السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
قال تعالى :{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ }البقرة93
ونقف عند قوله تعالى وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ لنرى مافي هذا المقطع من إعجاز ودقة التعبير وروعة البيان.
قال قتادة أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم، وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس وَهَذَا تَشْبِيه وَمَجَاز عِبَارَة عَنْ تَمَكُّن أَمْر الْعِجْل فِي قُلُوبهمْ فتداخلهم حبه ورسخ في قلوبهم صورته ، لفرط شغفهم به ، كما يتداخل الصبغ الثوب ، والشراب أعماق البدن . وفي قلوبهم : بيان لمكان الإشراب كقوله تعالى : { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً }(1) { بِكُفْرِهِمْ } بسبب كفرهم وذلك لأنهم كانوا مجسمة ، أو حلولية ولم يروا جسماً أعجب منه ، فتمكن في قلوبهم ما سول لهم السامري
.
وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ حُبّ الْعِجْل بِالشُّرْبِ دُون الْأَكْل لِأَنَّ شُرْب الْمَاء يَتَغَلْغَل فِي الْأَعْضَاء حَتَّى يَصِل إِلَى بَاطِنهَا , وَالطَّعَام مُجَاوِر لَهَا غَيْر مُتَغَلْغِل فِيهَا .(2)
والصورة التي يصورها القرآن في هذا المقطع القرآني: { وأشربوا في قلوبهم العجل } هي صورة فريدة. لقد أشربوا . أشربوا بفعل فاعل سواهم . أشربوا ماذا؟ أشربوا العجل! وأين أشربوه؟ أشربوه في قلوبهم! ويظل الخيال يتمثل تلك المحاولة العنيفة الغليظة ، وتلك الصورة الساخرة الهازئة : صورة العجل يدخل في القلوب إدخالاً ، ويحشر فيها حشراً ، حتى ليكاد ينسى المعنى الذهني الذي جاءت هذه الصورة المجسمة لتؤديه ، وهو حبهم الشديد لعبادة العجل ، حتى لكأنهم أشربوه إشراباً في القلوب! هنا تبدو قيمة التعبير القرآني المصور.(3)
و شغف بني إسرائيل بالعجل وتقديسهم له أدى بهم أنه كان لا يخلو عند اليهود معبد ملكي من وجوده فيه أو وجود صورته فيه وقد أشار إلى ذلك في سفر الملوك عدد 25-31 في قوله :
( وبنى بريعام شكيم في جبل أفرايم وسكن بها ... فاستشار الملك وعمل عجلي ذهب وقال لهم : كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم هوذا يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر. ووضع واحدا في بيت إيل وحعل الآخر في دان)(4)
وقال المؤرخ العالمي ول ديورانت :أن بني إسرائيل لم يتخلوا قط عن عبادة العجل والكبش والحمل ولم يستطع موسى عليه السلام أن يمنعهم من عبادة العجل الذهبي لأن عبادة العجول كانت لا تزال حية في ذاكرتهم منذ أن كانوا في مصر وظلوا زمنا طويلا يتخذون هذا الحيوان القوي آكل العيب رمزا لآلهتهم . وتقرر التوراة قصة العجل الذي عمله لهم هارون حاشاه الله عما يقولون وقاتلهم الله آنا يؤفكون فعبدوه بعد أن تأخر موسى عليه السلام في العودة إليهم وكيف خلعوا ملابسهم وأخذوا يرقصون عراة أمام الرب وقد أعدم موسى ثلاثة ألاف منهم عقابا لهم على عبادة هذا الوثن وقد بقيت عبادة العجل تجدد في حياة بني إسرائيل من حين إلى حين فقد عمل يربعام –أحد أبناء سليمان عليه السلام كما في التوراة- عجلي ذهب ليعبدهما أتباعه حتى لا يحتاجوا إلى الذهاب إلى الهيكل وقد عبد أهاب ملك إسرائيل الأبقار بعد سليمان بقرن واحد (5)
ولا يزال حتى وقتنا الحالي للعجل المكانة السامية والدرجة العالية في قلوب بني إسرائيل ومن هنا نعلم دقة التعبير القرآني حين وصفهم : { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } وأن هذا القرآن لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ .
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي