كيف نكون داخل العصر لا على هامشه، وعلاقتنا هشة بـ«ثورة المعلومات» ونجهل ماهية «الذكاء الاصطناعي»، ولا ندرك «علم الجينات» وابعد ما نكون عن «غزو الفضاء» و«اقتصاد السوق» و«ليبرالية الاتصالات» او «تكنولوجيا الليزر» او اسرار «علم الضوء»؟ ما معنى ان نبقى نتحدث عن الحداثة ونحن لا نملك ادواتها العلمية والتطبيقية؟ وهل الحداثة هي محض شِعر وملبس عصري وأكل بالشوكة والسكين.
نجاح كاظم، باحث عربي متخصص في «الالكترونيات الدقيقة» ويمارس مهنته في احدى الجامعات البريطانية وقد وضع كتاباً اسماه «العرب وعصر العولمة، المعلومات: البعد الخامس» (صدر مؤخراً عن المركز الثقافي العربي) يحاول من خلاله ان يقدم اجابات مغايرة على اسئلة تقليدية وأخرى جديدة.
فمثلاً لماذا استطاع العرب في العصر العباسي ان يطوروا الساعة، وهو انجاز هائل، لكنهم فشلوا في استثمار هذا الانجاز؟ وكان لا بد من انتظار بزوغ الثورة الصناعية الاولى في اوروبا، كي تصبح الساعة اداة لتنظيم ايقاع الحياة والحركة. فقبل العصر الصناعي لم يكن الانسان ينظر الى الساعة فور ان يفتح عينيه او قبل ان ينام، او عند خروجه من العمل او ذهابه اليه. وبالتالي فإن الساعة بحد ذاتها، كآلة، لم يكن من قيمة كبيرة لها قبل ان توظف وتصبح مؤثرة وفاعلة في السلوك الانساني.
ومثل الساعة عاش الالكترون، مجهول الاهمية لعقود عديدة. فقد كتب مكتشفه جي.جي. تومسون: «ان هذا الالكترون لا يجد احد اي استعمال له». وعند وفاة تومسون في 30 آب (اغسطس) 1940، ودفنه في اسقفيه «وستمنستر» بالقرب من مقبرتي داروين ونيوتن، كان احد لا يتصور ان استغلال الالكترون سيحدث، يوماً، انقلاباً على الارض، لم تشهد له البشرية مثيلاً من قبل.
وبحسب نجاح كاظم فإن اديسون، مكتشف المصباح الكهربائي في العام 1879 هو من المؤسسين لنظام التطوير الكامل الذي لا يتوقف عند الاكتفاء بالفكرة وانما يطورها وصولاً الى مرحلة التصنيع ومن ثم البيع والتسويق. وعلى غرار إديسون اشتغل فورد وفق ما يسمى «التقنية الشاملة»، ليبلغ بفكرته التي عممها مستوى مؤسسة ضخمة تعتبر الى اليوم النواة الاولى لما سيعرف في ما بعد بالشركات العابرة للقارات.
بهذا المعنى فإن الاهمية لا تتوقف على مراكمة الاكتشافات والاختراعات وكفى، وانما الاهم هو تمفصل الاكتشافات مع قدرة ديناميكية وذكية توظفها في تغيير الحركية السلوكية للانسان. والعمل بهذه القاعدة كان قد بدأ في العصر الصناعي حيث تمكن الغرب من الوصول الى حالة من الانتاج الواسع والكثيف لبضائع متطابقة ومتماثلة. اما وقد اصبحت المعلومات ومعها الذكاء جزءين اساسيين من عملية الانتاج فقد صار بالامكان زيادة كمية المنتجات عما كانت عليه، هذا من ناحية، مع اضافة مهمة وهي التنويع فيه وادخال تعديلات مستمرة عليه دون كبير كلفة، من ناحية ثانية.
إذن قضية التطور التي وصلت بنا الى ما نسميه «العولمة»، هي عملية مركبة من مفصلين اساسيين: وهما الكشف واستغلال الكشف، وكلاهما مركبان على منطلق واحد هو الفكر.
كعرب، نكتشف اليوم، وبقراءة كتاب نجاح كاظم، أن واحدة من نقائص عصرنا الذهبي هو وقوفه عند حدود النتيجة العلمية دون امتصاص رحيقها بتوظيفها وتعميم فوائدها. ولكن، وقد غادرتنا مهارة البحث والاكتشاف، هل نحن قادرون، بالحد الادنى، على توظيف اختراعات الآخرين والاستفادة منها؟
الكاتب يضرب اكثر من مثل، ولعل اجدرها بالذكر هي الانترنت التي تعاني، عربياً، عوائق يصعب حصرها. فإضافة الى الاوضاع الاقتصادية المتردية التي تحول دون شراء اجهزة الكومبيوتر او دفع قيمة الاشتراكات في الشبكة، فإن العديد من الحكومات العربية ما تزال تضرب حصاراً سياسياً ومخابراتياً على خدمات يفترض ان تفتح امامها الطريق. فالاحساس بالخطر الامني والاخلاقي والقيمي يفرمل اداة هي جوهر الانتماء الى العصر، وبحسب كاظم فإن ممارسات حظر بعض المواقع ومراقبة مواقع اخرى والتجسس على المراسلات وابحار المستخدمين في الانترنت يكاد يكون من التقليديات الرسمية العربية. وهنا يطرح سؤال آخر كيف يمكن ان تتزاوج ديكتاتورية الانظمة العربية مع ليبرالية الاتصال والانفتاح العالميين؟
ان عموم الاعمدة الاساسية لقيام حياة ذات ارضية تتوازن مع العصر هي في حالة ارتجاج قصوى عربياً. فالكهرباء وضعها يتدهور في بلدان عربية كثيرة. والاتصالات الهاتفية التي هي عصب وروح العصر ما تزال متردية ومرتفعة الكلفة اضف الى ذلك سوء شبكة الربط البرية بين الاقطار العربية وما يشبه الشلل في الاستفادة من التقنيات الزراعية الحديثة واللائحة تطول. فمسألة التخلف لا تتوقف عند السؤال عن سبب عقم البحث والاكتشاف وانما الالحاح على معرفة سر رفض استغلال واستثمار ما هو موجود ومطروح.
فبلد مثل الهند استطاع ان يقوم بجهود علمية جبارة ومتميزة، ولها خصوصيتها عن تلك التي تقوم بها الولايات المتحدة الاميركية. وستصبح الهند بحسب التوقعات، وفي القريب العاجل، ثاني دولة في تكنولوجيا الفضاء.
ومن المواضيع الشديدة الاهمية التي يثيرها الكتاب، والتي لا يعيرها العالم العربي كبير اهتمام، هي ادراك المستجد على مفهوم التعليم، بعد ان انقلبت اسسه التقليدية رأساً على عقب. فالتقسيم الطبقي لم يعد في المجتمع الحديث بين رأس المال والعمل، وانما بين المهارات العالية وافراد المجتمع غير الماهرين ،لان النشاط الذهني بمقدراته المعلوماتية هو اساس الانتاج وليس رأس المال كما كان الحال لعهود طويلة غابرة. واذا كان الكتاب يركز على محاولة تحديد ملامح العصر الجديد الذي ما تزال خطوطه العريضة اقرب الى الغموض، فهو يحاول ان يشرح لنا بأن كل شيء بات عرضة للنسف والانقلاب عليه، بما في ذلك الزمن، ولذلك فإن رب العمل لم يعد يعنيه من العامل لديه كمّ خبراته السابقة وانما مدى قدرته على الولوج في المستقبل. والسبب بكل بساطة، ان الماضي سيكون مختلفاً تماماً عن الآتي.
العرب وعصر العولمة، المعلومات: «البعد الخامس»
* المؤلف: نجاح كاظم
* الناشر : المركز الثقافي العربي
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي