إبراهيم البليهي
إن المعرفة العلمية الممحَّصة عنصر طارئ على الثقافات البشرية وهو عنصر لم تعرفه الحضارات القديمة لذلك ظل هذا العنصر غريباً على العقل البشري حتى في هذا العصر الزاخر بالعلوم والطافح بتدفق المعلومات فرغم تعميم التعليم وانتشار المدارس والمعاهد والجامعات في كل أقطار الأرض فإن العقل العلمي ما زال ضيّق الانتشار ومحدود التأثير .
؟ قانون التزاوج هو قانون كوني عام فلا إنجاب ولا تكاثر إلا بالتزاوج وليس توالد الأفكار استثناء من هذا القانون العام فالتزاوج هو الشرط المبدئي لاستمرار الحياة وتكاثر الأحياء وهو الضابط لحركة الأجسام والكواكب والذرات وهو الفاعل لنمو العلوم والفنون والمهارات وهو العامل المحرك لازدهار الحضارة وتقدم الإنسانية فالتجاذب والتنافر والإيجاب والسلب والذكورة والأنوثة والصراع بين الأفكار المختلفة والمتعارضة ليست سوى العناوين الرئيسية لتجليات هذا القانون الكوني الشامل وليس توالد الأفكار استثناء من هذا القانون العجيب ولكنه أشدها خفاء وأكثرها أهمية فلا اتساع لآفاق الإنسانية ولا تطور للعلوم والتقنيات ولا ازدهار للفنون والصناعات ولا ارتقاء للإدارة والسياسة ولا نماء للثروات والموارد ولا تقدم للحضارة والثقافات ولا استثارة لقابليات الإنسان الابداعية على مستوى الأفراد والجماعات إلا بتزاوج الأفكار الذي هو شرط التوالد والتكاثر والامتزاج لكننا نحن العرب مازلنا نمقت الرأي الآخر ونحارب الفكر المختلف ونحاصر الاجتهاد المتفتح ونفرض الاجماع على الجميع ولا نعترف بحق الاختلاف أيا كان نوعه أو مستواه مما أصاب تفكيرنا بالعقم وأداءنا بالكلال…
وبينما هذه حالنا نحن العرب في القرن الحادي والعشرين رغم تدفق المعلومات والأفكار التي انتجها وينتجها المزدهرون ثقافياً فإن الإغريق منذ القرن السادس قبل الميلاد قد توصلوا إلى ان المعرفة البشرية لا تخرج من كهف المألوف فتنمو وتزدهر وتتخفف من الأخطاء المتراكمة والأوهام المعيقة والأهواء المستشرية والمسلّمات الخاطئة إلا بالمواجهة الساخنة والدائمة بين الأفكار والآراء والمواقف والاتجاهات المختلفة..
ان المعرفة البشرية محكومة بقانون القصور الذاتي (العطالة) ولا يخلصها من أسر هذا القانون سوى الأخذ بمبدأ كوني آخر وهو قانون التزاوج الذي يتأسس على التقاء الضدين لينتج عنهما مولود جديد يأخذ منهما معاً ولا ينفرد طرف واحد بتكوينه إن الثقافات الموروثة التي تكوَّنت خلال مئات السنين وامتزجت عاطفياً بمن ينشأون عليها محكومة بقانون العطالة ولا يمكن أن تعلو على ذاتها أي انها لا يمكن أن تتحرك وتتغير ذاتياً وإنما لابد من وجود مُحرك من خارجها يدفعها نحو التغير والنمو والازدهار وإلا بقيت كما هي آلاف السنين..
ان كل الثقافات تكونت قبل ظهور العلوم ولقد كشفت العلوم الإنسانية وخصوصاً الانثروبولوجيا الثقافية أن الأمم خلال التاريخ الإنساني الطويل تتمايز تمايزات شديدة في تنوع ثقافاتها وأن هذه الثقافات تكونت تلقائياً وليس نتيجة بحوث علمية منهجية فهي زاخرة بالجهالات وبذلك يصح القول بأن الأمم المحصورة بالموروث تتمايز في تنوع جهالاتها وليس في تنوع علومها ومعارفها الممحصة وانها جميعاً تعيش جهلاً مزدوجاً فهي تجهل ولا تعرف انها تجهل فتغتبط بجهلها وتدافع عنه وتبقى مصرة عليه وترفض نقده وتستنكف من مقارنته بغيره فهو مصدر فخرها وهو لب تاريخها فلا يخطر على بالها أن تنتقده أو تعيد النظر فيه وإنما تتباهى به وبهذا يصمد هذا الجهل المركب قروناً متتالية دون أي تغيير إلا نحو الأسوأ حيث مع الانغلاق الثقافي يضيف كل جيل مزيداً من الجهالات بدلاً من أن يضيف مزيداً من المعارف فغبطة الأمم بما ورثته عن أسلافها وإعجابها به وتقديسها له تحميه من النقد وتحصِّنه من المراجعة وتبقيه مهيمناً على عقول الناس ومسيِّراً لحياتهم من غير أن يفطنوا لطبيعة تكوينه التي تتنافى مع أبسط شروط التحقق العلمي وبالمقابل فإن تقديس الموروث يقابله تحقير لثقافات الآخرين وتقليل من أهمية منجزاتهم مهما عظُمت فإذا تخدرت العقول بالتقديس للسائد والتنفير من الوافد فإن النتائج تكون كارثية على عقل الفرد والمجتمع فليس أسوأ ولا أضر من الانغل
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي