قضية "الحركى" ما تزال ورقة ضغط لدى الفرنسيين لأن الجزائر أهملت الجالية
هذه المقاربة معلومة، لكن ماذا عن الإجراءات التي تم بها الاندماج رغم خطورة مواقعهم الأصلية؟
هؤلاء الضباط انخرطوا في صفوف الثورة على دفعات، وجزء منهم لا شك أنه التحق ولبّى النداء بإخلاص كباقي الجزائريين منذ السنوات الأولى، بينما الباقي انضم على مراحل وهذا في حدّ ذاته ضمن إجراءات الخطة، كان التحاقهم كما أسلفت عبر وحدات الحدود، وبالتالي هم لم يعايشوا أصلا جرائم الاستعمار، الوحيد الذي واجه منهم العدو هو الضابط زرقيني الذي كان تحت إشراف هواري بومدين وجرح في معركة قرب مدينة تبسة، أما عن اتصالهم الأولي فقد جرى عبر دفعات، وتمّ بشكل رئيسي عن طريق فيدرالية الأفلان في فرنسا.
هذا يعني أنهم كانوا في أوروبا ولم يشاركوا قبل ذلك في مواجهات ضد المجاهدين؟
نعم، هذه أمانة للتاريخ، في حدود علمي، أنهم لم يتجندوا ضد الثورة في الداخل، بل كانوا في مدارس التكوين العسكرية في فرنسا وبعضهم خدم في ألمانيا، إلى غاية الالتحاق بالثورة.
هل هم من اختار الاندماج في وحدات الحدود أم هو توجيه قيادات الثورة؟
الأمر كان محسوبا ومحسوما بدقة من طرفهم، لأنه يتعلق بالتفكير في السلطة مستقبلا، وهذا ما تفطن له بومدين بذكاء واستعمله فيما بعد لصالحه، أدركوا من البداية أنهم لن يكونوا شيئا من دون العقيد بومدين، وهذا الأخير فهم أنه بدونهم لا يمكن أن يستقرّ بين يديه الحكم.
عفوا، لماذا تتهم قائد الأركان؟ ألم تكن نيته توظيف كفاءاتهم الفنيّة والعسكرية لتنظيم الجيش وخدمة الثورة؟
هذا ليس صحيحا، كان بمقدوره أن يخدم الثورة بأبناء الشعب في الداخل، الذين كانوا بمئات الآلاف مستعدين للتجند والعمل الثوري المسلح، لقد صوّب العقيد بومدين بصره نحو سلطة الاستقلال، لأنه عايش الثورة المصرية حينما كان طالبا في الأزهر بداية الخمسينيات، وبعدها عاصر استقلال تونس والمغرب، فكان هواري بومدين يدرك تماما أنه يستحيل عليه استلام الحكم من ضباط جيش التحرير وقيادة الولايات التاريخية ورموز الثورة والحركة الوطنية، فوضع هؤلاء (ضباط فرنسا) إلى جانبه، وأشعرهم بالحماية العليا، والتاريخ يسجل مقولته الشهيرة في مؤتمر الأفلان عام 1964، حينما ظلت القاعة تهتف وتدوي تحت شعار "التطهير التطهير لجيش التحرير"، فردّ عليهم وزير الدفاع بومدين قائلا: "مَن الطاهرُ ابن الطاهر الذي يريد أن يطهِّر الجيش؟"، بل أضيف لك قصة حقيقية، وهي أن بومدين لمّا بلغه نشوب الصراع بين ضباط الجيش الوطني مع نظرائهم من ضباط فرنسا، وعلم أن هؤلاء يعيّرونهم بذلك، استدعى وزيرُ الدفاع تلك المجموعة من ضباط جيش التحرير وقال لهم بالحرف الواحد: "من الآن فصاعدا لو يتكلم أحدكم بسوء في حقهم، سأضع حجرة في فمه"، هذه حقيقة ثابتة يعرفها الجميع، لذلك وقف هؤلاء (الضباط الفرنسيون) مع حاميهم الذي صنعهم، وخدموه بإخلاص طيلة وجوده في الحكم.
