يؤكد القرآن الكريم على ان الصراع مع بني إسرائيل (اليهود) لم يكن صراعا مرحليا أو جزئيا يقوم على الحق في جزء من الأرض أو جزء من الثروة بمعزل عن بقية الأراضي أو الثروات الأخرى، وإنما هو صراع مصيري بدأ ويستمر ليمر بمراحل عديدة من المواجهات والتطورات على ان مجمل هذا الامتداد المتواصل والمحتدم من الصراع يخضع ككل أمر عظيم في الوجود إلى الإرادة الإلهية والسنة الربوبية القائمة على انتصار الحق واندحار الباطل وإشراق الخير وأفول الشر سواء طال المدى وابتعد الزمان أو قصر واقترب.
ومن هنا نجد ان القرآن الكريم يشير في سورة الإسراء إلى (إفسادين) يقوم بهما اليهود حيث يترتب على هذين الإفسادين عقابان شديدان يلحقان بهم الأذى والعذاب فيما يصور ذلك القرآن الكريم بصور بلاغية يستشف منها اندحارهم أي اليهود عقب كل إفساد يتعاطون معه على يد أناس يصفهم تبارك وتعالى بأنهم (عباد لنا)، وبذلك يبدو هذا الصراع وهو يأخذ طابعا مصيريا عميق الأبعاد والدلالات وبعيدا كل البعد عن الحسابات العسكرية والسياسية التقليدية سواء كانت هذه الحسابات مجسدة بمعركة تقليدية تنتهي إلى نتائج وسطية أو كانت تتمثل بحلول سياسية تفاوضية كما هو حاصل اليوم في أروقة المؤتمرات التفاوضية بين العرب وإسرائيل.
يقول تعالى في سورة الإسراء: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا، فإذا جاء وعد أولهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد، فجاسوا خلال الديار، وكان وعدا مفعولا، ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا).
ويلاحظ ان الدور الشرير الذي يقوم به اليهود في صراعهم مع المسلمين هو دور على قدر كبير من السعة والخطورة كما تجده في الآية المباركة حيث يقترن إفسادهم مع الأرض كناية عن خطورة إضافة كما نستكشفه ايضا من خلال وصفه تعالى لعلوهم حيث يقول: (ولتعلن علوا كبيرا).
ويمكن ان نستدل على هذه المؤشرات عبر الحقائق الماثلة على الأرض سواء ما كان منها مدونا في صفحات التاريخ أو ما كان قائما اليوم نطالعه عبر ما يجري من أحداث ساخنة ما فتأت تتفاعل على أرض الواقع فقد عرف اليهود منذ عصور موغلة في التاريخ انهم يتصفون بصفات قبيحة وبذيئة من قبيل الطمع والجشع والانغلاق داخل بيئات صغيرة معزولة إضافة إلى مكرهم وغدرهم وقسوتهم وقتلهم للأنبياء كل هذه الصفات جعلت منهم خصما تقليديا للأمم والشعوب الأخرى ومصدرا للكثير من الإثارات والفتن الموجية لجعلهم مستهدفين على مدى مراحل معددة من التاريخ، ومع الأمة الإسلامية بالذات كانت مناوئتهم ومناصبتهم العداء لها معروفة ينقل وقائعها التاريخ عبر مشاهد الحقد والتآمر من قبلهم على الإسلام والمسلمين ففي المدينة قبل ان يصلها الرسول الأكرم (ص) بعد هجرته من مكة المكرمة كان اليهود يستغلون نفوذهم الاقتصادي وطرقهم في المكر والمكيدة للإيقاع بين قبائل يثرب من الأوس والخزرج حتى كثرت الحروب والفتن بين هاتين القبيلتين إلى حين قدوم الرسول (ص) فكان ذلك القدوم إيذانا بالأخوة والمحبة بينهما ونبذ العداوات والوقوف صفا واحدا في مواجهة مكائد اليهود ودسائسهم حتى تمكنوا بفضل الإسلام وقيادته (ص) ان يرغموهم على الخضوع للأمر الواقع والتسليم لسلطة الإسلام مرغمين طائعين بحد السيف وقوة العزيمة والإرادة، ومن هنا يقول المفسرون ان الإفساد الأول الوارد ضمن (الإفسادين) في سورة الإسراء هو ما فعلوه من فعل شنيع في المدينة وما حولها قبيل بعثة الرسول الاكرم (ص) حيث استطاع ومن بمعيته من المسلمين ان يزيلوا الإفساد الأول بعد الحاق الهزيمة بهم في أكثر من واقعة كان أهمها وأخطرها (خيبر) التي استطاع بها جيش المسلمين يتقدمهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) من كسر شوكة اليهود وإنزال الضربة القاصمة التي لم تقم لهم بعدها قائمة وان كانت الصفة اليهودية القديمة ذاتها الصفة القائمة على الحقد والغدر واقتناص الفرصة المناسبة للتنفيس عن تلك الأحقاد والضغائن، ولذا يرى أولئك المفسرون ان عبارة (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) الواردة في الآية المباركة إنما يتجسد بما عليه اليهود اليوم من سعة وتمكين في النفير والتأييد والأنصار والأعوان وما وصلوا إليه من قدرات ضخمة في العدة والعديد والقدرة على صناعة الأسلحة الفتاكة والمدمرة. غير ان كل هذا العطاء والقدرات الكبيرة يتوقف نفعها وبقائها من عدمه على طبيعة السلوك القائم على الإحسان والخير ونبذ الصفات البذيئة المعروفة عنهم فهل فعل اليهود ذلك؟
يقول تعالى في آية أخرى من نفس السورة المباركة: (ان أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وان أسأتم فلها، فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا، عسى ربكم ان يرحمكم، وان عدتم عدنا، وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) [الإسراء 7ـ8] ويقول عز من قائل: (وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا) [الإسراء 104].
مما تقدم نستطيع ان نقول ان المسلمين في صراعهم مع بني إسرائيل (اليهود) هو صراع خارج تماما من دائرة المجهول غير ان مثل هذه الحقيقة لا يستطيع المسلم ان يتعامل معها بقدر من التفاعل واليقين من غير النظر إليها عبر نافذة واسعة من الإيمان ومن خلال ذلك فقط يستطيع ان يؤسس لمشروع النصر القادم كبشارة سماوية حتمية الوقوع والتحقق، ولاشك ان مثل هذا الإنسان القادر على النظر عبر نافذة الإيمان إلى المستقبل المهيء دائما للتشكل وفقا للمشيئة الإلهية.. مثل هذا الإنسان قادر على التسلح بالأسباب الحقيقية والوسائل المطلوبة حتى ينسجم تماما مع السنة الإلهية القاضية بإحقاق الحق وإبطال الباطل وفقا لما يرد في سورة الإسراء المباركة.
برهان الشهابي
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي