لماذا يأتي القليل من البشر بأفكار جديدة في حين لايفعل
آخرون ذلك مع أنهم يتمتعون بدرجة الذكاء ذاتها؟
اعتُبِرَ التفكير المنطقي الشكل الأمثل لإعمال العقل منذ
عصر أرسطو إلى أن تبين أن الأفكار الجديدة وما فيها من مناورة لم تتمخض بالضرورة
عن عملية تفكير منطقي. هناك نوع اّخر من التفكير لا يعرفه إلا قلة من الناس لأننا
لا نميزه إلا عندما يقود إلى أفكارٍ بسيطة تتجلى فقط عند التأمل فيها. سنبحث في
هذا الكتاب هذا النمط التفكيري الذي يوفر فرصة أفضل للكشف عن الأفكار الجديدة.
ورأينا من المناسب استخدام عبارة (التفكير الجانبي) للإشارة إلى هذا النمط مقارنةً
مع (التفكير العمودي) للدلالة على التفكيرالمنطقي التقليدي.
مع أن مانعرفه عن تفاصيل عمل الدماغ قليل نسبيا، يمكن أن نخرج
بمفهوم عام عن تنظيمه من خلال رصد الإثارة في شبكة الدماغ العصبية، فتكون معرفتنا
هذه أشبه بمعرفتنا بالبناء الوظيفي للدارة الكهربائية في المنزل دون الولوج في
تفاصيل تمديدات الأسلاك وتصميم كل مفتاح. وهكذا يمكننا فهم عملية التفكير من خلال
اختبار نتاج العقل الذي يشكل دليلاً على النظام المُستَخدم فيه. ولابد في تحليل
نظامٍ من هذا النوع من الأخذ بتأثيرات التداخل المعقد بين سلبية التغذية الراجعة
وايجابيتها.
تدلنا هذه النظرة لوظيفة الدماغ على أحد أشكال تطوير مفهوم
التفكير الجانبي رغم أن فائدة التفكير الجانبي لا تعتمد مطلقاً على فعالية هذا
الشكل. ويبقى الشكل - مع كونه فعالاً بحد ذاته - منقطع الصلة عن الاستخدام الماهر
للتفكير الجانبي كما هي علاقة معرفة الهندسة الميكانيكية بسائق السيارة البارع.
وهكذا فاستخدام التفكير المنطقي ليس له علاقة بالفهم الكلي لعمل الدماغ.
ترتكز الأفكار في هذا الكتاب على الملاحظة البسيطة وعلى
مفهومٍ معينٍ لبنيـة الدماغ الوظيفيـة. لذلك نستخدم عبارات
مثـل (فكـرة) و(فكرة مجردة) و(إدراك) كونها تناسب موضوع البحث.
ليس التفكير الجانبي شكلاً سحرياً جديداً بل هو طريقةٌ أكثر
إبداعية في استخدام العقل. يسيء متعاطو المخدرات إستخدام هذا التفكير بينما تحسن
الرياضيات الحديثة استخدامه لأنها تخلصت من الطريقة القديمة الثابتة وقدمت للطالب
تطويراً مباشراً مزوِّدةً إياه بمعانٍ أكثر شخصية عن الهدف. وهذا مايشجع على مرونة
العقل لأن على الطالب أن يرى المسألة من جوانب عدة ويدرك وجود العديد من الطرق
للوصول إلى النتيجة الصحيحة. رغم هذا كله تبقى المبادىء الأساسية للتفكير الجانبي
متداخلة مع مجالات التعلُّم الأخرى.
سيرى بعض القراء بعد أن يفرغوا من قراءة هذا الكتاب أن
التفكير الجانبي يظهر من حين لآخر ثم يختفي. ولا نتذكره إلا بعد أن تظهر نتائج
استخدامه الرائعة. ليس هناك كتاب معين يعلِّمنا التفكير الجانبي أي أننا لا نستطيع
في الصفحات القادمة إلا أن نقدم اقتراح إمكانية استخدام طرق معينة وبطريقة مقصودة بهدف
كسر أسس التفكير المنطقي الخانقة. كما نهدف من هذا الكتاب إظهار خواص التفكير
الجانبي وكيفية عمله ومن ثم تحفيز القراء ليطور كل منهم قدراته الخاصة كي يتَّبع
هذا التفكير وبهذه الطريقة.
الفصل
الأول
ذات يوم
استدان تاجرٌ في لندن مبلغاً ضخماً من أحد المرابين في عصر يمكّن المرابي من زجِّ
المدين في السجن. وكان لذلك التاجر ابنة حسناء سال لعاب المرابي عليها. اقترح
المرابي على التاجر أن يعفيه من ديونه مقابل تزويجه ابنته. رُوِّعَ التاجر وابنته
عند سماعهما بتلك الصفقة وراحا يسوفان ويتلكئان فتظاهر المرابي الماكر أنه سيجعل
حسم الأمر بيد العناية الإلهية واقترح أن يضع حصاة سوداء وأخرى بيضاء في كيس ثم تسحب
الفتاة واحدة. فإن سحبت السوداء تتزوجه ويُعفَى أبوها من الدَّين. وإن سحبت
البيضاء تُعفَى من زواجها منه ويعفى أبوها من الدَّين. وإن رفضت أن تسحب فسيُرْمَى
أبوها في السجن وتموت ابنته جوعاً.
قبل التاجر
مُكرَهاً عرضَ المرابي وكانوا يتحدثون في حديقة المرابي على سرير حصوي. انحنى
التاجر ليلتقط اثنتين من الحصى. لاحظت الفتاة أنه التقط اثنتين سوداوين ووضعهما في
الكيس ثم طلب من الفتاة أن تسحب الحصاة التي ستحدد مصيرها ومصير أبيها. الآن، تخيل
أنك في حديقة التاجر وطُلِبَ منك أن تتصرف كما طُلِبَ من الفتاة تعيسة الحظ أو
لنقل أنك تريد أن تنصحها فيما تفعله.
أي نوع من
التفكير ستستخدم لحل هذه المسألة؟ ربما اعتقدت أن تحليلاً منطقيا دقيقا يمكِّنك من
حل المسألة إن كان هناك حل. وإذا ما اخترت هذه الطريقة إنما تختار التفكير المباشر
العمودي. أما نمط التفكير الآخر فهو التفكير الجانبي.
إن الخيارات التي يضعها التفكير المنطقي
أمام الفتاة محدودة وتؤدي إما إلى زواج تعيس أو إلى سجن أبيها. هنا يظهر الفرق
جليا بين التفكير العمودي والتفكير الجانبي. ينطلق أصحاب التفكير العمودي من حقيقة
أن على الفتاة أن تسحب الحصاة. أما أصحاب التفكير الجانبي فينطلقون من نقطة الحصاة
المتبقية في الكيس. يبدأ المنطقيون من النقطة الأكثر منطقية ويتابعون الخط المنطقي
للخروج منها. أما أصحاب التفكير الجانبي فيحاولون اكتشاف طرق أخرى ولا يقبلون
بالمنطق الظاهر أو المتابعة من خلاله.
تضعُ الفتاة
يدها في الكيس وتسحب حصاة. ودون أن تنظر إلى ما سحبت تتظاهر أنها ارتبكت وأوقعت
الحصاة من يدها إلى الأرض حيث ضاعت بين الحصى. ثم قالت: «يا لغبائي، لقد وقعت
الحصاة! لكن لا يهم لأنكم ستتعرفون عما سحبت من خلال لون الحصاة المتبقية في الكيس».
وبما
أن الحصاة المتبقية سوداء لابد أنها سحبت البيضاء. أما المرابي فلن يجرؤ على
الإفصاح عن غشه أمام الجميع. وبهذه الطريقة استطاعت الفتاة - باتباعها التفكير
الجانبي - أن تغير مسار الأمور ليصبح ما بدا مستحيلاً في المرحلة الأولى مفيداً
للغاية. ومن حسن حظ الفتاة أن المرابي غشاش. ولو كان غير ذلك - أي لو أنه وضع
بيضاء وسوداء - لكان لديها فرصة واحدة في النجاة أما الآن فهي متأكدة من نجاتها
ونجاة أبيها.
اعتُبِرَ التفكير العمودي ولوقت طويل نموذجاً مثالياً وشكلاً غير قابل
للنقاش، لا بل ينصح به وتُحَثُّ جميعُ العقول على إتباعه ولو أدى إلى فشل قريب أو
بعيد. وربما كان الحاسوب مثالاً على ذلك. إذ يحدد المبرمج المسألة كما يحدد طريقة
الكشف عنها. ثم يأتي الحاسوب ليحلها بمنطقية وكفاءة لا تُضَاهى.
يختلف
التفكير الجانبي عن التفكير العمودي بطريقة الانتقال من مرحلة لأخرى. فعندما نأخذ مجموعة
مكعبات ونبنيها فوق بعضها نجعل كل واحد يرتكز بشكل راسخ على الآخر. يشكل هذا
الارتكاز التعليل الدقيق للتفكير العمودي. أما بالتفكير الأفقي فتكون المكعبات
مبعثرة هنا وهناك تربطها علاقة ضعيفة إن لم تكن معدومة. لكنها بالنهاية تتمتع
بنموذج لا يقل فائدة عن النموذج العمودي.
يصعب علينا إدراك التفكير الجانبي قبل ظهور نتائجه بشكل
عملي كما في قصة الحصاة التي واجهنا فيها مسألة تبدو مستحيلة الحل في البداية حتى ظهر
حل بسيط ومدهش. وعندما نفكر في هذا الحل نراه واضحاً لدرجةٍ تبعث فينا الاستغراب
من الصعوبة التي واجهناها في البداية. إنها الصعوبة التي تنجم عن استخدام التفكير
العمودي. لا يقتصر دور التفكير الجانبي على حل المعضلات بل يتعداها إلى خلق نظرةٍ
جديدة وأفكارٍ جديدة في شتى المجالات.
عند عرض
مسألة كقصة الحصاة وتقديم الحل مباشرة، يميل القارئ إلى اعتبار المسألة تافهة برمتها.
لكن تأجيل ظهور الحل يبرز أهمية التفكير الجانبي. وفي أفضل أمثلة التفكير الجانبي،
يبدو الحل الذي توصلنا إليه عمودياً، وننسى بعدها فضل التفكير الجانبي الذي أوصَلنا
إلى هذا الحل. وما أن يماط اللثام عن الحل حتى يدعي الكثيرون أنه كان نتيجة تفكير
عمودي. وعند إعادة النظر في مراحله نلحظ بسهولة التسلسل المنطقي بدءاً من ظهور
المسالة وحتى حلها.
يمكن للمنوِّم المغناطيسي أن يأمر الخاضع له باتباع سلوك معين على أن ينفذه
بعد الخروج من غشيته. وعندما يأتي ميعاد التنفيذ يطبق الشخص الخاضع أوامر المنوم
بحذافيرها، كأن يرفع المظلة داخل غرفة الجلوس أو أن يعطي كلاً من الحضور كأسا من
الحليب أو أن يقف على أربعةٍ وينبح كالكلاب. وعندما نسأله عن سبب سلوكه الغريب،
يسارع إلى تقديم التبريرات بمنطقية عالية. تعتبر هذه التبريرات دليلاً صارخاً على
القدرة على التسويغ. يعرف الحضور السبب الحقيقي لسلوكه، لكن كيف لمبرراته أن تقنع
أي قادم جديد إلى الجلسة.
لا ضير في تسويغ الأمور على الطريقة العمودية بعد التوصل
إليها على الطريقة الجانبية. لكن تكمن الخطورة في الاعتقاد بإمكانية تكرار مثل هذا السلوك
ثانية كما نفعل في الطريقة العمودية إذ تُحَلُّ جميع المسائل بالطريقة ذاتها.
إحدى تقنيات التفكير الجانبي هي استخدام مُتَعَمَّد للتسهيل المنطقي. وبدلاً
من المتابعة درجة درجة حسب الطريقة العمودية المعروفة، نأخذ موقعاً عشوائياً جديداً
ثم نحاول شق طريق نحو نقطة البداية. وعندما نتمكن من ذلك، لا بد من إخضاعه لأعلى
معايير المنطق دقةً. وإذا نجح هذا الطريق عبر هذا الاختبار، فاعلم أنك في موقع
مفيد ما كان من الممكن الوصول إليه عبر الطريقة العمودية. وإذا عجزت عن الدفاع عن
هذا الموقع أو الاحتفاظ به فحسبك اكتساب أفكار جديدة مفيدة من خلال محاولتك تبرير
موقعك هذا.
ما أقل من أحب التفكير الجانبي واعتمده بديلاً عن التفكير العمودي بشكل
دائم. وما أكثر الذين رفضوا التفكير الجانبي وأصروا على التفكير العمودي كنمط كافٍ
وافٍ. في الحقيقة هما نمطان متكاملان. نلجأ للتفكير الجانبي عندما يعجز العمودي عن
إيجاد حل لمسألة تحتاج إلى فكرة جديدة. فالأفكار الجديدة بحاجة إلى تفكير جانبي
لأن العمودي مُحاصَر بحدود بنيوية تمنعه من أداء هذه المهمة ولا يستطيع أن يتجاهل
هذه الحدود لأنها تمثل ماهيته.
إن التركيب
الوظيفي للعقل- كنظام متكامل- يوجهه نحو تفسير الأمور بطريقة (الاحتمالية العليا).
أما نظام الاحتمالية فمرتبط بالخبرة والحاجة الآنيَّة. إذن التفكير العمودي هو
تفكير الاحتمالية العالية التي لا نستطيع ممارسة حياتنا اليومية بدونها لأننا سنضطر
إلى تحليل كل تصرف أو حدث وفحصه بعناية، أي لا نسلم جدلاً بأي شيء مهما يكن. عندها
نضيّع الكثير من طاقتنا في التحليل المنطقي، كما يصيب الحريش (أمُّ 44) عندما
ترتبك من وعي كل حركة من حركاتها. إن إحدى وظائف الفكرة هي تغييب نفسها ليعقبها
العمل مباشرة حسب فهم الحالة. ويكون هذا ممكنا عندما يتبدّى التصرف الفعال للعقل
حسب الاحتمال الأعلى.
كما تنساب
المياه إلى أسفل المنحدرات سالكة الطريق في سرير النهر، كذلك يفعل التفكير العمودي
عندما يأخذ أفضل الطرق الممكنة موسِّعاً مجراه وجاعلاً إياه الطريق الأعلى
احتمالية يوماً بعد يوم. وإذا كان التفكير العمودي يحمل الاحتمالية العالية فإن
التفكير الجانبي يحمل احتماليةً أدنى ويحاول أن يشق قنوات جديدة لتغيير مجرى الماء.
ويضع السدود في طريق القنوات القديمة على أمل إيجاد مسارات أسهل أمام الماء. أحياناً
يُسحَب الماءُ للأعلى بطريقة غير عادية. وعندما يقودنا الخط الأدنى احتمالية إلى
فكرة جديدة تأتي لحظة (وجدتها)ويتحول الأدنى احتمالية إلى أعلى احتمالية ممكنة.
يشكل سحب المياه للأعلى المرحلة الأصعب التي تنساب بعدها المياه بحريَّة. إن هذه
اللحظة هي وحدها هدف التفكير الجانبي.
يبدو التفكير
الجانبي متعلقاً بالتفكير الإبداعي لأنه مرتبط بالأفكار الجديدة. وما التفكير
الإبداعي إلا جزء من التفكير الجانبي. تشكل منجزات التفكير الجانبي إبداعات أصيلة أحياناً.
وأحياناً أخرى هي ليست إلا طريقة جديدة للنظر إلى الأشياء دون أن تكوِّن إبداعا
كاملا. يحتاج التفكير الإبداعي إلى موهبة في التعبير أما التفكير الجانبي
فَمُشَرِّعٌ أبوابه لكل المهتمين في الأفكار الجديدة.
في هذا
الكتاب، لا نستخدم التفكير الإبداعي بالمعنى الفني الحقيقي كمثال على التفكير
الجانبي. لأن نتاج الإبداع قضية شخصية بحتة وليست قيمة الجهد الفني الإبداعي إلا
قضية ذوق وموضة. لكن يسهل علينا رؤية أثر التفكير الجانبي على الاختراع الذي قد
ينجح أولا ينجح في نهاية المطاف. ومن السهل أيضا تحديد ما إذا كان حل المسألة قد
أتى عن طريق التفكير الجانبي أو غير ذلك.
كلما ابتعد
التفكير الجانبي عن قواعد العقل أو التفكير العمودي، كلما بدا أقرب للجنون. هل
التفكير الجانبي مجرد شكل جنوني مقصود ومؤقت؟ وهل تفكير الاحتمالية الأدنى مختلف
عن العشوائية التي ترافق الفصام الذي يتميز بعقلية الفراشة التي تطير من فكرة
لأخرى؟ وإذا أراد أحد أن يهرب من الشكل الصريح للأشياء، لماذا لا يتناول مخدراً؟
تختلف عملية التفكير الجانبي عن هذا كله بأنها تحت السيطرة الكاملة. وعندما يختار
التفكير الجانبي طريقة هيولية فإنه يستخدمها بطريقة موجهه ولا تكون تشويشاً ناتجاً
عن غياب السيطرة. وأثناء هذه العملية تبقى القوى العقلية تتأمل بإمعان لتحكم على
الأفكار الجديدة وتختارها. وهنا يضع المنطق نفسه في خدمة العقل. أما في التفكير
العمودي فيسيطر المنطقُ على العقل.
هل للشخص
قدرة ثابتة على التفكير، أم أنها تتناسب مع اهتماماته ومع ما يملك من فرص لتطويرها؟
ما أقل الذين يملكون استعداداً طبيعياً للتفكير الجانبي. لكن الجميع قادرون على
تطوير مهارة معينة إذا ما حاولوا ذلك عامدين. لا تشجع التعاليم الأرثوذكسية على
عادة التفكير الجانبي بل تحاول أن تثبطها مستخدمة حاجة الفرد للتكيّف مع حدود
الامتحانات المتعاقية.
ليس التفكير
الجانبي خلطة سحرية يتناولها الشخص فيستفيد منها. إنها موقف وعادة عقلية. وما
المقصود بالتقنيات المشروحة هنا إلا إثارةً لوعي عمليات التفكير الجانبي، ولا يمكن
لهذه التقنيات أن تستخدم كما يستخدم كتاب الطبخ. وليس هناك انقلابٌ مفاجئ من
الإيمان بكلية القدرة عند التفكير العمودي إلى الإيمان بفائدة التفكير الجانبي.
ليس التفكير الجانبي إلهاما بل هو وعي وممارسة.
الفصل
الثاني
كم من الناس
يعيشون طيلة حياتهم في ظل فكرة واحدة؟ وكم عدد الناس الذين يتمتعون بقدرة على
ابتكار العجلة الدائرية لو لم تبتكر بعد؟
يعتقد معظم
الناس أن الأفكار الجديدة تخطر للآخرين فقط كما هو الحال في حوادث المرور. والإفتراض
السائد هنا أن الآخرين هم القادرون على خلق أفكار جديدة وهم الذين تُتَاح لهم معظم
الفرص.
ليت الأفكار
الجديدة تأتي مكافأةً لأولئك الذين يبذلون الجهد المتواصل. فهم الذين يستحقون ذلك
الشرف. كما يشعر المجتمع بسعادة أكبر عندما ينظم ويشجع الجهود الجبارة ويبدي لهم
الإحترام اللازم إذا ما أثمرت جهودهم تحت إشرافه.
لكن لسوء
الحظ ليست الأفكار الجديدة امتيازاً لأولئك الذين يقضون أوقاتاً طويلة في تطوير
أنفسهم. لقد قضى تشارلز داروين أكثر من عشرين سنة من عمره يعمل في نظرية الإرتقاء
على مبدأ البقاء للأفضل. لكن (والانس) أنجز النظرية خلال أسبوع واحد في إنديز
الشرقية. إن التطوير الكامل لفكرةٍ ما ربما يحتاج لسنين طويلة من العمل الشاق لكن
الفكرة بحد ذاتها قد تخطر بالبال بلحظة تَبَصُّرٍ واحدة.
تحتاج بعض
الأفكار لطريقة جديدة في النظر إلى الأشياء. ويصعب علينا تخيل إمكانية ظهور تلك
الأفكار بدون تلك الطريقة. وإذا انعدم الرضا عن الفكرة القديمة بسرعة، لم تعد
الفكرة الجديدة بحاجة لسنوات عمل طويلة. وقد تأتي سنوات العمل الطويلة بأفكار
جديدة صعبة المنال لأن هذه السنوات تتيح المجال لإعادة ترتيب وتمركز الأفكار
القديمة. وما أكثر مافي الحياة العلمية من علماء مجدين لايعوزهم منطق بحث أو دقة
في العمل، ومع ذلك تراهم بعيدين عن الأفكار الجديدة.
قد تظهر
الأفكار الجديدة من خلال تجميع معلومات جديدة أو من خلال الملاحظة والتجربة أو
إعادة تقييم الأفكار القديمة. لا بد أن المعلومات الجديدة تؤدي إلى أفكار جديدة لكنها
غير موثوقة لأن معظمها يُفَسَّرُ على أساس النظرية القديمة ويُبَرمَجُ بشكل يدعمها.
كذلك يفعل المحلل النفساني عندما يفسرالأعراض الجديدة التي تطرأ على مريضه تفسيراً
محترفاً يدعم تشخيصه السابق. لهذا السبب يعزو الكثيرون استمرار نظريات فرويد إلى
مرونة برهانها التجريبي الذي يستوعب كل محاولة لدحضها.
يمكن
للمعلومات الجديدة أن تؤدي إلى أفكار جديدة لكن الأفكار الجديدة ليست بالضرورة
ناتجة عن معلومات جديدة بل من خلال تأمل بالأفكارالقديمة وربطها ربطاً جديداً. يمثل
آينشتاين مثالاً جيداً هنا لأنه ابتكر نظريته النسبية دون معلومات جديدة جمعها أو
تجارب أجراها. إذن لم يأت بمعلومات جديدة بل بنظرة جديدة. أما التجارب التي أكدت
النظرية فقد أتت لاحقاً. كان الجميع راضين عن المعلومات الموجودة وعن تناسبها مع
البنية النيوتنية. لكن آينشتاين وضعها بطريقة جديدة تماماً. تخيلوا هنا الكمَّ
الهائلَ من الأفكار والمعلومات القديمة التي يمكن إعادة ترتيبها بشكل أفضل الآن.
عند التكلم عن الأفكار الجديدة، يخيل لمعظم الناس الابتكارات التقنية والنظريات
العلمية. صحيح أن الإبتكارات والنظريات تحتاج إلى معرفة، لكن المعرفة غير كافية إن
لم ينتج عنها أفكار جديدة. هناك امرأة أمريكية جنت أموالاً طائلة من اكتشافها
لطريقة جديدة تُطوَى بها قطعة ورق كي تُستخدم كفاتورة أو وصل استلام. انتشرت هذه
القطعة لأنها توفر الجهد والمال والقرطاسية. إن عملية خروج الفكرة الجديدة منفصلة
تماماً عن الأهمية الفعلية لتلك الفكرة. فالفكرة التافهه تخرج بنفس الطريقة التي
تخرج بها فكرةٌ تغير مجرى التاريخ. ويقال أن نابليون العظيم واجه صعوبة في التخلص
من كلب زوجته لا تقل عن الصعوبة التي واجهها في التخلص من الجيوش القوية التي أُرسِلت
لمحاربته.
هناك مثال
على عدم كفاية المعرفة التقنية والظروف الصحيحة لصنع أفكار جديدة. إنها قصة الصمام
الـ ثيرميوني الذي اعتمد عليه تطور التكنولوجيا الإلكترونية بما فيها من عجائب
تتعلق بوسائل الإتصالات. لقد وضع أديسون - ساحر الكهرباء - يده على المصباح
الكهربائي الذي نعتبره اليوم شكلاً بدائياً عن الصمام الثيرميوني. لم يكن لأحد في
ذلك الوقت الأرضية الكافية لإدراك ماهية أداة أديسون حتى أتى فلمنغ بعد سنوات
ليفعل ذلك في لندن. ثم أتى بعده لي فورست ليطور الصمام الثلاثي. ولم تتم الاستفادة
الكاملة منه حتى أتى مهندسو التلفون ليفعلوا ذلك.
هناك صعوبة
كبيرة في التوصل إلى الأفكار الجديدة لأنها تعتمد على الصدفة. وحسب هذا الرأي لا تظهر
الفكرة الجديدة إلا باجتماع عناصرها على شكل معين وفي وقت واحد وفي عقل شخص واحد.
الأمر إذن هو انتظار فرصة اجتماع مخصِّب لجميع تلك العناصر. لاشك أن هذه الرؤية
سلبية لكنها ثابتة بالأدلة.
لقد أثبت
العقل البشري كفاءة وقدرة عالية في تطوير الأفكار الجديدة فور ظهورها. ففي فترة
لاتتجاوز حياة شخص واحد تطورت الطائرة من تجربة مغامرة لا تتجاوز ميكانيكية دراجة
هوائية إلى أن أصبحت وسيلة مواصلات لا تُضاهَى من حيث الفعالية. أما المذياع فقد
تحول من معجزة مؤقتة إلى أداة رخيصة بمتناول الجميع. تفوَّق العقل البشري في تطوير
الأشياء لدرجة أنه صمم عقلاً إلكترونياًَ يساعده في رفع القدرة على التطوير أكثر
فأكثر. لكن العقل ضعيف أمام خلق فكرة جوهرية جديدة. ورغم توفر التكنولوجيا ولوقت
طويل، لاتظهر الأفكار الجديدة إلا بشكل مشتت. ولم يكف وجود التكنولوجيا لإنشاء
الطائرة المحلقة حتى أتى كرستوفر كوكريل بفكرته الجديدة. ومن ناحية أخرى، تندثر
الفكرة إن لم تجد التكنولوجيا الكافية لإخراجها إلى الحيز العملي. وخير مثال على
هذا شروع تشارلز بابج - برفسور الرياضيات اللوقاني في جامعة كمبردج – بإنشاء أول
حاسوب في ثلاثينات القرن العشرين. لكنه أُحبِط بسبب غياب التكنولوجيا الألكترونية
التي جعلت الحاسوب ممكناً اليوم. ظلت فكرة البروفسور بابج الممتازة حبيسة حتى أتت
النَّقلة الميكانيكية. إذن التكنولوجيا تساعد الفكرة الجديدة على الظهور لكنها
عاجزة عن خلقها.
إذا ما
سلمنا بالظهور السلبي للأفكار الجديدة، ما علينا إلا الانتظار، الدعاء والصلاة. لكن
لا بد من وسيلة بديلة عن الإنتظار. ويدلنا السؤال التالي على إمكانية وجود ذلك
البديل. إذا كانت الأفكار الجديدة محض صدفة، لماذا ظهر عند أديسون الكثير من
الأفكار مقارنةً مع غيره؟ أو لماذا تظهر سلسلة من الأفكار الجديدة لدى العلماء
والمخترعين وليس فكرة واحدة؟ إذن هناك قدرة على توليد أفكار جديدة قابلة للتطوير
عند البعض دون غيرهم. إنها قدرةٌ لاعلاقة لها بالذكاء المحض بل بعادة عقلية معينة
أو بطريقة معينة بالتفكير.
قد يفوز صاحب
الفكرة الجديدة بمكافأة مجزية أو ربما لا يجنى منها إلا شيئاً تافهاً. فالرجل الذي
صنع الحصَّادة المركَّبَة جنى منها ثروة طائلة. أما صانعو آلة الخياطة لم يجنوا
منها شيئا على الإطلاق. لكن لا بد من مكافأة أكيدة. إنها فرحة من نوع راق. إنها
نشوة تختلف عن أي سعادة ترافق أي عمل آخر، إنها نشوة الإنجاز.
لا يمكن
تجاهل أي فكرة جديدة تقفز إلى حيز الوجود، فهي تدخل عالم الخلود بمجرد ولادتها.
الفصل
الثالث
نتفق جميعاً
على الإفتراض القائل أن الأفكار الجديدة مفيدة، مجزية ومثيرة. وكثير منا يوافق على
الافتراض أنه ما من شيء محدد يمكن أن نفعله للتوصل إليها. وقليلون هم الذين يرون
أنه يجب أن نفعل شيئا ما لبلوغ تلك الأفكار.
لكي نفعل شيئا ما للوصول إلى افكار جديدة يمكن العمل بطريقتين: الأولى هي
محاولة تحسين السبل المتبعة. والثانية هي معرفة وإزالة كل ما من شأنه إعاقتها. فعندما
يلاحظ السائق أن سيارته بطيئة نسبياً، إما أن يرفع من شدة الضغط على دوَّاسة
البنزين أو أن يتأكد من تحرير المكابح. كذلك الأمر عند تصميم سيارة أسرع. إما أن
يستخدم المصمِّمُ محركاً أقوى أو أن يخفف من وزن السيارة أو من مقاومة الهواء لها،
الأمران اللذان يساهمان في إبطائها.
من المفيد
أن نبحث في الغباء كي نفهم الذكاء. وربما كان أسهل علينا أن نرى ما يعوزه الغبي
على أن نرى ما ينعم به الذكي. أي من الأفضل أن نعرف سبب عدم قدرة عموم البشر على
الإبتكار بدلاً من البحث في أسباب ابتكار المخترع. ويمكن تطوير القدرة على اكتشاف
أفكار جديدة عندما نمتلك النظرة التي تؤهلنا من معرفة ما يمنع ظهورها.
ما يجعل
التفكير الجانبي ضرورة ملحة هي القيود التي يفرضها التفكير العمودي. واستخدمنا هنا عبارتي (جانبي) و(عمودي) على
اعتبار أنه لا يمكن فتح حفرة ثانية في مكان آخر من خلال التعمق في الحفرة
الأولى.
يُستَخدمُ
المنطق في تعميق الحفرة وتوسيعها وتحسينها من جميع النواحي. لكن هذا كله لايستطيع
أن يغير موقع الحفرة ولو كان خاطئا. وحتى عند وضوح هذه الفكرة للحفَّار فإنه
يستسهل متابعة الحفر على الشروع في الحفر في موقع جديد. التفكير العمودي هو متابعة
الحفر أما التفكير الجانبي فهو البحث عن موقع جديد.
يعود
استبعاد تغيير موقع حفرة تم إنجاز نصفها إلى الرغبة في عدم هدرالجهد المبذول فيها
رغم عدم جدوى تلك الحفرة. ويرى الحفار سهولةً في الإستمرار في العمل ويفضِّله على
البداية في مكان جديد وهذا ما نسميه الإلتزام العملي.
لم تتجاوز
الجهود العملية حتى الآن حدود توسيع النظرة المنطقية للحفرة التي قبلناها سابقاً. تحاول
عقول كثيرة خدش جدران الحفرة فتفشل تارةً وتظفر تارةً بحسب قوتها. أما الذين شرعوا
بحفرة جديدة قد وصلوا إلى أفكار جديدة وأحرزوا تقدماً علمياً هائلاً. وما دفعهم
إلى الحفرة الجديدة هو عدم قناعتهم بالحفرة القديمة أو جهلهم التام لها أو لرغبتهم
بان يكونوا مختلفين عن الآخرين، أو ربما لنزوة محضة. نادراً مايحصل هذا التغيير في
الموقع لأن الثقافة القديمة تفرض على الناس فهم الحفرة القديمة التي اختيرت حسب
أفضلياتهم. وإذا ما استخدمنا أي ثقافة في غير موقعها ستقودنا إلى الشتات. من الصعب
تكوين القدرة التي تشجعنا على رفض الحفرة القديمة سيما وأن الثقافة تعيق ذلك لأنها
غير معنية بالتقدم فهي تسعى دائما لتوسيع المعرفة التي تخدمها. ليست الثقافة
إبداعية بل استمرارية وتواصلية.
جهل الإنسان
بالحُفَر القديمة يجعله حراً قادراً على بداية جديدة في أي مكان. لكن الصعوبة هي
في تجاهل الحفر القديمة بعد قبولها بهدف الوصول إلى بداية جديدة. لذلك نرى
الكثيرمن المكتشفين العظماء مثل فاراداي لم يتلقوا تعليماً رسمياً على الإطلاق.
أما علماء مثل داروين وكلارك وماكسويل فلم يتلقوا التعليم الكافي لطمس أصالتهم. لهذا
نفترض أن فرصة استنباط أفكار جديدة تتاح للعقل القادر عندما يكون جاهلاً بالنظرة
القديمة للأشياء.
تستقطب
الحفرةُ نصف المحفورة الجهدَ لأنه بحاجة إلى وجهةٍ يُسخَّرُ بها لكنها بنفس الوقت
تسبب استنفاده. وإذا حصل هذا الجهد على نتيجة إيجابية سريعة فإنه يستمر بشجاعة،
أما إنتظار هذه النتيجة طويلاً فيسبب مشكلة كبيرة. يحرز توسيع الحفرة الحالية
تقدماً ويؤكد على منجزات مستقبلية كما يضفي على الحفرة إلفة وراحة مكتسبة.
كيف لنا أن
نلغي حفرة أنجزنا جزءاً كبيراً منها دون أن يكون لدينا فكرة عن مكان الحفرة
الجديدة. يتطلب هذا الإلغاء طبيعة بشرية عملية. وتظل هذه النقلة صعبة حتى بعد
اختيار الموقع الجديد.
لا يجد
منفذو آبار النفط هذا الأمر صعباً لأنهم يدركون تماماً أنَّه من الأفضل لهم أن
يجلسوا جانبا ويفكروا في موقع جديد على أن يواصلوا العمل في نفس الحفرة. الفرق بين
النفطيين والعلماء في هذا المجال هو أن النفطيين يتحملون كلفةً باهظةً عند مواصلة
الحفر. أما العلماء والصناعيون فيتحملون كلفة أكثر عندما يتوقفون عن الحفر.
كيف
يمكن للإنسان أن يوظِّف جهوده دون حفرة؟ فغياب الحفرة يعطل معاول المنطق ويوقف
التطور والإنجاز الذي يشكل الجانب الأهم لأن الإنجاز هو الحكم الوحيد الذي يحكم
على جدوى الجهد المبذول. وعلى العَالِم أن يحافظ على هذا الحَكَم كي يتمكن من
الإستمرار في عمله.
لا يمكن دفع
أجورٍ لأشخاصٍ بمجرد أنهم قادرون على العمل. فكيف لنا أن نحكم على قدرتهم تلك بدون
ظهور إنجازهم الملموس؟ يظل الحفر في مكان ما أفضل - حتى لوتبين لنا موقعه الخاطئ -
من الجلوس جانبا والتفكير في ذلك المكان. صحيح أن حفرة المفكر المتريث أكثر قيمة ولكن
كيف لنا أن نحكم على تلك القيمة قبل الحفر الفعلي أو قبل ظهور الإنجاز؟
من الأفضل
على المدى البعيد أن يبقى البعض في حالة تجوال باحثين عن مواقع أفضل بدلاً من الانخراط
في محورٍ فائدته محدوده. لكن يبقى السؤال القائم: من يقبل أن يوظف جهوده في مهب
ريحٍ قد لا نجني منها شيئا خصوصا في ظل النظام المالي؟ أو من يتحمل أعباء التجوال
حول الحفرة؟ إنها مقامرة مجهضة وغير مثمرة.
نسمِّي
الخبيرَ خبيراً لأنه يدرك الحفرة الحالية أكثر من غيره باستثناء أنداده الذين
يختلف معهم بالرأي فيظهرُ خبراءٌ بعدد الخلافات ويفوز واحد منهم بلقب الخبير الأول.
يشارك الخبراء في شكل الحفرة التي تحكم على درجة خبرتهم. لذلك لا يبادرون بالحفر في
موقع آخر ولا يخطر ببال أحد منهم أن يتسلق إلى الأعلى ليعيد النظر في مكان الحفرة.
ولا يميل الخبراء إلى استخدام خبرتهم في التعبير عن عدم الرضا عن الحفرة لأن ذلك
سيعطي للآخرين - ممن ليس لديهم الحق في عدم الرضا - أن يعبِّروا عن عدم رضاهم وبقوة.
لهذا السبب لا يُرجى من الخبراء أن ينظروا في مواقع جديدة لأنهم يشعرون بقمة
سعادتهم وهم في قعر الحفرة.
يجد العقل سعادته عندما يستخدم المنطق في توسيع الحفرة القائمة، وتشجعه
الثقافة على ذلك. ويختار المجتمع خبراءه للإشراف على سير العمل. في ظل هذا كله
تزداد الحفرة المتطورة تطوراً بفعل الجهود المنطقية المبذولة. إذ تكتسب الكثير من
الحفر قيمتها العالية لِمَا نستخلصه منها من مادةٍ خام لمعرفة عملية. في حين لا
نجني من حفرٍ أخرى سوى ضياع الجهد.
ليست الحفرة
الجديدة التي يُضَيَّعُ فيها الجهد خاطئة - على الأقل من حيث موقعها- مهما بلغ
حجمها. وقد أثبتت بعض هذه الحفر فائدتها العظيمة. لكن للبدء في حفرة كهذه لابد من
إنعتاق الناس من الالتزام بالحفرة المسيطرة.
كثيراً ما
نستخف بالأثر المسيطر للأفكار السائدة، التي نتوهَّم أنها مناسبة من حيث الظاهر. ونعتبر
الفكرة القديمة مجرد أساس نستفيد منه ريثما تظهر افكارٌ أفضل. فإذا وقع مصمِّمُ
أفلام الكرتون تحت سيطرة بعض الخطوط التعبيرية في الوجه، يصعب عليه بعدئذ التخلص
من ذلك الإنطباع أو النظر للوجه ذاته محاولاً خلق طريقة جديدة في التعبير.
لا يمكن
للطائفة التي تجتمع في أعالي الجبال في يوم ينتظرون فيه نهاية العالم - أي نبوءة
يوم القيامة - أن تهتز أفكارهم الجوهرية إلا بإيمان جديد يعتمد على رحمة االقادر.
وهنا نرى أن المعلومات الجديدة التي يمكن أن تؤدي إلى تحطيم فكرة قديمة سرعان ما
تندمج فيها بدلاً من تحطيمها. فتزداد الفكرة القديمةُ قوةً كلما اندمجت فيها
معلومات جديدة. ويمكن تمثيل العلاقة هنا بقطرة الزئبق الكبيرة التي تَجْذُُبُ
القطرة الصغيرة لتزيد من حجمها أكثر فأكثر. وكلما أقتربت القطرة الصغيرة من
الكبيرة تندمج فيها فيزيائياً وتفقد هويتها. وهذا ما يحصل عندما تبتلع الأفكارُ
المسيطرةُ القطرات الصغيرة ابتلاعاً بدلاً من إقامة التسوية معها.
من الأمثلة
التي تُبين جلياً دورَ الأفكار المسيطرة هو مرض عقلي يدعى (الإرتياب الإضطهادي).
ويتميز هذا المرض عن سائر الأمراض العقلية بعدم تعطُّل القدرة على التفكير المنطقي
لدى المريض بل على العكس تصبح القدرة على الإستنتاج أكثر حدةً. والغريب في هذا
المرض أن صاحبه يعيش تحت وطأة فكرة مسيطرة. فيفسر كل مايحدث قريباً كان أم بعيداً أنه
موجَّهٌ ضدَّه. ويعتبر ملاطفة الآخرين له محاولة خبيثة لكسب ثقته بهدف تدميره، والطعام
المقدم له مسموماً، والجرائد تعج بالتهديدات المبرمجة ضده. ولا يمكن خروج تفسير
الأشياء لديه عن هذا النطاق.
تلعب
الأفكار السائدة دوراً كبيراً في السلوك البشري من خلال أثرها التنظيمي القوي على
طريقة التفكير ومعالجة الأمور قبل وضوحها. وفي هذا تُشبَّه الأفكار القديمة بالمدن
القديمة المدروسة بعناية. فهي تستقطب كل شيءٍ حولها. إنها محورٌ تدور حوله الأشياء
ولاتتأثر بأي تبدلات في تخومها البعيدة لأنها لن تستطيع أن تغيِّر من بنيتها
العامة بشكل راديكالي. كما يصعب نقل مركزها كنظام إلى أي موقع آخر.
للتخلص من
أفكار سائدة كهذه، لابد من اعتماد إحدى طرق التفكير الجانبي وهي تحديد الفكرة
المسيطرة بدقة متناهية وربما يجب وضعها على الورق. وعند ظهور الفكرة بهذه الطريقة
يسهل علينا تمييزها وبالتالي نتحاشى تأثيرها المركزي. تبدو هذه الطريقة سهلة لكن
العمل فيها دقيق وحساس. فالفهم العام المبهم للفكرة السائدة لا يجدي نفعاً هنا.
الطريقة
الثانية هي التعرف على الفكرة السائدة والعمل على تخريبها تدريجيا حتى تفقد هويتها
فتنهار نهائياً. وربما كان أحد أشكال التخريب هو حمل الفكرة على التطرُّف في أحد وجوهها.
ولابد هنا من التأكيد مرة أخرى على دقة العملية ووعيها من الداخل.
قد يرى
البعض أن رفض الفكرة بعد تحديدها هي الطريقة الأسهل ويغيب عن بالهم أن رفض الفكرة
السائدة هو تبديل السيطرة الإيجابية بأخرى سلبية فيصبح رفضها تقوية لها بدلاً من
إضعافها. وهنا تقع حرية الفكر في قيد رفض الفكرة كما كانت يوماً واقعة في قيد
قبولها. يمر في هذه الحالة الطلاب الشباب الذين يقرأون الكثير من الفلسفة. إذ
يجدون أنفسهم في وضع لايُحسَدون عليه. فإما أن يقبلوا ما يقرأونه أو أن يرفضوه
كلياً. وفي كلتا الحالتين يثبط الوعيُ البسيطُ للفكرةِ تكوينَ فكرةٍ أصيلة في عقلٍ
قادرٍ على إنجاب الأفكار الأصيلة.
من الأفضل
أن نحجم عن القراءة وندخل مغامرة اكتشاف فكرة موجودة على أن نتلقى الأفكار القديمة
تلقياً ولا نستطيع أن نساهم في تطويرها. وإذا ما تقاطعت فكرة جديدة مع فكرة قديمة
فإن الأخيرة تخرب وتثبط السابقة تماماً. فالطلاب يتلقون أفكارالمدرس الجيد لضيق
عقولهم لكن عندما يظهرصدى تلك الأفكار لاحقاً إمَّا أن يؤيدوها أو يعارضوها.
ليس الخطر
في الوعي الكامل للفكرة السائدة لكنه في إهمال أثرها عندما تطرد طريقة التفكير
فتحبسها خارج القارورة. ويمكن تشبيه هذه العملية بالعنكبوت القافز. حدَّث أحد
أطفال المدرسة عن نظرية ممتعة مفادها أن العنكبوت يستطيع أن يسمع من خلال أرجله. وأثبت
نظريته بالتجربة إذ وضع واحدة من العنكبوت على الطاولة وقال: " اقفزي ".
فقفزت. وكررهذا مراراً. ثم قطع أرجل العنكبوت وأعادها إلى الطاولة ثم قال: "
أقفزي ". لكنها لم تقفز هذه المرة. إلتفت الطفل للمتفرجين وقال: "أترون؟
اقطعوا أرجل العنكبوت فتصبح صماء كالحجر. ".
سمع كل
العلماء بهذه القصة وتذكر الصادقون منهم - وهم كثيرون – أمثلة من تجاربهم الخاصة
التي أغفلوا فيها تماما استخدام طرق غير التي استخدموها في تقييم نتائج تجاربهم.
فنظرياتهم ليست معقولة لأنها معقولة بل لأنها تمثلهم. إنها مُلكُهم. ولهذا السبب
نرى العلماء يشططون بعيداً لأنهم اهتموا بملكيتهم لأفكارهم. ليست الظاهرة الطبيعية
حِكراً على عَالَم العِلْمِ.
من الصعب
الهروب من الفكرة السائدة وقد يستحيل ذلك دون مساعدة خارجية. وكثيراً مايحصل هذا
في عالم الطب عندما يحاول الطبيب المُقَرَّب جداً من مرض المريض أن يعزو كل
الأشياء لتدعم تشخيصه. ويأتي طبيب آخر فينظر إلى المعطيات من وجهة جديدة ليعطي
تشخيصاً أفضل. ونلاحظ انتشار هذه الأفكار الموروثة في المجتمعات المغلقة علميةً
كانت أم صناعية. وعندما يأتي قادم غريب إلى هذا المجتمع يثير فيها أفكاراً جديدة
من خلال رأيه الجديد.
قد تسيطر الفكرة بسبب تعصب الشخص لأفكاره. وقد تكون سيطرتها نابعة من كسل
حاملها. لأنه من السهل قبول فكرة ذات معنى لكن من الصعب التحقق منها والخروج بمعان
جديدة لتلك الفكرة. يقدم المذياع والتلفزيون والكلمة المطبوعة معلومات جاهزة. ومن
حق وسيلة الإعلام بل من واجبها أن ترتب المادة بشكل قابل للعرض. لكن هذه العملية
تفرز فكراً مسيطراً. إذ يسهل علينا قبول المعلومات المنظمة الجاهزة الناتجة عن هذا
الترتيب. لهذا السبب نرى أن الأفكار الجديدة التي توفرها وسائل الإعلام لا تثير
أفكاراً جديدة عند الجمهور المتلقِّي الذي يرزح بكسله تحت سيطرة فكر أولئك الذين
يعرضون تلك المعلومات. وأحياناً تكون الفكرة المسيطرة واضحة للجميع ما عدا صاحبها.
من العناد
أن يتمتع الشخص بكونه على خطأ. لكنه رغم فقدانه الحجة يتمتع العنيد بموقع جيد لأنه
تخلص من الفكرة القديمة وأصبح مستعداً لتلقي أفكارٍ جديدةٍ. ثم تتعزز أفكاره من
خلال الدفاع عنها. وربما يدرك شخص آخر فكرته أكثر منه لأنه استنفد قدرته على
تطويرها. ولا تنجو الفكرة القديمة من الدحض حتى بعد أن تُلقي الفكرة الجديدة جميع
أوراقها.
إن أفضل
كاريكاتير يُظهِر عموديّ التفكير الواقع في أسر فكرة ما هو رجلٌ اقتنى قطةً مع
ابنتها. ضجرالرجل من إدخال القطة وإخراجها ففتح لها ثقباً في الباب كي تدخل وتخرج
بحرية دون إزعاجه. وما إن وصلت الهرة الإبنة من مشوارها حتى فتح لها ثقبا آخر
يناسبها.
يمكن تلخيص
الفصل الثالث بما يأتي: يُشَبَّهُ التفكير العمودي بالماء النازل إلى أدنى الطرق
المحتملة. وتُشَبَّهُ الفكرة القديمة بنهرٍ شق مجراه بعمق. أما المياه التي تتجمع
على السطح فسرعان ما يمتصها النهر. وهكذا تفقد الأنهار الصغيرة الأخرى والبحيرات
فرصتها بالتَّشَكُّل. وبهذا نكون قد أسسنا أول مبدأ من مبادئ التفكير الجانبي وهو
أن إدراك الفكرة السائدة يشكل عائقاً بدلاً من كونه عاملاً مساعداً.
الفصـل
الـرابع
بما أن من يكتب عن التفكير الجانبي مُعرَّض
للضياع في فوضى كلماتٍ وأفكارٍ وهمية، رأينا تقديم تجربة ملموسة لاستخدام التفكير
الجانبي. ولتأمين أرضية يجري عليها التدرُّب على الأفكار الجانبية، عمدنا إلى
تحويل عمليات الأفكار العامة إلى أشكال مرئية ليساعد هذا التدريب على تكوين أساسٍ
لوصفٍ تجريدي في مناسبات أخرى.
تعتبر أي
قضية جزءاً من العالم الذي يشكل البيئة المحيطة لها. ولو أمعنَّا النظر لرأينا أن
أية قضية أو حالة يمكن أن تشمل العالم كله. وكلما ركَّزنا انتباهنا على جانب من
هذه القضية استطعنا التوصل إلى إدراكٍ جديد لها. وما الإدراك إلا نتيجةً للمعلومات
التي نحصل عليها عبر الحواس الموجهة لذلك الجانب. أي أن جميع الحواس تساهم في بناء
الإدراك لكن إحداها يمكن أن تفي بالغرض.