عندما يقول بومدين: "من الطاهر ابن الطاهر الذي يريد أن يطهر الجيش؟"، هل كان بذلك يتهم الجميع؟
طبعا لا... رسالته كانت محددة وموجهة لأهلها، لم يقصد أبدا عامة الجنود والمناضلين الذين هتفوا وصفقوا، بل هي مصوّبة لمن يعتقد بومدين أنهم ألّبوا وحرَّكوا ضده قاعة المؤتمر، قد يكون منهم أحمد بن بلة والعقيد شعباني وعبد الحفيظ بوصوف ولخضر بن طوبال وكريم بلقاسم وغيرهم ممن كانت لهم صراعاتٌ وخلافات مع وزير الدفاع وقتها.
أفهم من كلامك في المحصلة، أن تحالف بومدين مع ضباط فرنسا كان تكتيكيا للاستيلاء على الحكم وليس قناعة بهم أو ولاء لأيديولوجيتهم حتى لا نظلم الرجل؟
بكل تأكيد.. بومدين لا يلتقي مع هؤلاء في شيء، لكنه استقوى بهم ضد خصومه فقط، لهذا حافظ على وجودهم في مؤسسة الجيش دون أن يمنحهم أي مناصب نوعية إلى غاية 11/12/1967 بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها العقيد الطاهر زبيري، إذ سيغير الرئيس هواري بومدين من منهجيته، حيث يصبح تموقع "ضباط فرنسا" واضحا بعدما ظلّ محتشما لسنوات، وتبدأ بالتوازي، عملية التصفية ضد ضباط جيش التحرير الوطني، لأنه فقد الثقة في هؤلاء، وصار يخشى من الإطاحة به مجددا، لم تكن له عداواتٌ مبدئية معهم، غير أن نفوذهم لم يكن ينسجم مع طموحاته في السلطة، فقدَّم عليهم ضباط النخبة الفرنسية في إسناد مواقع المسؤولية، مستغلاّ نقطة ضعفهم وعقدتهم التاريخية تجاه الثورة.
وعليه بعد انقلاب 1967، انطلق التطهير العكسي الآن، ولم يُبق بومدين من ضباط جيش التحرير في مراكز النفوذ سوى 3 مجاهدين، كانوا قد امتثلوا للمحاكمة التي ترأسها بومدين شخصيا في تونس إثر الاجتماع الشهير للعقداء التسعة، وهم أحمد دراية وبلهوشات والشريف مساعدية، وتعمد اختيارهم دون سواهم، لأنهم يدينون له بفضل التخليص من الإعدام المحتوم من جهة، ولأنهم من جهة أخرى، لا يتفاهمون فيما بينهم أبدا، وبالتالي يستحيل أن يتآمروا ضده.
وبالتالي ليس صحيحا ما يُتداول حول بروز ضباط فرنسا في الحكم على عهد الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد رحمه الله؟
لا، لا...في عهد الرئيس الشاذلي طفا نفوذهم على السطح الخارجي، أما وجودهم الفعلي فقد سبق ذلك منذ عام 1967.
هؤلاء وأبنائهم في مفاصل الدولة، إلى أي مدى ترى أن هذه الأقاويل موضوعية، أليس هناك مبالغة مفتعلة بهذا الخصوص لحسابات متعددة؟
من دون شك هناك مبالغات ناجمة عن الحساسيات التاريخية من جهة والحسابات السياسوية أحيانا من جهة أخرى، فيما يخص "الحركى" بالمفهوم التاريخي الدقيق (أي المسلحون المهيكلون سابقا في صفوف العدو)، لا أعتقد مطلقا أنه يوجد بينهم من وصل إلى مواقع مسؤولية عليا في الجزائر، أو أن البلاد شهدت انتشار هؤلاء في دواليب الدولة، لكن هناك الفئة الثانية، وهم الذين خذلوا الثورة وتعاونوا مع فرنسا عبر الإدارة، فهؤلاء تمكنوا فعلا من التموقع وأخذ المسؤوليات، لأنهم واصلوا مهامهم الإدارية بعد خروج الاستعمار حتى بلغوا غاياتهم المطلوبة، أعطيك مثلاً قد يستغربه البعض يتعلق بابن عم الشهيد البطل العربي بن مهيدي، فقد كان رئيسا لدائرة خراطة في عزّ الثورة أي عام 1959، ما يعني أنه كان مقتنعا بسلطة الاستعمار، ومع انطلاق المفاوضات بين الأفلان وحكومة ديغول، أخذ الطائرة عبر باريس والتحق بالثورة في تونس، ليُحدث ضجة إعلامية بحكم قرابته العائلية مع الزعيم العربي بن مهيدي، ثم يصبح بعد الاستقلال رئيس ديوان لدى العقيد محمد بن أحمد عبد الغني في وزارة الداخلية.
على العموم، هذه الفئة العريضة اغتنمت الفرصة بسبب نقص المتعلمين في العقود الأولى للاستقلال، فتوغلت في المواقع الإدارية واخترقت حتى صفوف الجهاز (الأفلان) فيما بعد، لاسيما بعد تمييع الجبهة- الرمز عقب مؤتمر 1964.
هل تعمّد بومدين ذلك حتى يهمّش الحزب ويضعف نفوذه في الحكم؟
هذه القراءة صحيحة نسبيّا، لكن في الحقيقة الأحداث والواقع الموروث أيضا لعبا دورا حاسما في القضية.
طيب، قبل أن نغلق هذا الملف الشائك، وبعد نصف قرن من الاستقلال، هل ترى أن قضية الحركى ما زالت إشكالية واقعية في الجزائر، أم أنها طوت هذه الصفحة نهائيا؟
أعتقد أنه صار في مقدورنا أن نطوي هذه الصفحة اليوم من دون أن نمزقها، لكن البعض حاول أن يمحوها في وقت مبكر، وهذا ليس جديدا في مسار التاريخ القديم والحديث، إذ أن كل ثورة عظيمة ناجحة تركت بصماتها، إلا وجوبهت بثورة مضادة لتزييف الحقائق والوقائع، حتى لا تحتفظ برمزيتها كنموذج للآخرين، يستلهمون منها روح الكفاح والمقاومة، حدث هذا حتى مع ثورة الرسول الأعظم سيدنا محمد (ص)، حينما اندلعت أحداث الفتنة الكبرى.
عفوا.. هل تعتبر الخطاب الترويجي في هذه القضية، مزايدة سياسوية تلعب ورقة التاريخ في حسابات خاصة؟
صحيح لا أنكر ذلك، لأن جيل الحركى ربما انقرض بيولوجيا.
لكن ماذا عن الجيل الثاني والثالث من الحركى، ما المقاربة المثلى للتعامل مع هؤلاء، علما أنهم يتمايزون من حيث الانتماء والهوية والعلاقة بالماضي؟
أعتقد أن فرنسا هي التي تمارس الضغط في هذا الاتجاه، لكن للأسف الجزائر لم تقدم شيئا للجالية بشكل عام، فالإشكالية لا تتعلق فقط بمقاربة الحركى، بل بالسياسة الخارجية ككل، فهي قاصرة في ميدان التكفل واستقطاب الإطارات الجزائرية، وبالتالي لا يمكن الحديث في هذه النقطة بمعزل عن أداء الدبلوماسية في عمومها.
يعني من حيث المبدأ، أنت مع السماح لهؤلاء بالاندماج في الوطن، طبعا أقصد البُرآء من الفكر الحركي؟
ولما لا إذا كان ذلك في إطار إستراتيجية متكاملة وبرنامج شامل لاستيعاب الجالية، لأنه من غير مقبول أن نبقى قرنا من الزمن تحت تخدير الانفعالات العاطفية نرمي الجميع بتهمة الانتساب للحركى، دون أن نأخذ معطيات الواقع بعين الاعتبار.
ختاما، هل تعتقد أن قضية الحركى ما تزال ورقة ضغط وابتزاز لدى الطرف الفرنسي ضد الدولة الجزائرية؟
ما زالت ورقة وستبقى كذلك، وقد وفروا في سبيل ذلك جمعيات ومؤسسات ومنابر إعلامية وكتاب ونشطاء مدنيين للتحسيس بهذه القضية وتوريثها للأجيال، في المقابل لا نملك نحن شيئا وتركنا المبادرة للفرنسيين، وقد لاحظنا قبل سنتين حينما شارك علي هارون في نقاش عام بفرنسا حول الملف، أحضروا له فتاة ابنة حركي لا يتعدى عمرها 20 سنة لتجادل مجاهد ووزير وحقوقي في الثمانين من عمره، لتتحداه أمام الملايين على شاشة التلفزة، في حين رفض المؤرخ الكبير محمد حربي تلبية دعوتهم لأنه يعرف جيدا الواقع هناك.
وبالتالي فرنسا تسعى إلى توريث الفكر الحركي لدى الأجيال الجديدة من أبنائهم، وتحاول بكل وسعها غرس فكرة "المظلومية التاريخية" في نفوس الناشئة من خلال روايات القتل والتصفية والملاحقات التي تعرض لها آباؤهم وأجدادهم.
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي