تحطيم العقبات التي تعوق الوصول إلى الأهداف الواعية واللاواعية.
تزودنا دراساتنا الأخرى ببعض المعلومات عن الطريقة التي يشرع بها المرضى في تنفيذ مثل هذه الخطط. وتتفق النتائج مع الفرضية القائلة بأن المرضى يطرحون معتقداتهم الممرضة وغيرها من الأفكار والمشاعر اللاواعية فقط في اللحظة التي يشعرون فيها بالأمان ـ أي من دون أن يعرضوا أنفسهم للأخطار الداخلية مثل الشعور بالذنب أو الخزي أو الأخطار الخارجية كفقدان الحب. كما عثرنا على دليل بأن المرضى لا يألون جهدا في البحث عما يضمن لهم الأمان وذلك باختبارهم اللاواعي للمعالج.
يبدو أن القدرات الإدراكية لم تُقدَّر حق قدرها وأن البشر بإمكانهم لاشعوريا إنجاز الكثير من الأعمال العقلية، بما فيها تطور وتنفيذ الخطط للوصول إلى أهداف معينة. أما انعكاسات ذلك بالنسبة للعلاج فواضحة: فالمعالجون القادرون سيستشفون بعناية أهداف مرضاهم اللاواعية ويحاولون جاهدين أن يقدموا التفسيرات التي تهدف إلى تسريع الخطى نحو تحقيق هذه الأهداف.
--------------------------------------------------------------------------------
المؤلف
Joseph Weiss
يعمل محللاً نفسيًّا في معهد سان فرانسسكو للتحليل النفسي وأستاذًا أكلينيكيًا (سريريا) للطب النفسي بمركز جامعة كاليفورنيا الطبي في سان فرانسسكو ومساعد للمدير في فريق بحث جبل صهيون للعلاج النفسي. حصل على الدكتوراه في الطب من المدرسة الطبية بجامعة سينسيناتي. تلقى تدريبه في التحليل النفسي في معهد سان فرانسسكو حيث أصبح محللاً مدرًّبا عام 1962. بدأ ويس يطور آراءه عن طريقة عمل العقل الباطن (اللاشعور) ويختبر هذه الآراء بطريقة غير رسمية عام 1958. أسس مع سامسون فريق بحث جبل صهيون للعلاج النفسي عام 1972 لتقويم هذه الآراء بطرق للبحث شكلية وكمية ، ويضم الفريق الآن نحو ثلاثين عضوا عاملا يجمع أغلبهم بين البحث والممارسة الطبية الخاصة. وقد حظيت بعض مشروعات الفريق بدعم من المعهد القومي للصحة العقلية وببعض المنح المقدمة من قبل مستشفى جبل صهيون بسان فرانسسكو.
--------------------------------------------------------------------------------
مراجع للاستزادة
THE EMERGENCE OF WARDED-OFF CONTENTS. Suzanne Gassner, Harold Sampson, Joseph Weiss and Suzannc Brumer in Psychoanalysis and Contemporary Thought, Vol. 5, No. 1, pages 55-75; 1982.
THE IMMEDIATE EFFECTS OF TRANSFERENCE INTERPRETATIONS ON PATIENTS' PROGRESS IN BRIEF, PSYCHODYNAMIC PSYCHOTHERAPY. Polly Fretter. Doctoral Dissertation, University of San Francisco, 1984. Dissertation Abstracts International, Vol. 46, No. 6. University Microfilms No. 85-12112.
INSIGHT, THE MIND'S EYE: AN EXPLORATION OF THREE PATIENTS' PROCESSES OF BECOMING INSIGHTFUL. Jessica Broitman. Doctoral Dissertation, Wright Institute, 1985. Dissertation Abstracts International, Vol. 46, No. 8. University Microfilms No. 85-20425.
HOW DO INTERPRETATIONS INFLUENCE THE PROCESS OF PSYCHOTHERAPY? George Silberschatz, Polly B. Fretter and John T. Curtis in Journal of Consulting and Clinical Psychology, Vol. 54, No. 5, pages 646-652; October, 1986.
THE PSYCHOANALYTIC PROCESS: THEORY, CLINICAL OBSERVATIONS AND EMPIRICAL RESEARCH. Joseph Weiss, Harold Sampson and the Mount Zion Psychotherapy Research Group. Guilford Press, 1986.
Scientific American, November 1994