توصّل شارل بوني مؤخرا إلى نفض الغبار عن مدينة إفريقية تحت أنقاض المعابِد المصرية في "دوكي جيل" شمال السودان، تحمل بصمات مدنية انقرضت، وخلفت وراءها قصورا بنمطها الإفريقي، وتوحي بأن ممالك إفريقية كانت تتحالف مع "مملكة كرمة" لمواجهة التوسع الفرعوني المصري.
مرة أخرى، يُضيف عالم الآثار السويسري الذي قضى نحو نصف قرن في التنقيب عن الآثار في الأراضي السودانية، إنجازا جديدا الى قائمة إنجازاته العلمية والتاريخية. وبعد اكتشافه لتماثيل الفراعنة السود في شمال السودان في عام 2003 وإقامته الدليل على تواجد حضارة نوبية أنجبت فراعنة حكموا مصر والسودان، يُحاول اليوم كشف النقاب عن بُعد إفريقي لحضارة مدنية لا زالت معالمها مجهولة حتى اليوم.
وفي لقاء أجرته swissinfo.ch معه في جنيف صيف هذا العام، استعرض شارل بوني الذي يحتفل هذا العام بعيد ميلاده الثمانين بعض تفاصيل هذه الإكتشافات التي يسهر على متابعتها وتحليلها فريق سويسري بالتعاون مع مجموعة من الباحثين الفرنسيين والسلطات السودانية.
swissinfo.ch: منذ التحقيق الميداني الذي قمنا به حول نشاطك العلمي في شمال السودان سنة 2008، هل من جديد في أبحاثك وأعمال التنقيب؟
شارل بوني: لا شك أنكم تتذكرون ما قلته لكم في حينها، بأن ما يجلب اهتمامي في هذه القضية، هو اكتشاف العلاقة التي كانت قائمة آنذاك بين النفوذ المصري الممتد الأطراف والقارة السمراء. فمصر استطاعت أن تسوّق لانتصاراتها الشخصية ولعظمتها ونفوذها، ولكن لم نحصل من الطرف المقابل على أي شهادات لتوضيح النظرة التاريخية، إذ لا توجد أية نصوص ولم يتم القيام بأية أبحاث أثرية أو دراسات على الإطلاق بخصوص هذه الحِقب التاريخية المُوغلة في القدم.
فاكتشاف تماثيل الفراعنة السود كان في حد ذاته لحظة تاريخية خارقة للعادة في تاريخ بعثتنا، نظرا لأن ذلك سمح لنا بإعادة النظر في ما كان يُوصف به سكان هذه المنطقة، الذين كان يُنظر لهم على أنهم همجيون وأقل ذكاء من الفراعنة، وأنهم غير قادرين على تطوير نظام دولة متطورة.
فقد حاولتُ خلال الفترة الأولى من عملي أن أثبت بأنه كانت هناك في مدينة كرمة دولة متطورة حاولت الوقوف في وجه فراعنة مصر. ولكن لم تكن لدي أي إثباتات بخصوص العلاقة القائمة بين مملكة كرمة وباقي القارة الإفريقية، بل كان يسود الإعتقاد أن هذه المملكة كانت متأثرة بالحضارة الفرعونية المصرية وأنه لم يكن هناك شيء يُذكر من الجانب الافريقي، مثلما تشير إلى ذلك النصوص الفرعونية التشويهية.
لذلك شرعنا في العمل في مدينة قريبة من مدينة كرمة، وهي مدينة "دوكي جيل" التي تبعد عنها بحوالي كيلو متر واحد، حيث عثرنا على بقايا معابد مصرية للعائلات الفرعونية الأخيرة، وبالأخص من السلالة الخامسة والعشرين التي حكم فيها فراعنة من السودان كلا من مصر والسودان. وكان اكتشاف هذا المخبأ للتماثيل الذي يعود الى حوالي 600 عام قبل الميلاد، بمثابة الحلقة المفقودة في هذا البحث عن العلاقة القائمة بين مصر الفراعنة ومنطقة النوبة في شمال السودان. عندها، اعتبرتُ أن مدينة كرمة التى أسست في حدود 2500 قبل الميلاد، تكون قد بدأت في الإضمحلال في هذه الفترة، وأن مدينة "دوكي جيل" القريبة هي التي حلت محلها، بحيث عثرنا فيها على معابد مصرية.
لكن تعمّقنا في التنقيب منذ عامين ونصف تقريبا، سمح لنا بأن نكتشف أنه تُوجد تحت أنقاض المعابد الفرعونية مدينة أكثر قدما، بمعالمها الكاملة وبهندستها المعمارية غير المألوفة وبمبانيها الدائرية أو البيضاوية واسوارها الإرتكازية القوية وساحاتها. وهي هندسة معمارية تختلف كلية عما جاء به الفراعنة من بعد من هندسة على شكل مربعات أو مستطيلات. وما نعمل على توضيحه منذ عامين هو الفصل بين بقايا النمطين المعماريين والذي يعود إلى فترة 1500 قبل الميلاد.
تبعا لذلك، أعتقد أن مدينة كرمة كانت هي العاصمة بكل ما تحتوي عليه من قصر ملكي وغيره، وأن مدينة دوكي جيل كانت بمثابة مدينة مراسيم وطقوس. ومع التقدم في اكتشاف عظمة المباني التي كانت قائمة في هذه المدينة، توصلنا إلى قناعة بأنها كانت مقصدا لمبعوثي ممالك إفريقية، وأنها كانت بمثابة حلقة الربط بين إفريقيا ومصر الفرعونية، ومن ثم إلى البحر الأبيض المتوسط وباقي العالم.
على مستوى أعمال التنقيب، ما الذي اكتشفتموه من معالم جديدة؟
شارل بوني: لقد اشتغلنا خلال الموسم الشتوي لعام 2013 في التنقيب عن مبنى ضخم يمتد لحوالي 55 مترا طولا و50 مترا عرضا، مرتكز على حوالي 1000 عمود، وقد اكتشفنا منها 350 لحد الآن. هذه الأعمدة تقود نحو كرسي العرش الذي حددنا مكانه بالضبط.
وما اكتشفناه في الواقع هو عبارة عن قصر إفريقي، ولو أننا لم نعثر على نصوص تؤكد لنا ذلك. لكن بالإعتماد على المعطيات المعمارية، اكتشفنا بأن هناك ثمانية مباني من هذا النوع حول المدينة، وقد يكون العدد أكثر. وأنها كانت بمثابة قصور إقامة لملوك افريقيا عندما يأتون لمقابلة ملك كرمة لتوحيد قواتهم وخلق تحالف في مواجهة الجيوش المصرية. وهذه القصة لم تصلنا من قبل لأن المصريين كانوا دوما يركزون على انتصاراتهم.
لكن ما نكتشفه اليوم هو أن قوة إفريقية متحالفة وقوية، كانت تحاول الوقوف في وجه المصريين. واكتشاف ذلك اليوم إلى جانب اكتشاف هندسة معمارية افريقية، تعتبر النمط الأصلي لما هو معروف اليوم من هندسة معمارية افريقية، سيسمح لنا بفهم طريقة تنظيم هذه المدن، ويشجعنا على مواصلة التنقيب.
هذا الإكتشاف، هل هو الأول من نوعه على مستوى القارة الإفريقية؟
شارل بوني: هو اكتشاف فريد من نوعه، لأنها المرة الأولى التي نعثر فيها على قصور من هذا الطراز. ومع أنها عبارة عن مبان (مشيدة) من الطين، فسنحاول دراسة أسلوبها المعماري وطريقة تنظيمها، بأسوارها التي يبلغ عرضها ما بين 3 و4 أمتار وبأبوابها الدائرية الضخمة. وهذا يمثل أمرا بالغ الأهمية بالنسبة للأفارقة، إذ أننا نكتشف اسلوبا معماريا عاد للظهور من جديد بعد 4000 سنة، أي في القرنين الثامن والتاسع عشر.
وما اكتشفناه أثناء أعمال التنقيب في شتاء هذا العام، هو أن القصر الذي نحن بصدد التنقيب عنه، يوجد شبيه له في كامبالا بأوغندا يتوسطه كرسي العرش، مرورا بمئات الأعمدة التي كانت تشكل ما يُسمى بـ "الغابة المقدسة". وهو المكان الذي كان يُمنع على الملك الدخول إليه قبل مائتي (200) عام، بينما يُرخّص لنسائه بذلك. وعلينا تحليل وفهم خصوصيات هذين النموذجين المتشابهين اللذان يفصل بينهما فارق زمني يزيد عن 3000 سنة.
هل ستستمر أعمال التنقيب في السودان بفريق سويسري محض أم يُوجد تعاون مع مجموعات أخرى؟
شارل بوني: نظرا لضخامة ورشة التنقيب، سيتم ابتداء من هذا العام الإعتماد على فريق مشترك يضم قسم الآثار بحكومة السودان وجامعة السوربون ووزارة الخارجية الفرنسية وسويسرا. وبما أنني في سن متقدم، فإنني وقعت معهم لمدة ثلاث سنوات سنرى بعدها ما يجب القيام به. وتدعم سويسرا هذه البعثة ماليا عبر صندوق البحث العلمي بحوالي 100 الف فرنك سنويا. والى جانب هذه الورشة، هناك فريق سويسري سيواصل التنقيب في الحقب القديمة بقيادة عالم الآثار ماتيو هونيغر.
اليوم، نحن في بداية هذا العمل الذي يهدف لتحديد معالم بناية ضخمة والتعرف على خصوصياتها. والعمل على اكتشاف ما أسميه بـ "الحقيقة التاريخية المضادة"، أي ما كان يتم من جهة قوى الجنوب في مواجهة الفراعنة المصريين (مملكة كرمة ومملكة بونتي على البحر الأحمر وممالك دارفور)، وهذا ليس الهدف منه التقليل من أهمية ما كان يحصل في مصر، بل للتوضيح بأنه كانت هناك في هذه الفترة الإنتقالية محاولات توحيد من قبل الممالك الإفريقية لمواجهة هذا التوسع المصري. وهو ما يُعتبر أمرا "خارقا للعادة" من منظور تاريخي.
ْ
________*التــَّـوْقـْـيـعُ*_________
لا أحد يظن أن العظماء تعساء إلا العظماء أنفسهم. إدوارد ينج: شاعر إنجليزي