ما معنى الموسيقى من دون الجاز، وأي قيمة للجاز بلا الساكسوفون؟"، بهذه الجملة تحاول مدينة دينانت (Dinant) البلجيكية استنطاق احد عباقرة الموسيقى العالمية، ادولف ساكس، الذي ولد فيها عام 1814، واخترع آلة الساكسوفون واعطاها اسمه. لم يقل ساكس هذه الجملة، بيد أن المُطّلع على حياته، لا بد ان يدرك انها جملة تجسد رؤية المخترع الشهير.
وتتذكر مدينة دينانت ابنها، لتنوب عنه وتقول انه لو كان يراقب العالم الآن من على غيمة، والى جانبه كل من شارلي باركر وجون كولترين (من اشهر عازفي الساكسوفون في العالم)، لكانت هذه الجملة اول ما سيخطر على باله. كثيرون لا يعرفون ان ساكس ولد واخترع آلته في مدينته دينانت، حيث كان والده صانع آلات موسيقية، وكثيرون ايضاً لا يربطون بين المدينة الشهيرة بصناعة النحاس، التي منه اتى اسمها، وبين الآلات الموسيقية النحاسية.
هذا «الجهل» هو حسرة المدينة، فهؤلاء الكثيرون ليس مقصوداً بهم سكان العالم... بل سكان بلجيكا أنفسهم. قبل اعلان العملة الاوروبية الموحدة عام 1999، كان البلجيكيون يصادفون صورة ادولف ساكس يومياً، على اوراق عملتهم المحلية من فئة 200 فرنك، أما اليوم فلا تحمل أوراق اليورو الا شواهد الهندسة المعمارية التي ميزت تاريخ اوروبا. ولا يبدو ان ملازمة صورة الموسيقي الشهير، لأوراق العملة المحلية، تركت ذكريات قوية لدى البلجيكيين عن صاحبها، او كانت محرضاً لهم لمعرفة تاريخه وعلاقته بهم.
بلجيكيون لا يعرفون ان ادولف ساكس بلجيكي، وحسرة دينانت ان كثيرين منهم لا يعرفونها بصفتها مسقط رأسه. ومنذ سنوات تحاول المدينة تجاوز هذه الثغرة، والعمل على ربط اسم ساكس بها مجدداً لكسب شهرة عالمية بمعية شهرته وآلته. ولذلك أسست المدينة «المؤسسة العالمية لأدولف ساكس» التي بدأت عملها بعد احتفال دينانت عام 1990 بمرور 150 سنة على اختراع آلة الساكسوفون، والاحتفال عام 1994 بالذكرى المئوية لولادة ادولف ساكس.
لكن هذين الاحتفالين بقيا محليي الصبغة. فلم يشمل الاحتفال معظم المدن البلجيكية، واقتصاره على دينانت، فوت فرصة كبيرة لتكريس اسمها، على المستوى الوطني. وتشتهر دينانت أيضاً بقلعتها التاريخية من القرن الثاني عشر، التي تتيح اطلالة ساحرة على المدينة، وعلى نهر الماس الذي يخترقها وينثر جمالاً خاصاً في طبيعتها الفاتنة. والقلعة التي شهدت بعض فصول الحرب العالمية الثانية، استثمرتها المدينة عل احسن وجه.
فأقامت «تلفريكاً» من النهر الى أعلاها، وأعادت بناء خندق حربي داخلها، يشعر الداخل اليه بفقد السيطرة واختلال الجاذبية بينما يعبر ممراته. فالممرات تميل على المستوى الافقي بزاوية تصل الى 60 درجة، وتحوي دينانت على العديد من القصور القديمة المنتشرة على اطراف النهر. وفيها ايضاً «المغارة الرائعة» كما تسمى حرفياً، التي تحوي الكثير من الصواعد والنوازل المجاورة لمجارٍ مائية داخلها.
وعلى رغم ذلك، تدرك دينانت ان تكريسها كمدينة للساكسوفون ومخترعه هو امر كفيل بشهرة اوسع واكثر خصوصية، لذلك تعمل «مؤسسة ادولف ساكس العالمية» على تنظيم نشاطات وتظاهرات دورية متخصصة كمسابقة ادولف ساكس للعزف كل اربع سنوات. وتنظم المؤسسة اجتماعاً كل اربع سنوات ايضاً لعازفي الساكسوفون من انحاء العالم، وفي عام 2002 اجتمع فيها 1312 عازفاً، اطلقت المؤســسة أخــيراً مهرجان «دينانت جاز نايت».
كل هذا السعي يأتي بعد ادراك مدى اهمية ادولف ساكس للمدينة. صار بيته فيها متحفاً شخصياً، وفي الشوارع تنتشر آلات الساكسوفون على شكل زينة كهربائية تضيء الشوارع، ومنذ سنوات اقيمت ساحة خاصة فيها مجسم لساكسوفون نحاسي كبير. ومن وحي اسطورة الرجل الشهير تورد المدينة في كتيباتها السياحية كيف ان ساكس كان «الطفل المشاكس» الذي سقط، حالما استطاع المشي، من علو ثلاثة طوابق «وارتطم رأسه بحجر» ونجا، واحترق مرتين وتسممم ثلاث مرات، وشفي من سرطان الشفة. هذا اسلوب المدينة في السرد، لكن جزء منه يذهب الى الوقائع ليكرس الاسطورة.
اخترع ادولف الساكسوفون بعد انكار ومؤامرات من موسيقيين معاصرين. طور وعدّل بداية الكلارنيت، وتحدى بآلته عازفاً شهيراً، قلل من شأنها، امام 40 الف شخص وفاز بالمنافسة ليصير عازف صولو. كتبوا له معزوفات لكلارنيته الخاص، وعندما ترك العزف «لم يستطع احد اداء تلك المعزوفات لصعوبتها". عندما اخترع اول آلة ساكسوفون، لم يستطع عرضها في معرض بروكسل الموسيقي، عام 1841.
وقتها لم يكن ساكس استحصل بعد على براءة الاختراع لآلته، لذلك اكتفى بالعزف عليها من خلف ستارة، ولم يتمكن الجمهور من رؤية تلك الآلة. اقام ساكس مصنعاً للآلات الموسيقية في باريس، واداره حتى وفاته (1894) . افلسته الثورة الفرنسية التي الغت اعتماد اوركسترا الجيش على آلاته النحاسية، وعادت الى التقليدية الخشبية. بهذه الطريقة، التي تقارب الفانتازيا، تقدم دينانت ابنها ساكس.
وبمشاركة وتمويل شركة «هنري سلمر» الفرنسية تقيم مؤسستها العالمية تظاهرات الساكسوفون العديدة. الشركة الفرنسية كانت اشترت شركة «ساكس» عام 1928، وهي تمول على شرط الدعاية الدائمة للآلات التي تصنعها الآن.